الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يذكر في الصدقة للنبي

          ░60▒ (بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الصَّدَقَةِ): أي: من الحرمةِ، وفي بعضِ الأصُول: <من الصَّدقة> وهي بيانٌ لـ((ما)) أو هي بمعنى: في (لِلنَّبِيِّ): أي: على النَّبي (صلعم وآلِهِ): سقط <وآله> لغير أبي ذرٍّ، وهل تحريمُ الصَّدقة من خَصَائصهِ عليه السَّلام دونَ بقيَّةِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام، أو الحكم شاملٌ لهم أيضا؟
          وأطلق الصَّدقةَ فشملت الفرضَ والنفل، والعموم مرادٌ بالنِّسبة إليه صلعم لحرمتهما عليه؛ لأنَّها من حيث هي تنبِّئ عن ذلِّ الآخذ وعزِّ المأخوذِ منه لقولهِ عليه السلام: ((اليَدُ العُليا خيرٌ من اليَدِ السُّفلى)) وأبدل بها الفيءَ الذي يؤخذُ على سبيلِ الغلبةِ والقهر المنبِّئ عن عزِّ الآخذ وذلِّ المأخوذِ منه؛ ولأنَّها أوساخُ الناس، ففي مسلمٍ: ((إنَّ هذه الصَّدقات إنَّما هي أَوسَاخُ النَّاسِ، وإنَّها لا تحِلُّ لمحمَّدٍ ولا لآلِ محمَّدٍ)).
          وقال في ((فتح الباري)): كان يحرمُ على النَّبي صدقةُ الفرض والتَّطوُّع، كما نقلَ فيه غيرُ واحد _منهم الخطَّابي_ الإجماع، لكن حكى غيرُ واحدٍ عن الشَّافعي في التَّطوُّع قولاً، وكذا في روايةٍ عن أحمد، وقال الماورديُّ: يحرمُ عليه كلَّما كان من المال متقوِّماً، وقال غيره: لا تحرمُ عليه الصَّدقةُ العامَّةُ كمياهِ الآبارِ وكالمساجد، وسيأتي دليل تحريمِ الصَّدقة مطلقاً بأبسط في اللقطةِ. انتهى.
          وقال العينيُّ: فيما تقدَّمَ في الحديث: أنَّ الصَّدقةَ لا تحلُّ لآل محمَّدٍ، وفي ((الذخيرة)) للقرافي: الصَّدقة محرَّمةٌ على رسولِ الله إجماعاً، وقال ابنُ شداد: اختلف النَّاسُ في تحريمِ الصَّدقةِ على رسولِ الله، وذكر ابنُ تيمية فيها وجهين، وللشَّافعي قولين، قال: وإنما تركهَا تنزُّهاً، وعن أحمدَ: حل صدقة التَّطوُّع له.
          وفي ((نهاية المطلب)): يحرمُ فرضَها ونفلها على رسولِ الله صلعم، والأئمَّةُ على تحريمها على قرابتهِ عليه السلام، وقال الأبهريُّ المالكي: يحلُّ لهم فرضها ونفلها، وهو روايةٌ عن أبي حنيفة، وفي ((المبسوط)): يجوزُ دفع صدقة التَّطوُّع والأوقاف إلى بني هاشم، وهو مرويٌّ عن أبي يوسف ومحمد في ((النوادر)).
          وفي ((شرح القدوري)): الصَّدقة الواجبةُ كالزكاة والعشر والنُّذور والكفَّارات لا تجوزُ لهم، وأمَّا الصَّدقةُ على وجه الصِّلةِ والتَّطوُّع فلا بأسَ بها، انتهى ملخصاً، وقد أطالَ في ذلك استدلالاً ورداً.
          وتقدَّم تعريفُ الآل وما فيهم من الأقوالِ في باب أخذ صدقة التَّمرِ عند صرام النَّخل، وظاهرُ إطلاق البخاري ((وآله)) وما في الحديث: تحريمُ الصَّدقةِ عليهم مطلقاً.
