الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع

          1398- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ): بفتح الحاء المهملة وتشديد الجيم الأولى؛ أي: ابن منهال (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ): قال: (حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ): بفتح الجيم وسكون الميم وبالراء؛ أي: نصرُ بن عمران الضَّبعي.
          (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ☻ يَقُولُ: قَدِمَ): بكسر الدال (وَفْدُ): بفتح الواو وسكون الفاء؛ أي: جماعةُ (عَبْدِ الْقَيْسِ): أبو قبيلة، وكانوا أربعةَ عشر رجلاً، وقيل: أربعون، ولا منافاةَ؛ لأنَّ العدد لا مفهومَ له على الصَّحيح، أو لأنَّ لهم وفادتين، أو لأنَّ الأربعة عشرَ أشرافهم.
          (عَلَى النَّبِيِّ صلعم فَقَالُوا): أي: الوفدُ المذكور (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ): ولأبي ذرٍّ: <إنَّا هذا الحي> بألف بعد النون المشددة، فعليه: ((هذا الحي)) نصب على الاختصاصِ، ((هذا)) اسم ((إن))، و((الحيَّ)) بالنصب نعتٌ له لا خبر لإن كما قال الكرماني ومن تبعَه، لكن قد يؤيِّدهُ ما جاءَ في رواية: ((إنا حي من ربيعة))، فتأمَّله.
          وعلى الروايتين بل الثالثة الآتية أيضاً في كلام شيخ الإسلام الأولى أن تكون (مِنْ رَبِيعَةَ): صفة للحي أو حالٌ منه لا خبر لـ((إن)) على الرواية الثانية فقط _كما قاله القسطلانيُّ تبعاً للعيني_ بل خبرها عليهما جملة: (قَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، كُفَّارُ مُضَرَ)، فافهم.
          وعبارةُ شيخِ الإسلام: بنصب ((الحي)) وصف لاسم ((إن))، وفي نسخة: <إنا هذا الحي> فاسم ((إن)) الضمير، وما بعده منصوب في نسخة على الاختصاصِ، ومرفوع في أخرى خبر ((إن)) وخبرها على النُّسخ الثلاث قوله: ((من ربيعة))، وقوله: ((قد حالت بيننا وبينك كفَّار مضر)) لكن أولهما: خبر أول، وثانيهما: خبر ثان على النُّسختين الأوليين، وأولهما: خبر ثان، وثانيهما: خبر ثالث على الثالثة، انتهى.
          وما قلناهُ أولى مما قالوهُ جميعاً، فافهم، ومضر ممنوعٌ من الصَّرف للعلمية والعدل التقديري.
          تنبيه: الحي في الأصل اسمٌ لمنزلِ القبيلة، ثمَّ سُمِّيت القبيلةُ به؛ لأنَّ بعضَهم يحيى ببعضٍ، فهو مجازٌ مرسلٌ من تسميةِ الحال باسم المحلِّ، لكنَّهُ صار حقيقةً عرفيَّةً.
          (وَلَسْنَا نَخْلُصُ): بضم اللام؛ أي: نصلُ (إِلَيْكَ إِلاَّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ): أل للجنس، فيشملُ الأشهر الأربعة الحرم، وسُمِّيت بذلك لحرمةِ القتالِ فيها، كذا قاله القسطلاني كالعينيِّ.
          وقال شيخُ الإسلام: هو في ذاته يشملُ الأربعة الحُرُم، لكن المرادَ هنا: رجب، كما رواهُ البيهقي، انتهى.
          (فَمُرْنَا بِشَيْءٍ نَأْخُذُهُ عَنْكَ): برفع ((نأخذُه)) في الأصول، ويجوز الجزم كما مرَّ في الإيمان في قوله: فمرنا بأمرٍ فصل نخبرُ به من وراءنا، لكن يبعدهُ إثبات الواو هنا في: ((وندعو))، فافهم.
          (وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا): أي: من قومنا، أو من البلادِ النَّائيةِ أو الأزمنةِ المستقبلة، فمَن _بفتح الميم_ موصولة أو موصوفة.
          (قَالَ): عليه الصَّلاة والسَّلام (آمُرُكُمْ): بمد الهمزة (بِأَرْبَعٍ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ): ثمَّ فصَّلها على اللف والنَّشرِ المرتَّبِ، فقال: (الإِيمَانِ بِاللَّهِ): بجر ((الإيمان)) بدلاً وبالرفع خبراً لمحذوف (وَشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَعَقَدَ بِيَدِهِ هَكَذَا): أي: كما يعقدُ الذي يعدُّ واحدة، والواو في قوله: ((وشهادة)) للعطفِ التفسيري لقوله: ((الإيمان)).
