الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب صدقة السر

          ░13▒ (بَابُ صَدَقَةِ السِّرِّ): / أشارَ بالتَّرجمتينِ إلى أن الصَّدقةَ مطلوبةٌ من الإنسان في السِّرِّ والإعلان، لكن بشرطِ أن يأمن في الثاني من الرِّياءِ والافتخار، بل لوجهِ الله الكريم الغفَّار.
          (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ☺): وصله المصنف من حديثٍ في باب الصدقة باليمين الآتي عقب بابين، ووصلهُ أيضاً في باب من جلس في المسجد ينتظرُ الصَّلاة بلفظ: ((ورجُلٌ تصدَّقَ أَخْفَى حتَّى لا تعلَمَ شِمَالُه ما تُنفِقُ يمِينُهُ)).
          (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: وَرَجُلٌ): واو الحكاية عاطفة له على ما قبلهُ في الحديث (تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ): نكرها للتعميم (فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لاَ تَعْلَمَ): بالنصب (شِمَالُهُ): بكسر المعجمة (مَا صَنَعَتْ): أي: أنفقتْ، وللكُشميهني: <ما تنفق>.
          (يَمِينُهُ): قال ابن بطَّال: هذا مثلٌ ضربه عليه السلام للمبالغةِ من إخفاء الصَّدقةِ لقرب الشَّمال من اليمين، وأرادَ لو قدر أن لا يعلم بصدقته من يكونُ على شمالهِ من النَّاسِ فعل نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]؛ لأن الشِّمالِ لا توصف بالعلمِ فهو من المجاز بالحذف؛ أي: ذو شمالهِ، ويحتملُ أنه استعارةٌ بالكناية وتخييل.
          وقال ابن المُنِير: أرادَ لو أمكن أن يخفِي صدقتهُ عن نفسه لفَعَل، فكيفَ لا يخفيها عن غيره؟ وإخفاؤها عن نفسهِ يكون بتغافُلِه عن صدقته وتناسيها، وهذا ممدوحٌ شرعاً وعرفاً.
          وفي ((مسند أحمد)): بسنده إلى أنس بن مالكٍ أن النَّبيَّ صلعم قال: ((لمَّا خَلَقَ اللهُ الأرضَ جعَلَتْ تَمِيدُ، فخَلَقَ الجِبَالَ فألقَاهَا علَيهَا فاستَقَرَّتْ، فتعجَّبَتْ المَلائِكَةُ من خَلْقِ الجِبَالِ، فقالتْ: يا رَبِّ، فهَلْ من خلقِكَ شَيْءٌ أشَدُّ من الجِبَالِ؟ فقال: نَعَمْ، الحَدِيدُ، قالت: يا رَبِّ فهَلْ من خلقِكَ شَيْءٌ أشَدُّ من الحَدِيدِ؟ قال: نَعَمْ، النَّارُ، قالت: يا ربِّ فهَلْ من خَلقِكَ شَيْءٌ أشَدُّ من النَّارِ؟ قال: نَعَمْ، الماءُ، قالت: يا ربِّ فهَلْ من خَلقِكَ شَيءٌ أشَدُّ من المَاءِ؟ قال: نعَمْ، الرِّيحُ، قالت: فهَلْ من خلقِكَ شَيْءٌ أشَدُّ من الرِّيحِ؟ قال: نَعَمْ، ابن آدَمَ يتصدَّقُ بيمِينِهِ فيُخفِيها بشمالِهِ)).
          (وَقَولِهِ): بالجر والرفع (╡: {إِنْ تُبْدُوا}): أي: تُظهِروا ({الصَّدقَاتِ}): أطلقها فشمل النفل والفرض ({فِنِعِمَّا هِيَ}): أي: فنعمَّ شيئاً إبداؤها لما فيها من دفع الشُّحِّ عنه، وللاقتداءِ به.
