الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب إثم مانع الزكاة

          ░3▒ (بَابُ إِثْمِ): بكسر الهمزة وسكون المثلثة؛ أي: عصيانِ (مَانِعِ الزَّكَاةِ): بإضافة ((مانع)) المفرد مراداً به الجنس فيشملُ الواحدَ والأكثر.
          قال في ((الفتح)): عبَّرَ المصنِّفُ بالإثم ليشمَلَ مَن تركها جحْداً، وإلا فلا، وذلك إذا حضرَ المال والمستحقُّون بعد الحول، قال الزَّين ابنُ المنير: هذه التَّرجمةُ أخصُّ من التي قبلها لتضمُّن حديثها تعظيم إثمِ مانعِ الزكاة، والتَّنصيصُ على عظيمِ عقوبتهِ في الدَّارِ الآخرة، وتبرِّي نبيِّهِ منه بقوله: ((لا أملِكُ لكَ من الله شيئاً))، وذلك مؤذِنٌ بانقطاعِ رجائهِ، وإنما تتفاوَتُ الواجباتُ بتفاوتِ المثوبات والعقوبات، فما شُدِّدت عقوبتهُ كان إيجابُه آكَدُ مما جاءَ فيه مطلق العقوبة، انتهى.
          وروى الطبراني في ((معجمه الصغير)) بسندٍ فيه سعد بن سنان مختلفٌ فيه، عن أنس رفعه: ((مانعُ الزَّكاةِ يوم القيامَةِ في النَّارِ))، وروى النَّسائي عن عليٍّ: ((أنَّ رسولَ الله صلعم لعَنَ آكِلَ الرِّبا وموكِلهُ وكاتبَهُ ومانع الزَّكاةِ)).
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): بجر ((قول)) عطفاً على ((إثم))، وبرفعه عطفاً على ((باب)) أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي: يدلُّ لذلك ({وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ}): بكسر النون ({الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}): بذكرِ هذه الآية والتي بعدها لغير أبي ذرٍّ، ورواها أبو ذرٍّ بلفظ: <{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}> والموصول المبتدأ مضمن معنى الشرط، ولذا دخلت الفاء في خبره، وهو: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ورجَّح الشُّمني أنه منصوبٌ بـ{بَشِّرْهُمْ} على سبيلِ الاشتغال.
          وقال أيضاً: وقرأ طلحة بن مصرف: {الذين} بلا واو، وفيه ما تقدَّمَ من الوجهين.
          والمرادُ بالموصول كما في البيضاويِّ كـ((الكشاف)): الكثيرُ من الأحبارِ والرُّهبان للدَّلالةِ / على اجتماع خصلتين مذمُومتين فيهم: أخذُ البراطيلِ وكنزُ الأموال والضَّنُّ بها عن الإنفاقِ في سبيل الخيرِ، ويجوزُ أن يرادَ بالموصول: المسلمون الكانزونَ المالَ الذين لا يؤدُّون حقَّهُ، ويكونُ اقترانه بالمرتشينَ من اليهودِ والنَّصارى تغليظاً، ودلالةً على أنَّ من يأخذ منهم ومن لا يُعطي منكم طيبَ ماله سواءٌ في استحقاق البشارةِ بالعذابِ الأليم.
          ويدلُّ عليه ما في البغويِّ عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال: لما نزلت هذه الآية كبُرَ على المسلمين وقالوا: ما يستطيع أحدٌ منَّا أن يدعَ لولدهِ شيئاً، فذكر ذلك عُمر لرسولِ الله صلعم فقال: ((إنَّ الله لم يَفرِض الزَّكاةَ إلا ليطيبَ بها ما بقِيَ من أموالِكُمْ)).
          والأولى عمومها في المسلمين والكُفَّار مطلقاً، ولذا قال في ((الفتح)): فيه تلميحٌ إلى تقويةِ قولِ من قال من الصَّحابة وغيرهم: إنَّ الآية عامَّةٌ في حقِّ المؤمنين والكافرين، خلافاً لمن زعمَ أنها خاصَّةٌ بالكفَّار، انتهى.
