الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله

          1395- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ): بتشديد الحاء المهملة (ابنُ مَخْلَدٍ): بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة ساكنة، هو النَّبيل البصري (عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ): أي: المكِّي، وثَّقه ابنُ معين وأحمد وأبو زُرعة وأبو داود والنَّسائي وغيرهم وإن رُمِي بالقدر، ليس له في البُخاري عن عبد الله بن صيفِي غير هذا الحديث، وله فيه أيضاً أحاديث قليلةٌ عن عَمرو بن دينار.
          (عَنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ اللَّهِ): مكبَّراً (ابنِ صَيْفِي): بفتح الصاد المهملة، نسبةً إلى صيف، ضدُّ: الشتاء، مولى عثمان بن عفان.
          (عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ): بفتح الميم والموحدة بينهما عين مهملة ساكنة، كنية: نافذ _بنون فألف ففاء فذال مهملة، وقيل: معجمة_ مولى ابن عبَّاس، كان أصدقَ موالي ابن عبَّاس مات سنة أربع ومائة.
          (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم: بَعَثَ): بفتحات (مُعَاذَاً): بضم الميم وبذال معجمة آخره؛ أي: ابن جَبَل، بفتحتين (☺): أعلمُ الأمَّةِ بالحلالِ والحرام؛ أي: أرسله.
          (إِلَى الْيَمَنِ): بفتحتين، إقليمٌ معروف، والياً عليها في شهر ربيع الآخر سنة تسع عقبَ رجوعه من غزوة تبوك كما في ((الطبقات)) لابن سعد، لكن الذي عند المصنف أواخر المغازي سنةَ عشرٍ قبل حَجَّة الوداع.
          وفي ((الاستيعاب)): لما خلَعَ من مالهِ لغرمائه بعثه النَّبيُّ صلعم إليها، وقال: ((لعلَّ الله تعالى أن يُجبِرَك))، قال: وبعثهُ أيضاً قاضياً، وجعل إليه قبض الصَّدقاتِ من العُمَّال باليمن، وقد كان رسول الله صلعم قسَمَ اليمن على خمسةٍ: خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجرُ بن أبي أميَّةَ على كندة، وزياد بن لبيد على حضرموت، ومعاذ بن جبلٍ على الجَنَد، وأبي موسى الأشعري على زبيد وعدن وساحل.
          وقال ابن الربيع في ((الإكليل)): بعث النَّبي صلعم معاذاً وأبا موسى عند انصرافه من تبوك سنة تسع.
          (فَقَالَ): أي: النَّبي صلعم (ادْعُهُمْ): بضم الميم؛ أي: اطلبهُم أوَّلاً (إِلَى: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي): بفتح الهمزة وبياء المتكلم (رَسُولُ اللَّهِ): أي: بأن تقول لهم: قولوا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله صلعم، وكان أهل اليمنِ كما في ((التلويح)) يهود إلا أن ابنَ إسحاقَ وغيره ذكروا أن تبعاً تهوَّدَ وتبعهُ على ذلك قومه.
          وأطلق غيرهُ فقال: كانوا أهلَ كتابٍ، ففي مسلمٍ عن ابن عبَّاس عن معاذ بن جبلٍ ☻ قال: بعثني رسولُ الله صلعم وقال: ((إنَّكَ تأتِي قوماً من أهْلِ الكتابِ فادعُهُمْ إلى شَهَادةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا الله وأنِّي رسُولُ الله)).
          لكن قال الطِّيبي: قيَّد في رواية مسلم بأهل كتابٍ وفيهم أهلُ ذمَّةٍ وغيرهم من المشركين تفضيلاً لهم، وأخرجهُ الدارمي في ((مسنده)) عن أبي عاصمٍ بلفظ: أن النَّبيَّ لما بعثَ معاذاً إلى اليمن قال: ((إنَّكَ ستَأتِي قوماً أهلَ كتَابٍ فادعُهُم)).