          ({وَإِنْ تُخْفُوهَا}): أي: تستروها يقال: أخفيتُ الشَّيء إخفاءً: سترته، وخفيَ خفاءً: استتر، وخفيته أخفيهِ خفياً: أظهرتُهُ ({وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ}): بالمعنى الشَّامل للمساكين ({فَهُوَ}): أي: فإخفاءُ الصَّدقةِ ({خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]): قال البيضاوي: وهذا في التَّطوُّع ولمن لم يعرف بالمال، فإن إبداءَ الغرض لغيره أفضلُ لنفي التُّهمةِ، وعن ابن عبَّاسٍ: صدقةُ السِّرِّ في التَّطوُّع تفضل علانيتها بسبعينَ ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيَّتها أفضلُ من سرِّها بخمسةٍ وعشرين ضعفاً.
          وقال في ((الفتح)): وهذه الآية ظاهرةٌ في تفضيل صدقة السِّرِّ أيضاً، ولكن ذهب الجمهورُ إلى أنَّها نزلت في صدقة التَّطوُّع، ونقلَ الطَّبريُّ وغيره الإجماعَ على أن الإعلانَ في صدقة الفرضِ أفضلُ، وصدقة التَّطوُّع بالعكسِ، وقال يزيد بن أبي حبيبٍ: نزلت الآية في الصَّدقةِ على اليهود والنَّصارى، قال: والمعنى: إن تؤتوها أهلَ الكِتَابَين ظاهرةً فلكم فضلٌ، وإن تؤتُوها فقراءكم سرًّا فهو خيرٌ لكم.
          ونقلَ الزجاج: أن إخفاءَ الزَّكاةِ زمن النَّبيِّ أفضلُ، فأما بعده فإنَّ الظَّنَّ يُساءُ بمن أخفاها، لكن قال ابن عطيَّةَ: يشبهُ في زماننا أن إخفاءَ صدقة الفرض أفضلُ، فقد كثُرَ المانعُ لها، وصار إخراجها عُرضةً للرِّياء، وقال الزين بن المُنِير: لو قيل: إن ذلك يختلفُ باختلاف الأحوال لما كان بعيداً، انتهى ملخَّصاً.
          وكذلك جميعُ الفرائِضِ والنوافل في الأشياءِ كلها.
          وهذه الآيةُ نزلت كما روى ابن أبي حاتمٍ عن الشعبي في أبي بكرٍ وعُمر ☻ أما عمر، فجاء بنصف مالِهِ حتى دفعهُ إلى النَّبي فقال له النَّبيُّ: ((ما خلَّفتَ وراءَكَ لأهلِكَ يا عُمر؟)) قال: خلَّفت لهم نصف مالي، وأما أبو بكرٍ فجاء بماله كلِّه فكاد أن يخفيهِ عن نفسه حتى دفعهُ إلى النَّبي فقال له فيه النَّبيُّ: ((ما خلَّفتَ وراءَكَ يا أبا بكرٍ؟)) قال: عدَّةَ الله وعدَّةَ رسولهِ، فبكى عمر، وقال: بأبي أنتَ يا أبا بكرٍ، والله ما استبقنا إلى باب خيرٍ قط إلا كنت سابقنا عليه.
          تنبيه: قال البيضاوي: قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل، وقرأَ أبو عمرو وأبو بكر وقالون بكسر النون وسكون العين، ورويَ عنهم بكسر النون وإخفاءِ حركة العين وهو أقيس.
          وفي بعض النسخ: <الآية> أي: اقرأ تمامَ الآية، وهو: ▬ونكفر عنكم من سيئاتكم↨ أي: نغفرُ لكم من ذنوبكم؛ لأجلِ صدقاتكم، قرأَ نافعٌ وحمزة / والكسائي: ▬ونكفرْ↨ بالنون وجزم الراء عطفاً على محل (({فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ})) أو: (({فَنِعِمَّا هِيَ})) وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة بالنون أيضاً، لكن برفع الراء على الاستئناف، وقرأَ ابن عامر وعاصم من رواية حفص بالمثناة التحتية والرفع على الاستئنافِ أيضاً فتأمَّله.
          {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271]: أي: لا يخفى عليه شيءٌ من عملِكُم من خيرٍ أو شرٍّ فيحصيه عليكم ليجازيكُمْ عليه.