          وبالتَّعميم قال أبو هريرة لما سيأتي في التَّفسير عن زيد بن وهبٍ أنَّه قال: مررتُ على أبي ذرٍّ بالربذة فقلت: ما أنزلكَ هذه الأرض؟ فقال: كنَّا بالشَّام فقرأت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، فقال معاوية: ما هذا فينا، ما هذا إلا في أهلِ الكتاب، قلت: إنها لفينا وفيهم، ورواهُ ابن جرير، وزاد: فارتفعَ في ذلك القولُ بيني وبينه، فكتبَ إلى عثمان يشكُوني، فكتبَ إليَّ عثمانُ فأشخَصَني إلى المدينةِ، وأنزلني بالرَّبذة، انتهى ملخَّصاً.
          وقيل: الآية منسوخةٌ بآيةِ الزَّكاةِ، ويدلُّ له ما وردَ عن ابن عمر أنَّه سُئِل عن هذه الآية فقال: كان هذا قبل أن تنزلَ الزكاة، فلمَّا أنزلت جعلَها الله طهرةً للأموالِ، وقال أيضاً: ما أبالي لو كان لي مثل أُحُدٍ ذهباً أعلم عددهُ أزكِّيهِ وأعملُ بطاعةِ الله تعالى، وقال أيضاً: كلُّ مالٍ تُؤدَّى زكاتهُ فليس بكنزٍ وإن كان مدْفوناً، وكلُّ مالٍ لا تؤدَّى زكاتهُ فهو كنزٌ وإن لم يكن مدفوناً، ومثلهُ عن ابن عبَّاس، ويدلُّ لذلك أيضاً أن النَّبيَّ صلعم قال: ((نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجُلِ الصَّالِحِ)).
          وفي ((الاستذكار)): روى الثوري بسندهِ إلى عمر أنَّه قرأ آية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، فقال: ما أراها إلا منسوخةً بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103].
          وذكر ابنُ أبي حاتمٍ بسندهِ إلى ابن عبَّاس قال: لما نزلتْ آية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} كبر ذلك على المسلمين وقالوا: ما يستطيع أحدٌ منَّا لولده مالاً يبقى بعده، فقال عمر: أنا أفرِّجُ عنكم، فانطلقَ عمر واتبعه ثوبان، فأتى النَّبي فقال: يا نبيَّ الله إنَّه قد كبُرَ على أصحابكِ هذه الآية، فقال نبيُّ الله صلعم: ((إنَّ الله لم يفرِضْ الزَّكاةَ إلا ليطيِّبَ بها ما بَقِي من أموالِكُم، وإنما فَرَضَ الموارِيثَ من أموَالٍ تَبْقَى بعدَكُم))، قال: فكبَّرُ عُمر، ثمَّ قال له النَّبي: ((ألا أُخبِرُك بخيرِ ما يكنزُ المرء؟ المرأَةُ الصَّالحةُ التي إذا نظَرَ إليها سرَّتْهُ، وإذا أمرَهَا أطاعَتْهُ وإذا غابَ عنها حفِظَتْه))، ورواهُ أيضاً أبو داود وابن مردويه من حديثِ يعلى، وكذا الحاكمُ وقال: إنَّه صحيحٌ على شرطِ الشيخين لكن لم يُخرِجاه.
          وقال في ((الكشاف)) وعن النَّبيِّ صلعم: ((ما أُدِّي زكَاتُهُ فليس بكَنْزٍ وإنْ كان بَاطِناً ومَا بلَغَ أن يُزَكَّى فلم يزك فهو كنْزٌ وإن كَان ظَاهراً))، وعن عمر: أنَّ رجلاً سألهُ عن أرضٍ له باعها، فقال: احرز مالكَ الذي أخذت احفر له تحت فراشِ امرأتك، قال: أليس بكنزٍ؟ قال: ما أُدِّي زكاته فليس بكنزٍ، وعن ابن عمر: كلُّ ما أديت زكاته فليس بكنزٍ، وإن كان تحت سبعِ أرضين، وما لم تُؤدَّ زكاته فهو الذي ذكرَ الله، وإن كان على ظهرِ الأرض.