          وقال الزين العراقي: كيفيَّة الدعوة إلى الإسلام باعتبار أصنافِ الخلقِ في الاعتقاد، فلما كان إرسالُ معاذٍ إلى من يقرُّ بالإله والنُّبوات وهم أهل الكتاب أمرهُ بأن يدعوهم أولاً إلى توحيدِ الإله، والإقرارِ بنبوَّةٍ محمَّدٍ صلعم؛ فإنهم وإن كانوا يعترفون بالألوهيَّةِ لله تعالى لكنهم يجعلون معه شريكاً بدعوى النَّصارى أنَّ المسيحَ ابن الله، ودعوى اليهود أنَّ عزيراً ابن الله، وأنَّ محمَّداً ليس برسولِ الله أصلاً أو إليهم، على اختلافِ آرائهم في الضَّلالة.
          وقال عياض: أمرُهُ عليه الصلاة والسلام لمعاذٍ ☺ أن يدعوهم أولاً لتوحيدِ الله تعالى وتصديق نبوَّةِ محمَّدٍ صلعم دليلٌ على أنهم ليسوا بعارفينَ لله تعالى، وإن كانوا يعبدون ويظهرونَ معرفته، وهو مذهبُ حُذَّاق المتكلمين / لدلالةِ السَّمَع عندهم على ذلك، وإن كان العقلُ لا يمنع أن يعرفَ الله تعالى من كذَّبَ رسولاً.
          وقال أيضاً: ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهودِ، أو أضاف إليه الولد أو الصَّاحبةَ منهم، أو أجازَ عليه الحلول والانتقالَ والامتزاجَ من النصارى، أو وصفهُ بما لا يليقُ به، أو أضافَ إليه الشَّريك والمعاند من خلقهِ من المجوس والثَّنويَّةِ، فمعبودُهم ليس هو الله تعالى، وإن سمُّوه بذلك، إذ ليسَ هو موصوفاً بصفاتِ الإلهِ الواجبة، فإذاً لم يعرفوا الله تعالى.
          وقيل: أمر النَّبي صلعم معاذاً ☺ بالمطالبةِ بالشَّهادتين؛ لأن ذلك أصلُ الدِّين، لا يصحُّ شيءٌ من فروعهِ إلا به، فمن كان منهم غير موحِّدٍ على التَّحقيق كالنصارى فالمطالبةُ موجَّهةٌ إليه بكلِّ واحدةٍ من الشهادتين، ومن كان موحِّداً كاليهود فالمطالبةُ له بالجمع بين ما أقرَّ به من التَّوحيدِ وبين الإقرارِ بالرسالة.
          (فَإِنْ هُمْ): أي: أهل اليمنِ (أَطَاعُوا): أي: انقادوا (لِذَلِكَ): أي: لما ذكر من الإتيان بالشَّهادتين، وللدَّارمي: ((فإِنْ هُم أطَاعُوا لكَ في ذلِكَ))، ثمَّ قال: ((وإيَّاكَ وكَرَائِم أموالِهِمْ، وإيَّاكَ ودعوَةَ المظلُومِ، فإنَّهَا ليسَ لها من دُونِ الله حجَابٌ)).
          (فَأَعْلِمْهُمْ): بقطع الهمزة مفتوحة، أمرٌ من الإعلام؛ أي: فأخبرهم (أَنَّ): بفتح الهمزة وتشديد النون؛ لأنها في موضع المفعول الثاني؛ أي: بأنَّ (اللَّهَ افْتَرَضَ): ولابن عساكرٍ: <قد افترض> أي: أوجب (عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ): أي: في أوقاتها الخاصَّةِ المعلومة، فخرجَ الوِترُ، إذ ليسَ من الفرائض، بل هو سُنَّةٌ عند الجمهور، وواجبٌ عند الحنفية.
          (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ): أي: لفرضيَّةِ الصَّلاة عليهم بأن أقرُّوا بوجوبها أو بادروا إلى فعلها.
          قال العيني: ويرجِّحُ الأول: بأن الذكر في الحديثِ الإخبارُ بالفرضيَّةِ، فتعودُ الإشارة إليها، ويرجِّحُ الثاني: بأنهم لو بادروا بالامتثالِ عقبَ إخبارهم بالوجوبِ لكفى، ولم يشترط تلقِّيهم بالإقرار بالوجوبِ، وكذا الزكاة لو امتثلوا لأدائها من غير تلفُّظٍ بالإقرارِ لكفى، فالشرطُ عدم الإنكارِ والإذعانُ للوجوب.