          وقال ابنُ بطَّال: هي كالمقحمة كما في: فلان حسنٌ وجميلٌ؛ أي: حسن جميل.
          (وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ): بخفض ((إقامِ)) و((إيتاءِ)) في ((اليونينية))، وفي الأخيرة المطابقة.
          (وَأَنْ تُؤَدُّوا): بالدال المهملة المشددة؛ أي: وأن تعطوا (خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ): ذكر لهم هذه الخصلةِ؛ لأنَّهم كانوا أهل جهادٍ وغنائمَ لمقاتلتهم لكفَّارِ مضر، ولم يذكر في هذه الرواية صيامَ رمضان إما اختصاراً من الراوي، أو لغفلته، واستشكلَ عدم ذكرهِ الحجَّ.
          وأجيب: بأنَّه تركهُ لشهرته عندهم، أو لأنَّهُ على التَّراخِي، أو لغير ذلك مما مر.
          (وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ): بضم الدال المهملة وتشديد الموحدة والمد، وقد يقصر، / وهي القرع مطلقاً، والمرادُ هنا: القرع اليابس، وسقط من بعض الأصول؛ أي: عن الانتباذِ في آنيته، وكذا يقدر فيما بعده. ولعله أعاد: ((وأنهاكم)) لطول الفصل.
          وخرجَ بفعل الانتباذ فيها: اتِّخاذها لغير ذلك فليس بمنهيٍّ عنه، وفيه: إشارةُ إلى جوازِ الانتباذ في غيرها، بل وفيها؛ لأنه قد نسخَ بخبر مسلمٍ من حديث بريدة رفعه: ((كنت نَهيتُكُم عن الانتِبَاذِ إلَّا في الأسقيَةِ، فانتبذوا في كلِّ وعاءٍ ولا تشربوا مُسْكراً)).
          (وَالْحَنْتَمِ): بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح المثناة الفوقية، الجرار الخضْر (وَالنَّقِيرِ): بفتح النون وكسر القاف، جذعٌ ينقرُ وسطه فينبذُ فيه (وَالْمُزَفَّتِ): بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الفاء المفتوحة؛ أي: المطلي بالزِّفت، نهى عن الانتباذِ فيها؛ لأنها يسرع التَّخميرُ فيها، فربَّما شربَ منها من لا يشعرُ بذلك فيسكر.
          وتقدم الكلام على ذلك مستوفًى حيث أخرجهُ المصنف في كتاب الإيمان، في باب أداء الخمس من الإيمان عن عليٍّ ☺.
          (وَقَالَ سُلَيْمَانُ): أي: ابن حرب (وَأَبُو النُّعْمَانِ): بضم النون، محمد بن الفضل السَّدوسي، وهما من شيوخ البخاري، وقد رواه المصنف في المغازي عنهما بلفظ: حدَّثنا، وحينئذٍ فلا يكون ما هنا تعليقاً كما يفهمه كلام الشُّرَّاح، إلا أن يثبت أن المصنِّف رواه عنهما هنا بواسطةٍ، والظَّاهرُ: أنَّه وقع على سبيلِ المذاكرة، فتأمَّله.
          (عَنْ حَمَّادٍ): أي: ابن زيدٍ بالإسناد المذكور في طريق حجَّاجٍ المارِّ آنفاً (الإِيمَانِ بِاللَّهِ): بجر ((الإيمانِ))، و((شهادةِ)) على البدلية من ((أربع)) للأكثر وبرفعهما لأبي ذرٍّ خبراً لمحذوف (شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ): يعني وافق سليمان وأبو النعمان حجَّاجاً على سياقِ الحديث، إلا في الواو في ((وشهادة)) فحذفاها، قال في ((الفتح)): وحذفها أصوبُ.
          قال الكرماني: وجهه على تقدير الواو أنه عطفٌ تفسيري للإيمان، أو أن ((الإيمان)) ذُكِر تمهيداً للأربعة؛ لأنَّهُ الأصلُ لها، سيما والوفدُ كانوا مؤمنين عند السُّؤال، فابتداءُ الأربعة من الشَّهادة أو ((الإيمان)) واحد، والشَّهادةُ جزءٌ منها، ولزومُ كون المأمورِ به خمساً لا أربعاً سبقَ الأجوبة عنهُ في أول كتابِ العلم.