الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة

          ░10▒ (بابٌ): بالتنوين (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ): أخذ المصنف لفظ حديث البابِ فجعله بعض الترجمة، وزاد عليه قوله: (وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ): بجر ((القليلِ)) عطفاً على ((شق)) من عطف العام على الخاص، ويجوزُ رفع ((القليلُ)) عطفاً على ((باب)) أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي: نحو ((مما يناسب ذلك))، فتأمَّله، بل هو ثابتٌ كذلك في بعضِ الأصولِ الصحيحة، وأتبع ذلك بآيةٍ تناسبُ الباب.
          وقال الزين بن المُنِير وغيره: جمع المصنِّفُ بين الخبر والآية لاشتمالِ ذلك كله على الحثِّ على الصَّدقَةِ قليلُها وكثيرها؛ فإنَّ قوله تعالى: (({أَمْوَالَهُمُ})) يشملُ قليل النَّفقة وكثيرها، ولذكر الوابل والطَّلِّ فيها على سبيل التَّمثيل، فشُبِّهت الصدقة بالقليلِ بإصابة الطَّلِّ، والصدقة بالكثيرِ بإصابة الوابل، ويشهدُ له قوله عليه السلام: ((لا يحِلُّ مال امرِئٍ مسلِمٍ إلَّا عن طِيبِ نفْسٍ)) فإنَّه يتناول القليلَ والكثير، إذْ لا قائلَ بحلِّ القليلِ دون الكثير، وقوله: ((اتَّقُوا النَّارَ ولو بشَقِّ تمرَةٍ)) يتناولُ الكثيرَ والقليل أيضاً.
          ({وَمَثَلُ}): بفتح الميم والمثلثة مبتدأ والواو للاستئناف، وخبر المبتدأ: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الآتي ({الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ}): أي: يتصدَّقون بها ({ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}): أي: طلباً لمرضاتِهِ تعالى، فـ(({ابْتِغَاءَ})): مفعول لأجله، أو حال بتأويله بمبتغين ({وَتَثْبِيتاً}): عطفٌ على: (({ابْتِغَاءَ}))؛ أي: احتساباً ({مِنْ أَنْفُسِهِمْ}) وإخلاصاً لله ليجزيهم على الإيمان.
          وقال البيضاوي: وتثبيتاً بعضَ أنفسهم على الإيمان؛ فإنَّ المال شقيقُ الرُّوح؛ فإنَّ من بذل مالهُ لوجهِ الله دون روحهِ أثبت بعضَ نفسه ومن بذلهما أثبت نفسه كلَّها، وقيل: تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاءِ مبتدئاً من أصل أنفسهم.
          وقال الزمخشري: ويحتملُ أن المعنى: وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنينَ أنَّها صادقةُ الإيمان مخلصةٌ فيه، ويؤيِّدهُ قراءةُ مجاهد: ▬وتنبيهاً من أنفسهم↨.
          وقال مجاهدٌ والحسن: أي: ويتثبتون أين يضعونَ صدقاتهم، ولذا قال الحسن: كان الرَّجلُ إذا همَّ بصدقة تثبت، فإن كانت لله تعالى أمضاها وإلا تركها.
          وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أن من حكمةِ الإنفاق: تزكيةُ المنفق نفسهُ عن البُخلِ وحبِّ المال.
          (الآيَةَ): أي: اقرأها (إِلَى قَوْلِهِ): وفي بعض الأصولِ: <وإلى قوله> بزيادة واو عطفاً على مقدر؛ أي: اقرأ الآية إلى آخرها، واقرأ الآية بعدها إلى قوله: (وَ{مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:265-266]): كذا في نسخ متن القسطلاني، والصَّواب: حذف الواو في ((ومن كل الثمرات)) ليوافق التلاوة والأصول المعتمدة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} إلى قوله: {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}>، وفي بعض الأصولِ المعتمدة زيادة: <{لَهُ}> قبل: (({فِيْهَا})).
          وتمامُ الآية الأولى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، تقدَّم أن: {كَمَثَلِ} خبر: (({وَمَثَلُ}))، والجنة: البستان.
          وقال الفرَّاء: إذا كان في البستان نخلٌ فهو جنَّةٌ، وإن كان فيه كرمٌ فهو فردوس.
          {بِرَبْوَةٍ} في موضع الصفة لجنَّةٍ، وهي بضم الراء في قراءة الأكثر، وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها، وقرئ بكسرها ونسبت لابن عبَّاس، وعلى كلٍّ فهي المكان المرتفعُ المستوي من الأرض تجري فيه الأنهارُ فلا يعلوه الماءُ ولا يعلو عليه، وسُمِّيت بذلك؛ لأنها ربَتْ وغلظت من قولهم: ربا الشيء يربُو: إذا زادَ، وخصَّها؛ لأنَّ شجَرَها أزكى وأحسنُ ثمراً.
          والوابلُ: المطرُ العظيم القطر الكثيرة، {فَآتَتْ أُكُلَهَا} أي: أعطتْ ثمرها، و{أكُلُها} بضم الكاف واللام، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بسكونها تخفيفاً، و{ضِعْفَيْنِ} حال تثنية ضعف: المثل، وقيل: أربعة أمثال الشيء؛ أي: أثمرتْ في العامِ مرَّتين.
          وقال عطاء: حملت في سنةٍ من الريع ما حملَ غيرها في سنتين.
          وقوله: {فَطَلٌّ} خبر لمحذوف؛ أي: فالذي يصيبها أو يكفيها طل أو فاعل الفعل محذوف؛ أي: فيصيبها طلٌّ أو فيكفيها طل، والجملة جواب الشرط، والطَّلُّ: المطرُ الخفيف الدَّائم، وهذا مثلٌ ضربهُ الله تعالى لعمل المؤمنِ الخالص، يقول: كمال هذه الجنة يريع في كلِّ حالٍ، ولا يخلف سواء قلَّ المطرُ أو كثر، كذلك يضاعفُ الله صدقة المؤمنِ المخلص / الذي لا يمنُّ ولا يؤذي سواء قلَّتْ نفقتُهُ أو كثُرتْ؛ لأنَّ الطَّلَّ إذا دامَ عمل عمل الوابِل.
          وقال زيد بن أسلم: هي أرضُ مصرَ، فإن لم يصبها وابلٌ زكت وإن أصابها أضعفت؛ أي: أنَّها لا تمحل أبداً، وختمَ الآية بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تحذيراً عن الرِّياء وترغيباً في الإخلاص.
          وقال في ((الفتح)): قال ابن عبد السَّلام: تقديرُ الآية مثل تضعيف أجور الذين ينفقون كمثل تضعيف ثمار الجنَّةِ بالمطرِ إن قليلاً فقليلٌ، وإن كثيراً فكثير، وكأنَّ البخاريَّ أتبَعَ الآية الأولى التي ضربت مثلاً بالربوة بالآية الثانية التي تضمَّنتْ ضرب المثل لمن عملَ عملاً يفقدهُ أحوج ما كان إليه للإشارةِ إلى اجتنابِ الرِّياء في الصدقة؛ ولأنَّ قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يشعرُ بالوعيدِ بعد الوعد فأوضحهُ بذكر الآية الثانية، وكأنَّ هذا هو السِّرُّ في اقتصارهِ على بعضها اختصاراً.