الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب خرص التمر

          ░54▒ (بَابُ خَرْصِ التَّمْرِ): بفتح المثناة الفوقية وسكون الميم، ولأبي ذرٍّ: <الثَّمَر> بمثلثة وميم مفتوحتين، والمرادُ: ثمرة النَّخل والكرم، إذ ما عداهما من الثِّمار لا تخرصُ لعدم وجوب الزَّكاة فيها، والخَرْص _بفتح الخاء المعجمة وحكي كسرها وسكون الراء وبالصاد المهملة_ هو حزرُ ما على النخل أو الكرم من الرطب تمراً أو زبيباً.
          حكى التِّرمذيُّ عن بعض العلماءِ أنَّ تفسيره: إذا أدركت الثِّمارُ من الرُّطَب والعنب الواجبُ فيهما الزكاةُ، بعث السُّلطان خارصاً ينظرُ فيقول: يخرجُ من هذا كذا وكذا تمراً، ومن هذا كذا وكذا زبيباً، فيحصيهِ على مالكه ويعرفُ مقدارَ عشره، فيثبِّته على مالكه ويضمِّنُه إيَّاهُ في ذمَّته، ويُخلِي بينهُ وبين الثمر، فإذا جاء وقتُ الجذاذ أخذَ منه العُشْر. انتهى.
          وفائدة الخرص: التَّوسعةُ على أرباب الثِّمارِ في التناول منها للأكلِ والبيع وإعطاء الأهل والجيران والفقراء، إذ يحرمُ عليهم قبل الخرص التَّصرُّف بشيءٍ من ذلك.
          وفيه من التَّضييقِ ما لا يخفى، والخرص سُنَّةٌ عند الشَّافعيَّةِ وكثيرين، منهم: الحنابلة، والمشهورُ عندنا: إدخالُ جميعهِ في الخرصِ، وعند الحنابلة: يتركُ له نخلاتٌ لأكله وعياله.
          واستثنى الماورديُّ نخلَ البصرة قال: لأنَّهم لا يمنعونَ منه أحداً، قال: فيُخرِجون منه أكثرَ مما عليهم، ونقلَ فيه الإجماع.
          قال في ((التحفة)): وردُّوه: بأنَّهُ طريقةٌ ضعيفةٌ تفرَّد بها.
          وقال في ((الفتح)): في ((السنن)) و((صحيح ابن حبان)) من حديثِ سهل بن أبي خثمةَ مرفوعاً: ((إذا خَرَصَه فجذوا ودعوا الثُّلث، فإنْ لم تَدَعُوا الثلث فدَعوا الرُّبُعَ)) وقال بظاهره اللَّيث وأحمد وإسحاق وغيرهم.
          وفهمَ منه أبو عبيد في كتاب ((الأموال)): أنَّه القدرُ الذي يأكلونَهُ بحسبِ احتياجِهم إليه، وقال مالكٌ وسفيان: لا يُتركُ لهم شيءٌ، وهو المشهورُ عن الشافعي، عملَ به في حياة النَّبيِّ صلعم حتى مات، ثمَّ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ فمن بعدهم، ولم يُنقَل عن أحدٍ منهم ولا من التَّابعين تركهُ إلا عن الشَّعبي.
          بل قال الماورديُّ: إنه واجبٌ، والصَّحيحُ: خلافه وقد يُجمع فيقال: يجبُ إنْ أراد المالكُ الأكل من الثَّمرةِ قبل تجفيفها، وإلا فيسنُّ، وكذا يجبُ إنْ تعلَّق به حقٌّ لمحجورٍ مثلاً، أو كان شركاؤُهُ غير مؤتمَنِين، قاله في ((الفتح)).
          وأنكرَ الخرص أهل الرَّأي كالحنفيَّة، وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفاً للمزارعين لئلا يخونوا؛ ولأنَّهُ تخمينٌ وغرور، أو كان جوازهُ قبل تحريم الرِّبا والقمار.