          (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ): ولأبي ذرٍّ: <قد افترَضَ> (عَلَيْهِمْ صَدَقَةً): أي: زكاةً (فِي أَمْوَالِهِمْ): أي: الزَّكويَّة، فإطلاقُ الصَّدقةِ هنا على الزكاة كإطلاقها عليها في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة:60]
          وجملة: (تُؤْخَذُ): بضم المثناة الفوقية أوله، صفة ثانية لصدقة أو حال منها، ويحتملُ تعلُّق: ((في أموالهم)) بـ((افترض)) (مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ): أي: المسلمينِ مكلَّفِين أو غيرهم، خلافاً للحنفيَّةِ وكثيرين في تقييدِهِم بالمكلَّفين، إذ لا تجبُ الزكاة عندهم في مالِ الصَّبي والمجنون.
          (وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ): بالمعنى الشامل للمساكين، وفي نسخةٍ: <في> بدل: ((على))، وجملة ((تُرَد)): بالفوقية والبناء للمفعول عطفٌ على ((تُؤخَذ))، ومصارف الزكاة وإن لم تنحصِرْ في الفقراءِ، لكن يحتملُ أنَّه خصَّهُم الشارع بالذِّكر للمطابقةِ بينهم وبين الأغنياء، أو لأنَّ الغالب فيهم الفقراءُ دون بقيَّةِ أصناف مصارف الزكاة، وقدَّمَ عليه الصلاة والسلام في المتعاطفات بالأهمِّ فالأهمِّ تلطُّفاً في الخطاب؛ لأنَّهُ لو طالبهم بالجميعِ في أول الأمر دفعةً لنفرت نفوسهم من كثرتها، ولذا كانت الفرائضُ والمنهيَّاتُ على التَّدريج.
          قال الكرمانيُّ: فإن قلتُ: توقُّفُ الصلاة على الشَّهادةِ ظاهرٌ؛ لأنَّ الصَّلاة لا تصِحُّ إلا بعد الإسلامِ، فما وجهُ توقُّفِ الزكاة على الصَّلاةِ مع أنَّهما سواءٌ في كونهما ركنين من أركانِ الإسلام فرعينِ من فُروعِ الدِّين؟ قلت: قال الخطَّابي: أخَّرَ ذكرَ الصَّدقةِ؛ لأنها إنما تجبُ على قومٍ من الناس دون آخرين، وإنما تلزمُ بمضِيِّ الحول على المال.
          ثمَّ قال الكرماني: ولم يذكر الصَّومَ والحجَّ مع أنهما أيضاً من أركانِ الإسلام؛ لأنَّ اهتمام الشَّارعِ بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كُرِّرا في القرآن كثيراً، ولم يسقطا عن المكلف أصلاً إذا وجبَ أداؤهما عليه، بخلاف الصَّوم، فإنه قد يسقطُ بالفديَةِ، وبخلاف الحجِّ، فإنَّ الغير قد يقومُ مقامه للزَّمانةِ، أو لأنَّهُ حينئذٍ لم يكن شرعَ وجوبَه.
          وقال العينيُّ: لم يترتبْ دعوتهم إلى أداءِ الزكاة على طاعتِهِم إلى إقامةِ الصَّلاةِ ترتيبَ وجوبٍ، وإنما رتَّبه لترتيب البَيَان.
          وقال الزينُ العراقي: يحتملُ أن يقال: إنَّهم إذا أجابوا إلى الشَّهادتين ودخلوا في الإسلامِ ولم يُطِيعوا لوجوب / الصَّلاة كان ذلك كردَّةٍ عن الإسلامِ بعد دخولهم فيه، فيصيرُ ماله فيئاً، فلا يؤمرون بالزَّكاةِ بل يُقتَلون حينئذٍ.
          تنبيه: يستفادُ من الحديث: قبول خبرِ الواحدِ، ووجوبُ العملِ به، وهو الصَّوابُ ولا يعتدُّ بخلافه، واعترضهُ صاحب ((التلويح)): بأن أبا موسى كان مع معاذٍ فلا يكون خبرٌ واحدٌ عليه، وكذا على قول ابنِ عبد البر المارِّ من أنَّهم كانوا خمسةً. وردَّ العيني: بأنه لا يخرُجُ عن كونه خبر واحدٌ، انتهى فتأمَّله.
          وفي الحديثِ دليلٌ على أن الكُفَّار يدعونَ إلى الإسلام قبل قتالهم، وأنه لا يحكمُ بإسلامهم إلا بالنُّطقِ بالشَّهادتين، وهو مذهبُ أهل السُّنَّة والجماعة.
