الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب صدقة الكسب والتجارة

          ░29▒ (بَابُ صَدَقَةِ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ): أي: طلب الصَّدقة منهما، وأشار بهذه الترجمةِ إلى أن الصَّدقة إنما يعتد بها إذا كانت من كسبِ حلال أو تجارة.
          كذلك قال الزين بنُ المنير: لم يقيِّد المصنف الكسب في الترجمة بالطيب _كما في الآية_ استغناء عنه بما مرَّ في ترجمة باب الصَّدقة من كسبٍ طيب، ولم يذكر في الترجمة حديثاً؛ لأنه لم يجده على شرطهِ.
          وقال العيني: اكتفاءً بالآية؛ فإنها تأمر بالصَّدقة من الحلال وتنهى عن الصَّدقة من الحرامِ. انتهى.
          وفيه: أنه لم يكتف في غير موضع بها، بل ذكر معها حديثاً أو أكثر، فتأمل.
          (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة:267]): وثبتَ في رواية أبي ذرٍّ زيادة: <{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}> وأشار بمن التبعيضيَّة إلى أنه لا ينبغِي أن ينفقَ جميع ماله، نعم إن قوي يقينُه وصبرُه، ولم يكن له من يَعولهم، أو صبروا أيضاً فله أن ينفقَ الجميع، وما تحتمل الموصُوفة والموصولة الاسميَّة والحرفيَّة.
          والطَّيبات: فسَّرها البيضَاوي بحلال الكسبِ أو جيادِهِ، وفسَّرها مجاهد _كما رواه عنه الطِّبري وابن أبي حاتم_ بالتَّجارة الحلال وهو أخصُ ممَّا قبله، وعليه فعطفَ ((التجارة)) على ((الكسب)) في الترجمة للتَّفسير والأولى أعمُّ.
          {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}: أي: وأنفقوا من طيباتِ ما أخرجنا لكم من الحبُوب والثمار والمعادن، فحذف المضاف وأقيمَ المضاف إليه مقامَه لتقدم ذكره {وَلَا تَيَمَّمُوا} بفتح التاء؛ أي: ولا تتيمموا، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً {الْخَبِيثَ} أي: الحرام.
          وقال البيضاويُّ: الرديءُ من المال أو ممَّا أخرجنا، قال: وتخصيصه بذلك؛ لأنَّ التفاوتَ فيه أكثر وقرئ: ▬ولا تؤمموا↨ ▬ولا تُيمموا↨: بضم التاء. انتهى.
          وقال في ((المصابيح)): وقيل: المراد بالطيب: الجيِّد، وبالخبيث: الرَّديء، وقيل: الطَّيب الحلال، والخبيثُ الحرام، ويرجِّح الأول قوله: {وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} ولو كان المراد بالخبيثِ الحرام لم ينتظمِ الكلام؛ لأن الملابسَ للحرامِ لا يتحرَّاه ليتصدَّق منه، ولا يتورَّع عنه إذا عرض عليه فيأخذُه على كره وإغماضٍ، إنما هي صفةُ الناس إذا عرض عليهم الرَّديء.
          {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} حال مقدَّرة من فاعل {تَيَمَّمُوا}، و{مِنْهُ} متعلِّق بالخبيث أو بـ{تَيَمَّمُوا} ويجوزُ أن يتعلَّق بـ{تُنْفِقُونَ} وعليه فالضمير للخبيثِ، والجملة حال منه {وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ}: أي: وحالكم أنَّكم لا تأخذونَه في حقوقكُم لرداءتهِ {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا}: بسكون الغين المعجمة بعد الفوقية المضمومة؛ أي: إلا أن تسامحوا فيه مجاز عن أغمضَ بصرهُ: إذا غضَّه، وقرىء: ▬تغمِّضوا↨ بتشديد الميم؛ أي: / تحملوا على الإغماضِ أو توجدوا مغمضين، وسببُ نزول الآية _كما قال ابن عبَّاس_ أنهم كانوا يتصدَّقون بحشف التَّمر وشرارهِ فنهوا عن ذلك.
          وقال ابن بطَّال: قال عُبيد: سألت علي بن أبي طالب عن هذه الآية قال: نزلت في الزكاة المفروضة، كان الرجلُ يعمد إلى التَّمر فيصرمُه فيعزلُ الجيد ناحيةً، فإذا جاء صاحبُ الصَّدقة أعطاه الرديء.
          {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} أي: عن إنفاقكُم وإنما يأمركُم به لإنفاعكُم {حَمِيدٌ} [البقرة:267] بقبوله وإثباته، ومما يناسبُ إيرادَه في هذا الباب ما أخرجَه أحمد في ((مسنده)) عن ابن مسعود قال: قال رسولُ الله صلعم: ((إنَّ الله قسَّم بينكم أخلاقَكُم كما قسَم بينكُم أرزاقكم، وأن الله يُعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يُعطي الدين إلا من أحبَّ، فمن أعطاهُ الله الدين فقد أحبَّه، والذي نفسِي بيده! لا يسلم عبدٌ حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمنُ حتى يأمنَ جارُه بوائقَه))، قالوا: وما بوائقُه؟ قال: ((غشه وظلمه، ولا يكسبُ عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدَّق به فيقبل منه، ولا يتركه خلفَ ظهره إلا كان زاده إلى النار، إنَّ الله لا يمحو السَّيء بالسَّيء، ولكن يمحو السَّيء بالحسن، إن الخبيثَ لا يمحو الخبيثَ)).