الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {فأما من أعطى وأتقى}

          ░27▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى}): أي: مالهُ لوجهِ الله تعالى، قيل: هو أبو الدَّحداح، أعطى من فضلِ ماله، وقيل: أعطى الصدقَ من قلبهِ، وقيل: حقُّ الله، وقال قتادة: أعطى حقَّ الله تعالى.
          ({وَاتَّقَى}): أي: واجتنبَ محارمهُ، وأعظمها الشِّرك ({وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}): أي: بالمجازاةِ وبالخلف من الله تعالى، وقيل: بالكلمةِ الحسنى، وهي كلمةُ لا إله إلا الله.
          وقال مجاهدٌ: {وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} / بالجنة، وقال قتادة: {صَدَّقَ بِالحُسْنَى} بموعودِ الله على نفسه فعمل بذلك الموعودِ، وقيل: بنعَمِ الله، وقيل: بالصلاة، وقيل: بالصلاة والزكاة والصوم. وذكر الطَّبريُّ أنَّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق.
          وذكر أبو الليث السَّمرقندي في ((تفسيره)) عن ابن مسعودٍ: أنَّ أبا بكر اشترى بلالاً من أميَّة وأتى ابني خلف ببردةٍ وعشرة أواق ذهب، فأعتقهُ لله تعالى، فأنزَلَ الله تعالى هذه السورة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فمن أعطى واتقى وصدَّقَ بالحسنى هو أبو بكرٍ، ومن بخلَ واستغنى وكذَّب بالحسنى هو أميَّة وأخوه ابنا خلف، انتهى.
          ({فَسَنُيَسِّرُهُ}): سنهيِّئه في الدُّنيا ({لِلْيُسْرَى}): أي: للخصلة التي توصلُهُ إلى اليُسرِ والرَّاحَةِ في الآخرة، وهي الأعمال الصَّالحةُ المسبِّبةُ لدُّخول الجنَّة ({وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ}): بكسر الخاء؛ أي: بما أُمِر به من الإنفاقِ في الخيرات ({وَاسْتَغْنَى}): أي: بالدُّنيا عن العقبى.
          ({وَكَذَّبَ}): بتشديد الذال ({بِالْحُسْنَى}): تقدَّم المرادُ منها كاليسرى ({فَسَنُيَسِّرُهُ}): أي: في الدنيا ({لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10]): أي: للخلَّةِ المؤدية إلى المشقَّةِ في الآخرة، وهي الأعمالُ السَّيِّئة المسببة لدخولِ النار، وقيل: للعود للبخل، وقيل: في الآخرة بدخولهِ جهنَّمَ، وإطلاق التَّيسير في العسرى للمشاكلة، أو على سبيل التَّهكُّم على حدِّ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21].
          (اللَّهُمَّ أَعْطِ): بقطع الهمزة (مُنْفِقَ مَالٍ خَلَفاً): بخفض ((مال)) على الإضافة للأكثر، وفي غير ((اليونينية)) لأبي الوقت: <منفقاً مالاً> بنصبه على المفعولية لمنفقاً المنون.
          قال في ((الفتح)): بدليل رواية الإضافة، ولولاها احتملَ أن يكون ((مالاً)) مفعول ثان لـ((أعط)) أي: و((خلفاً)) نعته، قال: والأوَّلُ أولى من جهةِ أن سياق الحديثِ للحضِّ على إنفاقِ المال، فيناسبُ أن يكون مفعول ((منفق))، وفي بعض الأصولِ: <منفق ماله> بإضافة ((مال)) إلى ضمير الغيبة، وأبهم الخلف ليشملَ المال في الدُّنيا والثواب المعدَّ له في الآخرةِ ودفعَ السوء عنه.
          قال البرماويُّ _تبعاً للكرماني_ في قوله: ((اللهم أعطِ... إلخ)) معطوفٌ على: ((قول الله)) بحذف العاطف وهو جائزٌ كما مر في حديث التَّشهُّد، أو مذكورٌ على وجه التَّعداد، أو بيانٌ للحسنى فكأنَّهُ يشيرُ إلى أن قول الله مبيَّنٌ بالحديث، انتهى.
          وفي الوجهِ الأول شيءٌ؛ لأن حذف العاطف وحدهُ لا ينقاسُ في النَّثر.
          وقال في ((الفتح)): والذي يظهرُ لي: أنَّ البخاريَّ أشارَ بذلك إلى سبب نزول الآية المذكورة، وهو بين فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدَّرداء مرفوعاً نحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وزادَ في آخره: ((فأنزل الله في ذلك: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلى قوله: العسرى)).