          وفيه: أنَّ الصَّلوات الخمس فرضٌ في كلِّ يومٍ وليلة، وأنَّ الزَّكاةَ فرضٌ على الأغنياء، وأنَّها لا يجوزُ دفعها لكافرٍ.
          وقد يستدلُّ بالحديث _كما قال الكرماني وغيره_ من لا يرى على المديونِ زكاةً إذا لم يفضل عن الدين الذي عليه قدر نصابٍ؛ لأنه قُسِم إلى غنيٍّ وفقيرٍ، فهذا لما جازَ له الأخذُ لم يجبْ عليه الدَّفعُ، فتأمَّله.
          وفيه دليلٌ على أنَّهُ لا يجوزُ نقل الزَّكاةِ من بلدِ المالِ إلى غيرها لقوله: ((وتُرَدُّ على فُقَرائِهِم))، واعترَضَ: بأن ضمير ((فقرائهم)) يرجعُ لفقراءِ المسلمين.
          وأجيب: باحتماله لذلك أيضاً مع امتدادِ أطماعِ فُقَراء بلد المالِ إليها، فالنَّقلُ يوحشهم فيحرمُ على الصَّحيح عند الشَّافعية على غيرِ الإمام نقلها، ولا تجزئهُ على المعتمدِ كما صرَّحَ به فقهاؤنا.
          إذا علمت ذلك ظهرَ لك ما في قول الطيبي: اتَّفقوا على أنَّها إذا نُقِلت وأُدِّيت يسقطُ الفرض عنه، إلا عمر بن عبد العزيز، فإنه ردَّ صدقةً نُقِلت من خراسان إلى الشَّام إلى خراسان، انتهى من النَّظرِ في نقله الاتفاق، فافهم.
          وفي الحديثِ أيضاً: دليلٌ _كما قال الخطَّابي_ لمن يذهبُ إلى أن الكُفَّار غير مخاطبين بفروعِ الشريعة؛ لأنَّهم إنما خُوطِبوا بالشَّهادةِ، فإذا أتوا بها توجَّهت عليهم بعد ذلك الشَّرائعُ والعبادات.
          وردَّه النَّوويُّ فقال: هذا الاستدلالُ ضعيفٌ، فإنَّ المراد: أعلمهُمْ أنَّهُم مطَالَبُون بالصَّلوات وغيرها في الدُّنيا، والمطالبةُ في الدُّنيا لا تكونُ إلا بعد الإسلامِ، ولا يلزمُ من ذلك أن لا يكونوا مخاطَبِين بها يزادُ في عذابهم بسببها في الآخرة.
          ثمَّ قال: واعلم أن المختارَ الذي عليه المحقِّقُون والأكثرون: أن الكُفَّار مخاطبون بفروعِ الشَّريعةِ المأمورُ بها والمنهيُّ عنها، وقيل: ليسوا مخاطبين مطلقاً، وقيل: مخاطبُونَ بالمنهيِّ عنهُ دون المأمورِ به، انتهى.
          وقال العينيُّ: قال شمسُ الأئمَّةِ: لا خلافَ أنَّهُم مخاطبُونَ بالإيمان؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم بُعِث إلى النَّاسِ كافَّةً ليدعوهم إلى الإيمانِ قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] ولا خلافَ أنَّهُم مخاطبون بالمشروعِ من العقوبات، ولا خلافَ أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم أيضاً، ولا خلافَ أن الخطاب بالشَّرائعِ يتناولهم في حكمِ الآخرة، فأما في وجوبِ الأداء في أحكام الدُّنيا فمذهب العراقيين من أصحابنا: أن الخطابَ يتناولهم أيضاً، والأداءُ واجبٌ عليهم، ومشايخُ ديارنا يقولون: إنَّهُم لا يُخَاطبون بأداءِ ما يحتمل السُّقوط من العبادات، انتهى.
          واستدلَّ بحديثِ الباب أيضاً على عدم وجوبِ الوتر؛ لأنَّ بعث النَّبي صلعم معاذاً إلى اليمنِ قبل وفاته.
          قال ابن الملقِّن في ((توضيحه)): وهذا ظاهرٌ لا إيرادَ عليه، ومن ناقش فيه فقد غلط، انتهى.
