الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه

          ░17▒ (بَابُ مَنْ أَمَرَ): بفتح الهمزة والميم (خَادِمَهُ): يشمل المملوكَ وغيره (بِالصَّدَقَةِ): / أي: بأن يتصدَّقَ بها الخادمُ عن مخدومه، وأل في الصدقة للجنس، فتشملُ الفرض والنَّفلَ والقليلَ والكثير.
          وجملة: (وَلَمْ يُنَاوِلْ): أي: الآمر الصدقة للفقير (بِنَفْسِهِ): حالية.
          وفائدتُها _كما قال الزَّين بن المُنِير_ التَّنبيه على أن ذلك مما يغتفرُ، وأن قوله فيما قبله: الصَّدقةُ باليمين لا يلزمُ منه المنع من إعطائها بيدِ الغير، وإن كانت المباشرةُ أولى.
          وقال ابن رشيد: نبَّهَ المصنِّفُ بالترجمة على أنَّ حديث الباب مفسَّرٌ بها؛ لأنَّ كلًّا من الخازنِ والخادم والمرأةِ أمينٌ، ليس له أن يتصرَّفَ إلا بإذنِ المالك نصًّا أو عرفاً، إجمالاً أو تفصيلاً.
          وقال صاحب ((التلويح)): كأنَّ البخاريَّ أرادَ بهذه الترجمة معارضة ما رواهُ ابن أبي شيبةَ بسنده إلى عباس بن عبد الرحمن المدني قال: ((خُصلَتَان لم يكنْ النَّبيُّ صلعم يليهما إلى أحدٍ من أهله: كان يناوِلُ المسكينَ بيدهِ ويضع الطَّهورَ لنفسِهِ)).
          وفي ((الترغيب)) للجوزقي بسندٍ صالحٍ عن ابن عبَّاس: ((كان النَّبيُّ صلعم لا يكِلُ طَهورَهُ ولا صدقتَهُ التي يتصدَّقُ بها إلى أحَدٍ يكونُ هو الذي يتولاهما بنفسِهِ))، انتهى.
          قال العيني: الذي يظهر من كلامه أن المتصدِّقَ بنفسه والمأمور بالصدقة عنه كلاهما في الأجرِ سواءٌ، على ما يشيرُ إليه ما في الباب، وإنما لم يُشِر إلى شيءٍ من ذلك اكتفاءً بما ذكرهُ في الباب كما هو عادتُهُ في مواضع، ولا معارضةَ هاهنا؛ لأن مقامَ النَّبيِّ أعلى المقامات، ولئن سلمنا التَّعارض ظاهراً فلا نسلمُ أنه حقيقةٌ لعدم التَّساوي بين ما في الباب وبين غيره، انتهى.
          وأقول: ينبغي حمل قوله: كلاهما في الأجر سواءٌ على أصلِ الأجر، وإلا فثوابُ صاحب المالِ أفضلُ من الخادم قطعاً، ومثلهُ الزوجة.
          وقال ابن بطَّال: إلا أن مقدار أجرِ كلٍّ منهم لا يعلمهُ إلا الله ╡، غير أن الأظهرَ أنَّ الكاسب أعظم أجراً.
          وقال الكرمانيُّ _نقلاً عن عياض_: ويحتملُ أيضاً أن يكونا سواءً؛ لأنَّ الأجر فضلٌ من الله يؤتيهِ من يشاء، انتهى.
          وفصَّل بعضهم تفصيلاً حسناً فقال: لو أعطى المالك لخادمِهِ مائة درهمٍ مثلاً ليدفعها لفقيرٍ على باب داره مثلاً فأجرُ المالك أكثر، ولو أعطاهُ رغيفاً ليذهب به إلى فقيرٍ في مسافةٍ بعيدةٍ فأجرُ الخادِمِ أكثر، وقد يكون عمله قدرَ الرَّغيف مثلاً فيكون مقدارُ أجرهما سواء، انتهى.
          (وَقَالَ أَبُو مُوسَى): أي: عبد الله بن قيسٍ الأشعري ☺ مما يأتي موصولاً في باب أجرِ الخادم بمعناه؛ فإن لفظهُ هناك: ((الخازِنُ المسلِمُ الأَمِينُ الَّذِي ينفِّذُ ما أُمِر به كاملاً مُوفراً طَيِّباً بها نفسُهُ فيدفعُهُ إلى الذي أمَرَ لهُ به أحَدُ المتصدِّقِينَ)).
          (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: هُوَ): أي: الخازنُ، وهو من أفراد الخادمِ، إذ الخازنُ خادمٌ للمالك في الخَزْن، فتحصل المطابقةُ بينهُ وبين الترجمة.
          وقوله: (أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ): خبر ((هو)) الراجع إلى ((الخازن))، و((المتصدقَين)) بالتثنية في جميع روايات ((الصحيحين))، كما يقال: القلمُ أحدُ اللسانين، مبالغةً.
          وقال القرطبي: ويجوز كسر القاف على الجمع؛ أي: هو متصدِّقٌ من المتصدِّقين.