الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا

          ░63▒ (بَابُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ): أي: المفروضةِ؛ أي: جوازُ أخذ الإمامِ لها (مِنَ الأَغْنِيَاءِ): أي: الذين تلزمهم الزَّكاة بأن يبعثَ السُّعاة لأخذها منهم من الأموالِ الظَّاهرة كالمواشِي والزُّروع، وليسَ له أن يجبرَهم على دفعها لهم من الأموالِ الباطنة كالنُّقودِ، نعم، يأمُرُهم بإخراجها إنْ ظنَّ منهم عدمهُ (وَتُرَدَّ): اقتصرَ العيني على نصبه.
          قال القسطلانيُّ: وهو الذي في ((اليونينية)) واقتصر في فرع ((اليونينية)) وغيره على / رفعه، وهو الموجودُ في الأصولِ المعتمدةِ.
          وجوَّزَ شيخُ الإسلامِ الوجهين حيث قال: برفع ((تُرد)) وبنصبه بتقدير أن مؤولاً بمصدر معطوفٍ على ((أخذ)) أي: باب أخذِ الزَّكاةِ من الأغنياءِ وردها.
          (في الْفُقَرَاءِ): وفي بعضِ الأصولِ: <على> بدل: في (حَيْثُ كَانُوا): ظاهرُ قوله: ((حيث كانوا)) أن المصنِّفَ يرى جوازَ نقلِ الزكاة من بلدِ المال وإنْ كان فيها فقراءُ إلى فقراءِ غيرها، والمرادُ: مطلق المستحقِّين من الأصنافِ الثَّمانية، لكن عبَّر بالفقراء تبعاً للحديثِ؛ لأنَّهم أكثرُ الأصنافِ وجوداً.
          وقال الكرمانيُّ: الظَّاهرُ أنَّ غرضَ البخاريِّ بيانُ الامتناع؛ أي: يردُّ على فقراءِ أولئك الأغنياء في موضعٍ وُجِد لهم الفقراء، وإلا جازَ النَّقلُ، ويحتملُ أنَّ غرضَهُ عكسه.
          واعترضهُ العينيُّ: بأنَّه ليس الظَّاهرُ ما قاله، فإنَّه قال: تُردُّ في الفقراءِ حيث كانوا في موضِعٍ كان فيه الأغنياءُ أو في غيره، بل الظَّاهرُ العكسُ. انتهى.
          وأقول: أصلُ ما قاله الكرمانيُّ للإسماعيلي، وأمَّا التفسير فللكرمانيِّ كما نقله عنه البرماوي، وإلى ذلك قد يشيرُ قوله: أي: يرد...إلخ.
          وقال في ((الفتح)): ولا يبعدُ أنَّه اختيارُ البُخاري؛ لأنَّ قوله: ((حيث كانوا)) يشعرُ بأنه لا ينقلها عن بلدٍ وفيه مَن هو بصفةِ الاستحقاقِ، والحقُّ: أنَّ ظاهرَ الترجمة عمُوم الفقراءِ من أيِّ بلدةٍ، فيجوز النَّقلُ عند البُخاري كما قدمنا، وعليه جرى ابن المنير فإنَّه قال: اختار البخاريُّ جوازَ نقلِ الزكاة من بلد المالِ لعموم قوله: ((فتردُّ على فقرائهِم)) لأنَّ الضَّميرَ يعودُ على المسلمين، فأيُّ فقيرٍ منهم رُدَّت فيه الصَّدقة في أيِّ جهةٍ كان فقد وافقَ عُموم الحديث. انتهى.
          وأمّا حديثُ الباب فظَاهرهُ خصُوص فقراء أولئك الأغنياء، فيمتنعُ نقلُ الزكاةِ، كما قالهُ الإسماعيلي وكثيرون، ولذا قال في ((فتح الباري)): والَّذي يتبادرُ إلى الذِّهن من هذا الحديثِ عمومُ النَّقل، وأنَّ الضَّمير يعودُ على المخاطبين فيختصُّ بذلك فقرَاؤهم، لكن رجَّح ابن دقيق العيد الأول، قال: إنَّه وإن لم يكنْ الأظهر، لكنْ يقويه أنَّ عيونَ الأشخاص المخاطبين في قواعدِ الشرع الكليَّةِ لا تُعتبر وإن اختصَّ بهم خطابُ المواجهة. انتهى.
          وقد اختلفَ العلماءُ في جوازِ نقل الزكاة، فأجازهُ الليثُ وأبو حنيفةَ وأصحابه، ونقله ابنُ المنذرِ عن الشَّافعي واختارهُ، والأصحُّ عند الشَّافعيَّةِ والمالكيَّة والحنابلة والجمهور: أنَّه يحرمُ، ويكرهُ عند الحنفيةِ النَّقل إلى مسافةِ القصرِ، وكذا إلى ما دونها عند الشَّافعيَّةِ ما لم يكن منسوباً لها، ويجوزُ عند الحنابلة إلى ما دونها مطلقاً، وأنه لا يجزئُ عن الزكاة عند الشَّافعيَّةِ على الأصحِّ، ويجزئ عند المالكية والحنفية والحنابلة، ومحلُّ الخلاف في غير الإمام مع وجودِ المستحقين في بلدِ الزكاة، فإنْ فُقِدوا فيها وجبَ نقلها إلى فقراءِ أقرب بلدٍ إليها، هذا تحريرُ الخلاف في هذه المسألة، فاعرفه.