          وردَّهُ العيني فقال: ما غلطَ إلا من استمرَّ على هذا بغير برهانٍ؛ لأنَّ الرَّاوي لم يذكر جميع المفروضات، ألا ترى أنَّهُ لم يذكر الصَّومَ والحج ونحوهما ولئن سلمنا ما ذكروه، ولكن لا نسلم نفيَ ثبوت وجوبهِ بعد ذلك لعدم العلم بالتَّاريخِ، وقد قالت الشَّافعيَّةُ في ردِّهم قول أحمد حيث تمسَّكَ بحديث ابن عُكَيم في عدم الانتفاعِ بأجزاء الميتة قبل موتِ النَّبي عليه السلام بشهرٍ: ويحتملُ أن يكون الإذنُ في ذلك قبل موتهِ بيومٍ أو يومين، فكان ينبغي لهم أن يقولوا هنا كما قالوا هناك، انتهى.
          وأقول: يرد عليه أن الراوي وإن لم يذكر جميع المفروضات، لكن ورد نفيُ وجوبهِ صريحاً في حديث الأعرابي المبيَّن فيه فرضية الصلوات الخمس الثابت في ((الصحيحين)) وغيرهما بقوله: هل عليَّ غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تَطَوَّع))، / فهذا برهانٌ، فتدبَّر.
          وفي الحديثِ أيضاً _كما قال الطيبي وغيره_ أن الزَّكاةَ تجبُ في مال الصَّغيرِ وكذا المجنون حيث أطلق في قوله: ((تُؤخَذُ من أغنِيائهِمْ وتُرَدُّ في فُقَرائهِم))، ويدلُّ له أيضاً ما رواهُ التِّرمذيُّ من حديثِ عمرو بن شعيبٍ عن جدِّه: أن النَّبيَّ صلعم خطبَ فقال: ((أَلَا من وَليَ يَتيماً لهُ مالٌ فليتَّجِر في مالِهِ ولا يترُكهُ حتَّى تأكُلُه الصَّدَقة)).
          وقال العيني: قلنا: الشَّرطُ في وجوب الزَّكاةِ: العقلُ والبلُوغُ، فلا تجبُ في مالِ الصَّبيِّ والمجنونِ لحديثِ عائشةَ ♦ عن النَّبيِّ صلعم أنه قال: ((رُفِع القلَمُ عن ثلَاثٍ: عن النَّائمِ حتى يستَيقِظَ، وعن الصَّبِيِّ حتى يحتَلِمَ، وعن المجنُونِ حتَّى يَفِيقَ))، وحديثُ الترمذي ضعيفٌ؛ لأن في إسنادهِ المثنَّى بن الصباح، قال أحمد: لا يساوي شيئاً، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الترمذيُّ بعد أن رواه: وفي إسناده مقالٌ؛ لأن المثنَّى بن الصباح مضعَّفٌ في الحديث.
          ثمَّ قال: وقال الترمذيُّ: وقد اختلفَ أهل العلمِ في هذا الباب، فرأى غير واحدٍ من أصحاب النَّبيِّ صلعم في مالِ اليتيم زكاة، منهم: عمر وعلي وعائشة وابن عمر، وبه يقولُ مالكٌ والشَّافعي وأحمد وإسحاق، وقالت طائفةٌ من أهل العلم: ليس في مالِ اليتيمِ زكاةٌ، وبه يقولُ سفيان الثَّوري وابن المباركِ وأبو حنيفة وأصحابُهُ، وهو قولُ أبي وائلٍ وسعيد بن جبير والنَّخعي والشَّعبي والحسن البصري، وحُكِيَ عنه إجماعُ الصَّحابة، انتهى.
          وأقول: قد يقال: حديثُ عائشَةَ لا دليلَ فيه لعدم وجوب الزَّكاةِ في مال الصَّبيِّ والمجنون؛ لأنَّ رفع القلمِ عمن ذكر بمعنى: رفع الإثمِ عمن ذكر، وأما تضعيفُ حديثِ التِّرمذيِّ فأجيب عنه: بأنه وردَ من غير طريقٍ فانجبَرَ، فتأمَّله.
          وحديثُ الباب أخرجه المصنِّف في التوحيد والمظالم والمغازي، ومسلمٌ في الإيمان، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في الزكاة.