          وتعقَّبه الخطَّابي: بأنَّ تحريمَ الربا والميسر متقدِّمٌ، والخرص عُمِلَ به في حياةِ النَّبي فمن بعده، وبأن قولهم: إنه تخمينٌ وغرورٌ فليس كذلك، بل هو اجتهادٌ في معرفةِ مقدار التَّمر. انتهى.
          وقال ابن بطَّالٍ وغيره: فخرص عليه السلام حديقةَ المرأة الآتية في الباب، وقال لأصحابِهِ: ((اخْرُصُوا)) وبعثَ عبد الله بن رواحة إلى خيبر فخَرَص عليهم النَّخل أول ما يطيبُ الثمر، وممَّن كان يرى الخَرَص: أبو بكر وعمرُ بن الخطاب والقاسمُ بن محمد والحسن البصري وعطاء والزُّهري ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وعامَّةُ أهل العلمِ، وخالف في ذلك أبو حَنيفةَ وأصحابه وقالوا: ليس في شيءٍ من الآثار المرويَّةِ في الخَرَص أنَّ الثَّمرةَ كانت رطباً في وقت ما خَرَصت، وكيف يجوزُ أنْ تكون رطباً فيجعل لصاحبها فيها حقُّ الله بمكيله ذلك تمراً يكونُ عليه نسيئة، وقد نَهَى رسولُ الله صلعم عن ذلك، كما رواه جابرٌ مرفوعاً؟.
          وأطال العيني في الاستدلال لذلك بما أجيبَ عنه، ومنه ما مرَّ، وبأنَّ حديث الأمرِ به وفعله أصحُّ من حديث النَّهي، قال: واختلفوا أيضاً هل يختصُّ الخَرص بالنَّخلِ، أو يلحقُ به العنبُ أو يعمُّ كل ما ينتفعُ به رطباً وجافًّا؟
          وبالأول قال القاضي شُريح وبعضُ أهل الظَّاهرِ، وبالثَّاني قال الجمهور، وإلى الثالث نحى البخاريُّ. انتهى.
          وقال ابن بطال: وأما خرصُ العنبِ، فإنَّما هو لحديث عتَّاب بن أسيد، رواهُ عبد الرحمن بن إسحاق وابن عُيينة بسندهما قال: ((أمرني رسولُ الله صلعم أن أخرصَ العِنَب وآخُذَ زكاتَهُ زبيباً كما تؤخَذُ زكاة النَّخلِ تمراً)) انتهى.
          وأما الحبوبُ كالبر ونحوهُ فلا يخرصُ لاستتارهِ / غالباً؛ ولأنَّ الثِّمار تؤكلُ غالباً رطباً.
          وقال في ((الفتح)): وحكى أبو عبيدٍ عن قومٍ من أهل الرَّأي: أنَّ الخرصَ كان خاصًّا بالنَّبيِّ؛ لأنَّه يوفَّقُ للصَّواب ما لا يوفَّقُ له غيره.
          وتعقَّبه: بأنَّ كونَ غيرهِ لا يسدد لما يسدد لهُ أنْ تثبتَ بذلك الخصوصيَّة، ولو كان المرءُ لا يجب عليه الاتِّباع إلا فيما يسدد فيه كتسديدِ الأنبياء لسقط الاتباع، وتُعقِّب أيضاً: بإرسالِ النَّبي الخَرَّاص في زمانه.
          واعتلَّ الطحاويُّ لهم: بأنَّهُ يجوزُ أن يحصلَ للثمرة آفَّةٌ فتتلفها، فيكونُ ما يؤخذ من صاحبها بدلاً عمَّا لم يسلمْ له.
          وأُجيب: بأنَّ القائلينَ به لا يضمِّنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرصِ قبل الجذاذ بجائحَةٍ، كما نقل ابن المنذرِ الإجماع عليه. انتهى ملخَّصاً.