          فإن قلت: فما تصنعُ بما روى سالمُ بن الجعد أنَّها لما نزلت قال رسولُ الله صلعم: ((تبًّا للذَّهبِ تبًّا للفِضَّة)) قالها ثلاثاً، فقالوا له: فأيُّ مالٍ نتَّخذه؟ قال: ((لساناً ذاكِراً وقَلباً خاشِعاً وزوجَةً تُعِين أحدَكُم على دينِهِ)) وبقوله عليه السلام: ((من ترك صفراً أو بيضاً كوي))، وتوفِّي رجلٌ فوجد في مئزره دينارٌ فقال رسول الله: ((كيَّة))، وتوفي آخر فوجدَ في مئزره ديناران فقال: ((كيتان)).
          قلت: كان هذا قبل أن تُفرَض الزَّكاةُ، فأما بعد فرضِهَا فالله أعدلُ وأكرم من أن يجمعَ عبده مالاً من حيث أذنَ له فيه، ويؤدِّي عنه ما أوجبَ عليه فيه، ثمَّ يعاقبه، ولقد كان كثيرٌ من / الصحابة كعبدِ الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله يقتنون الأموال ويتصرَّفونَ فيها، وما عابهم أحدٌ ممن أعرضَ عن القنية؛ لأنَّ الإعراض: اختيارُ الأفضل، والاقتناءُ: مباحٌ لا يُذَمُّ صاحبه.
          تنبيه: الكنز لغة _كما في ((المحكم)) وغيره_ اسمٌ للمالِ المكنوز، ولما يحرزُ فيه، بل خصَّهُ بعضُهم بالثاني، وقيل: هو الذي لا يُدرَى من كنَزَهُ، وقيل: هو الفاضلُ عن الحاجةِ.
          وقال الطبريُّ: هو كلُّ شيءٍ مجموعٌ بعضُه إلى بعض في بطنِ الأرضِ أو ظهرها.
          وقال القرطبيُّ: أصله: الضم والجمع، ولا يختصُّ ذلك بالذَّهب والفضةِ، ألا ترى إلى قوله صلعم: ((ألا أُخبِرُكُم بخَيرِ ما يكنزُهُ المرءُ؟ المرأَةُ الصَّالحةُ))، الحديث المارُّ آنفاً؛ أي: يضمُّهُ لنفسهِ ويجمعه.
          وقيل: الكنزُ ما فوق أربعةِ آلاف، وأما هي وما دونها فهو نفقةٌ، وهو مرويٌّ عن علي.
          لكن قال في ((الكشاف)): إنه كلامٌ في الأكثر، والكنز المترتِّبُ عليه الوعيد: كلُّ ما لم تؤدَّ زكاتهُ، وإنما خصَّ الذَّهبَ والفضَّةَ بالذكر؛ لأنَّهما كما في ((الكشاف)): قانون التموُّلِ وأثمانُ الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدمْ سائرَ أجناسِ المال، وكان ذكرهما دليلاً على ما سوَاهما.
          قال العينيُّ: وسُمِّي الذَّهبُ ذهباً؛ لأنه يذهبُ ولا يبقى، وسمِّيت الفضَّةُ فضَّةً؛ لأنها تنفضُّ؛ أي: تنصرفُ، وحسبك دلالةً على فنائهما قوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا}، انتهى فليتأمَّل.
          فإن العلَّةَ في التَّسمية موجودةٌ في غيرهما، إلا أن يقال: علَّةُ التَّسميةِ لا يلزمُ اطرادها، ودلالةُ الآية على فنائهما غير ظاهرةٍ.