          والرَّاجحُ: تحريمُ الفرضِ عليهم دون التَّطوعِ عند الأكثرين لخبرٍ رواه الشَّافعي والبيهقي عن جعفر بن محمَّدٍ عن أبيه: أنه كان يشربُ من سقاياتٍ بين مكَّةَ والمدينة، فقيل له: أتشرَبُ من الصَّدقةِ؟ فقال: إنَّما حُرِّم علينا الصَّدقة المفروضةُ، وهذا هو الصَّحيح عند الشافعيَّة والحنفية والحنابلة.
          ونقلهُ أصبغ عن ابن القاسم في ((العتبية))، قال في ((الفتح)): وقال ابنُ قُدامةَ لا نعلمُ خلافاً في أنَّ بني هاشم لا تحلُّ لهم الصَّدقةُ المفروضة. انتهى.
          وفيه: أنَّ الطَّبريَّ نقل الجوازَ كما في ((الفتح)) عن أبي حَنيفةَ، وحكى الطَّحاويُّ عنه أيضاً: تجوزُ لهم مطلقاً إذا حرموا سهمَ ذوي القُرْبى، ونقلهُ بعضُ المالكيَّةِ عن الأبهريِّ منهم، وهو وجهٌ لبعض الشَّافعيَّةِ أيضاً، وعن أبي يوسف: يحلُّ / أخذها لهم من بعضهم، وقال الكرمانيُّ _ناقلاً عن الطَّحاوي_ قال أبو حنيفةَ: الصَّدقة فرضاً أو نفلاً حلالٌ لهم إلى آخرِ ما في ((الفتح)).
          ثمَّ قال: وقال صاحباهُ: يحرمُ عليهم كلاهما، وعند المالكيَّةِ في ذلك أربعةُ أقوالٍ مشهورة: الجوازُ مطلقاً، المنع مطلقاً، جواز التَّطوُّع دون الفرض، عكسه، وأدلَّةُ المنع ظاهرةٌ من حديث البابِ وغيره، ولقولهِ تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57]، ولو أحلها لآلهِ لأوشكَ أنْ يطعنُوا فيه بأنَّ محمَّداً يدعونا إلى ما يدعونا إليه ليأخُذَ أموالنا ويعطيها لأهلِ بيتهِ، ولقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وثبتَ عن النَّبي كما رواه مسلمٌ: ((الصَّدقةُ أوسَاخُ النَّاس)).
          قال في ((الفتح)): ويؤخذُ من هذا جواز التطوُّعِ دون الفرضِ، وهو قولُ أكثر الحنفيَّةِ، والمصحح عند الشافعيَّةِ والحنابلة، وأمَّا من عكسه فقالوا: الواجبُ حقٌّ لازمٌ لا يلحق بأخذهِ ذلة، بخلاف التَّطوُّع، ووجهُ التَّفرقة بين بني هاشمٍ وغيرهم: أنَّ موجبَ المنع رفعُ يدِ الأدنى عن الأعلى، ففي الآخذِ منهم مذلَّةٌ، وأما الأعلى عن مثلهِ فلا.
          قيل: ولا دليلَ لمن أجازَ مطلقاً، إلا ما نقلهُ الطَّحاوي عن أبي حنيفةَ: أنَّها حلالٌ لهم، قال: لأنها كانت محرَّمةً عليهم من أجلِ أنَّ لهم في الخمس من سهمِ ذوي القربى، فلمَّا انقطعَ عنهم ذلك بموتِهِ عليه السلام حلَّ لهم بذلك ما كان حراماً عليهم.
          واعترضَ ابن المنير التَّعليل بأنَّها في الأخذِ مذلَّةٌ: بأنَّ مقتضَاهُ تحريمَ الهبةِ عليهم، ولا قائلَ به، هذا تحريرُ المذاهبِ في ذلك، فاحفظهُ.