الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما أدى زكاته فليس بكنز

          ░4▒ (بَابٌ): بالتنوين (مَا أُدِّيَ): بالبناء للمفعول (زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ): أي: مذمومٍ شرعاً، و((ما)) موصولة مبتدأ، وجملة: ((فليسَ بكنزٍ)) خبره، ودخلتِ الفاء لما في المبتدأ من معنى الشَّرط، ويحتملُ أنها شرطيَّةٌ، وعلى الأول: يجوز إضافة ((باب)) إليها.
          قال العينيُّ: هكذا وقعَ عند أبي ذرٍّ، ووقعَ عند أبي الحسن: <باب من أدى زكاته فليس بكنز> أي: فليس بذي كنزٍ ليصحَّ الحمل.
          وقال في ((الفتح)): لفظ الترجمة لفظ حديثٍ رويَ مرفوعاً وموقوفاً عن ابن عُمر، أخرجه مالك عنه، وأخرجهُ أيضاً ابن أبي شيبةَ عن ابن عبَّاسٍ موقوفاً.
          (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم): أي: في حديثِ الباب (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ): بالفوقية، ولأبي ذرٍّ والأصيلي بحذفها (أَوَاقٍ): بحذف التحتية من آخره، ولأبي ذرٍّ بإثباتها مشددة ومخففة؛ أي: من الورق، كما في رواية.
          و((أواق)) بقصر الهمزة منقوص، جمع: أُوقيَّة _بضم أوله وتشديد التحتية وقد تخفف_ أربعون درهماً في عصرهِ عليه السلام.
          قال ابن السِّكِّيت: كل ما كان من هذا النوع جاز في جمعه التشديد والتخفيف كالسَّريَّة والسَّراري، ويجوزُ أن يقال: وَقية _بفتح الواو وحذف الهمزة_ وجمعها: وقايا، مثل: ضَحيَّة وضحايا.
          (صَدَقَةٌ): أي: زكاةٌ، فليس بكنزٍ، كما إذا بلغ خمسة أواقٍ فأكثر وأُدِّيتْ زكاته.
          قال ابن بطَّال وغيره: وجه استدلالِ البخاري بهذا الحديث أن الكنزَ المنفيَّ هو المتوعد عليه الموجبُ لصاحبه النَّارَ لا مطلق الكنز، وحينئذٍ فحديثُ: ((لا صَدَقَةَ فيما دُونَ خمسِ أواقٍ)) مفهومهُ: أن ما زاد / على الخمسِ فيه الصدقة، فإذا أخرجتْ منه فلا وعيدَ على مخرجه، وما فضلَ عن المخرج لا يسمَّى كنزاً فلا يذمُّ فاعله.
          وفي ((المصابيح)): قال الإسماعيلي: إن كانت التَّرجمةُ صحيحةً فالمعنى من هذا الوجهِ غير صحيحٍ وأحسبهُ: وقال النَّبي كذا، أو يقول، يريدُ أن تعليل التَّرجمةِ بالحديثِ غير ملائمٍ، وردَّ: بأن البخاريَّ أراد أن ما دون خمس أواقٍ ليس بكنزٍ؛ لأنَّهُ لا صدقة فيه، انتهى.
          وفي البابِ عن جابر أخرجه الحاكم بلفظ: ((إذا أدَّيتَ زَكاةَ مالِكَ فقد أذهبتَ عنك شرَّهُ))، وأخرجه الترمذيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ عن أبي هريرة بلفظ: ((إذا أدَّيتَ زكاةَ مالِكَ فقد قضَيتَ ما عليكَ))، وصحَّحه الحاكمُ، ورواه أيضاً عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ: ((ما بلَغَ أن تُؤدِّي زكاتَهُ فزكِّي فليس بكَنزٍ))، ورجالهُ رجال البخاري، ولعلَّ البخاريَّ أشارَ بالتَّرجمةِ إليه، وهو أولى من كونه أشارَ إلى حديثٍ رواه أحمد بسندٍ ضعيفٍ عن جابرٍ مرفوعاً بلفظ: ((أيُّما مالٍ أدَّيتَ زكاتَهُ فليس بكَنزٍ))، لكنه أقربُ إلى لفظ التَّرجمةِ، فتأمَّله.
          تنبيه: قال ابن بطَّال: اختلفَ السَّلفُ في معنى الكنز، فقال بعضهم: هو كلُّ مالٍ وجبتْ فيه الزكاة فلم تؤدَّ زكاته، ومعنى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] لا يؤدُّونَ زكاتها، وهذا قول عُمر وابنه وابن عبَّاس وعبيد بن عمير وجماعة.
          وقال آخرون: الكنزُ: ما زادَ على أربعة آلاف درهمٍ فهو كنزٌ وإن أُدِّيت زكاته، رواهُ جعدة بن هُبيرة عن عليِّ بن أبي طالبٍ، وقال آخرون: الكنزُ: ما فضُلَ عن حاجةِ صاحبه إليه، وهذا مذهبُ أبي ذرٍّ، روي أن نعل سيفِ أبي هريرة كان من فضَّةٍ، فنهاهُ عنه أبو ذرٍّ وقال: إن رسولَ الله صلعم قال: ((من تركَ صَفراءَ أو بيضَاءَ كُوِي بها)).
          واتَّفق أئمَّة الفتوى على قول عمر وابنه وابن عبَّاس، واحتجَّ له الطَّبريُّ بنحو ما نزعَ له البخاريُّ فقال: الدَّليلُ على أن كلَّ ما أدِّيت زكاتهُ فليس بكنزٍ: إيجابُ الله على رسوله في كل خمس أوانٍ ربع عشرها، فإذا كان ذلك فرضُ الله، فمعلومٌ أن الكنزَ _وإن بلغ الوفاء_ إذا أُدِّيت زكاتهُ فليس بكنزٍ حرامٍ؛ لأنَّ الله لم يتوعَّد عليه بالعقابِ، انتهى ملخَّصاً.