          ({وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}): الجار والمجرور متعلِّق بينفقون، وليس المرادُ بـ{سَبِيْلِ اللَّهِ} خصوص أحدِ الأصنافِ المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60]، بل المرادُ الأعم؛ لأنَّ صرفها لا يختصُّ بهم، لكنه نبَّهَ بالخاصِّ عليه، وضمير {يُنْفِقُونَهَا} المنصوب، عائدٌ إلى الكنوزِ المدلولِ عليها بـ{يَكْنُزُونَ}، وقيل: إلى الأموال مطلقاً، وهو بعيدٌ وإن ذكرهُ كثيرون؛ لأنَّ مانع زكاة السَّوائم عذابهُ غير الكي _كما يأتي_ بل الكيُّ للنقدين المترتِّب في الآية، فتأمَّله.
          وقيل: إلى الفضَّةِ، وحذف المقابل للعلمِ به بالأولى؛ أي: والذَّهبُ على حد:
وَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
          وقيل: إليهما ذهاباً إلى المعنى؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما عدة كثيرةٌ: دنانير ودراهم كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، وقيل: إليهما لتأويلها بالمذكورات.
          ({فَبَشِّرْهُمْ}): أي: أنذر الذين يكنزون، وسمَّاه بشارةً تهكُّماً ({بِعَذَابٍ أَلِيْمٍ}): أي: مؤلمٍ جدًّا، وهو الكيُّ بها كما أشارَ إليه في قوله تعالى: ({يَوْمَ يُحْمَى}): أي: وقت يوقدُ ({عَلَيْهَا}): يجري في هذا الضمير ما تقدم في ضمير: {يُنْفِقُوْنَهَا} والظرف متعلق بـ{أَلِيْمٍ}، وقيل: بيعذَّبون لدلالة عذابٍ أليمٍ عليه.
          قال في ((الكشاف)): فإن قلت: ما معنى قوله: {يُحْمَى عَلَيْهَا}؟ وهلا قيل: تحمِي من قولك: حَمي الميسم وأحميتُه ولا تقول: أحميتُ على الحديد؟ قلت: معناه: أنَّ النَّار يُحمى عليها؛ أي: توقد ذات حُمَّى وحر شديدٍ من قوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:11]، ولو قيل: يوم تُحمى ما يعطَ هذا المعنى.
          فإن قلتُ: فإذا كان الإحماء للنَّار فلم ذكرَ الفعل؟ قلت: لأنه مسندٌ إلى الجارِ والمجرور، وأصله: يوم يُحمَى النار عليها، فلمَّا حذفَتْ النار قيل: {يُحْمَى عَلَيْهَا} لانتقالِ الإسنادِ عن النَّار إليها، وعن ابنِ عامر أنه قرأ: ▬تحمى↨ بالمثناة الفوقية، انتهى.
          وأقول: ليتأمَّل قوله: معناهُ أن النَّار يُحمَى عليها، فإنه يقتضِي أن ضمير {عَلَيْهَا} راجعٌ إلى النار وكيف يلتئمُ مع قوله تعالى: ({فِي نَارِ جَهَنَّمَ}) إلا أن يجعلَ تجريداً، وكذا ليتأمَّل في قوله: ولا تقُلْ: أحميتُ على الحديد.
          وكذا ليتأمَّل في قول القسطلاني: أي: يوم توقدُ النار، وأصلهُ: تُحمى بالنارِ، فجعل الإحماءَ للنار مبالغةً، ثم طوى ذكر النَّارِ وأسند الفعلَ للجار والمجرور تنبيهاً على المقصود، انتهى فإنَّ الآية تدلُّ على أن الإحماءَ وقع على الذَّهبِ والفضَّةِ في النار، وذلك صادقٌ بأن تُحمى بالنَّارِ أو بغيرها.
          ({فَتُكْوَى}): بالمثناة الفوقية، وقرأ أبو حيوةَ كما في ((الكشاف)) بالمثناة التحتية، والكيُّ: إلصاق نحو النَّار بالعضو ليحترق ({بِهَا جِبَاهُهُمْ}) وقرئ بإدغام الهاء في الهاء ({وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}): جمع: جبهة وجنب وظهر، وخصَّ هذه الثلاثة؛ لأنها مجوَّفةٌ فتسرعُ الحرارة إليها، والكيُّ في الوجهِ أبشعُ، وفي الظَّهر والجنبِ آلمُ وأوجعُ.
          وقيل: لأن جمعهم وإمساكهم للمالِ كان لطلبِ الوجاهة بالغنى وللتنعُّم، وقيل: لأنَّ الغنيَّ إذا رأى الفقير قبضَ جبهتَه وولَّى ظهرهُ وأعرضَ عنه بشقِّه لشحه، وقيل: هو كنايةٌ عن استيعابِ البدنِ لما قيل: إنه لا يوضعُ دينارٌ على / دينارٍ، بل بجنبهِ فيوسع جلدهُ على قدرها، ويدلُّ له ما رواهُ ابن أبي حاتمٍ مرفوعاً بلفظ: ((ما من رجُلٍ يمُوتُ وعندَهُ أحمَرٌ أو أبيَضٌ إلَّا جعَلَ الله بكلِّ صفيحَةٍ من نارٍ تُكوَى بها قدمُهُ إلى ذقْنِهِ)).
          ({هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأِنْفُسِكُمْ}): أي: يقالُ لهم هذا الكلام توبيخاً لهم وقد كنزوهُ لينتفعوا به، فكان عذاباً عليهم ({فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34-35]): بكسر النون وقرئ بضمها؛ أي: وبالَ كنزكُم منفقها أو ما تكنزونهُ، فما مصدريَّة أو موصُوفة أو موصولة.
          قال العيني: واستدلَّ أبو بكرٍ الرازي بهذه الآيةِ على إيجابِ الزكاة في سائرِ الذهب والفضَّة مصوغاً أو مضروباً أو تبراً أو غير ذلك لعموم اللفظ.
          قال: ويدلُّ أيضاً على ضمِّ الذهب إلى الفضَّةِ لإيجابهِ الحقَّ فيهما مجموعين، فيدخلُ تحته الحليُّ أيضاً وهو قولُ أصحابنا، قال أبو حنيفة: يضمُّ بالقيمة كالعروض، وعندهما كالأجزاء، وكذلك مذهبُ المالكيَّة والحنابلة، وعندنا: لا يضمُّ لاختلافِ الجنس.
          وقال المهلَّبُ: في هذه الآية: فرضُ زكاة الذَّهَب، ولم ينقلْ عن النَّبيِّ زكاة الذَّهبِ من طريقِ الخبر كما نُقِل عنه زكاة الفضَّةِ، وهو قولهُ عليه السلام: ((في الرِّقَّة ربعُ العُشْرِ، وليس فيما دون خمسٍ أواق من الورَقِ صدقة)) إلا أنَّ قوله عليه السلام: ((من آتَاهُ الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَهُ)) يدخلُ في عمومهِ الذهب والفضة، وإنما لم يروِ زكاةَ الذَّهب بالنَّص عن النَّبيِّ لكثرة الدَّراهم بأيديهم دون الذَّهب، والله أعلم.
          وردَّ بما رواهُ ابن حبَّان والحاكم في ((صحيحيهما)): أن النَّبيَّ كتبَ إلى أهل اليمن بكتاب مطوَّلٍ فيه الفرائضُ والسنن والدِّيات، وفيه: ((وفي كلِّ أربعينَ ديناراً دينارٌ))، وكان صرف الدِّينار عشرةُ دراهم، فعدل المسلمون خمس أواق من الفضَّةِ عشرينَ مثقالاً، وأجمع المسلمون على أن نصاب الذَّهبِ عشرون مثقالاً، إلا ما رويَ عن الحسن: أنَّه لا زكاةَ فيما دون أربعين مثقالاً.