الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب العرض في الزكاة

          ░33▒ (بَابُ الْعَرْضِ): أي: جواز أخذهِ (فِي الزَّكَاةِ): وهو بفتح العين المهملة وسكون الراء فضاد ساقطة: ما عدا النَّقدين اللَّذين بهما تقومُ الأشياء، وأمَّا بفتح الراء فيطلقُ على ما يقابلُ الجوهر والجسم.
          وقال الكرمانيُّ: هو ما كان عارضاً لك من مالٍ قلَّ أو كثر، يقال: الدُّنيا عرض حاضرٌ يأكل منها البر والفاجر، قال: فكل عرْض _بالسكون_ عرَض _بالفتح_ بدون العكس. انتهى.
          وقال ابن قَرْقُول: قوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس الغِنى عن كَثْرَة العَرَض)) بفتح الراء؛ يعني: كثرة المالِ والمتاعِ، وسمي عرضاً؛ لأنَّه عارضٌ يعرضُ وقتاً ثم يزولُ ويفنى، ومنه قوله: ((يبيعُ دينه بعرَضٍ من الدُّنيا)): أي: بمتاع منها.
          فإن قال أبو زيد: والعرضُ: ما عدا العين، وقال الأصمعيُّ: ما كان من مالٍ غير نقدٍ، وقال أبو عُبيد: هو ما عدا الحيوان والعَقَار والمكيلِ والموزون.
          وقال في ((الصحاح)): العرَضُ: المتاعُ وكلُّ شيءٍ فهو عرَض سوى الدَّراهم والدنانير؛ فإنها عين. انتهى.
          وأما العِرض _بكسر العين_ فيطلقُ على النفس، يقال: أكرمتُ عرضِي عنه؛ أي: صنت نفسِي عنه، ويُطلق على حسب الشَّخص، وقولهم: فلان نقي العرض يحتملُ الأمرين خلافاً لمن قصره على الأول، وأما العُرض _بضم العين_ فهو ناحيةُ الشَّيء من أي وجهٍ، ورأيته في عُرض الناس؛ أي: بينهم.
          تنبيه: مذهبُ المصنِّف: جواز أخذ القيمةِ والعروضُ في الزكاة.
          وقال في ((الفتح)) نقلاً عن ابن رشيد: وافقَ البخاري الحنفيَّة في هذه المسألة مع كثرَةِ مخالفته لهم، لكن قادَهُ إلى ذلك الدَّليل، وأجابَ الجمهور عن قصَّة معاذ وعن الأحاديثِ كما سيأتي عقب كل منها.
          وقال العيني: من جملة ما قالوا أنه مرسلٌ.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ): أي: ابن كيسان مما رواه يحيى بن آدم في كتاب ((الخراج)) له (قَالَ مُعَاذٌ): أي: ابن جبل (☺ لأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضٍ، ثِيَابٍ): بدل من عرض أو عطف بيان، وجوَّز بعضُهم إضافة عرض الثِّياب إضافة بيانية.
          (خَمِيصٍ): بفتح الخاء المعجمة آخره صاد مهملة، اسم جنس جمعِي، الواحدة خميصَة، بيان لسابقهِ أو بدل، وذكرهِ لإرادة الثوب وهو _كما قال الكرمانيُّ_ كساء أسودُ مربَّع له علمان، والمشهور: خميس _بالسين المهملة_ بل قال ابنُ التين: لا وجه لكونه بالصَّاد، قال: فإن صحَّت الرواية بالصاد فيكون مذكر الخميصة فاستعارها للثَّوب.
          وقال ابن بطَّال: الصَّواب: بالسين، كذلك فسَّره أبو عُبيد وأهل اللغة. انتهى.
          ويقال له أيضاً: خموس _بالواو_ وهو الثوب الذي طوله خمسة أذرع، قال أبو عُمر: أول من عملها باليمن ملك يقال له: الخميس.
          (أَوْ لَبِيسٍ): الظاهر أن ((أو)) للتنويع، وهو بفتح اللام؛ أي: ملبوس.
          وقال ابنُ التين: لو أراد الاسم لقال: لبوس؛ لأن اللبوس: كل ما يلبس من ثياب ودروع.
          (فِي الصَّدَقَةِ): أي: الزكاة (مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ): بضم الذال المعجمة، معروفة كسابقها (أَهْوَنُ): أي: أسهل، خبر لمحذوف؛ أي: هو (عَلَيْكُمْ): لم يعبر باللام؛ لأن على تشعر بالتسلط (وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلعم بِالْمَدِينَةِ): لأن مؤنة النقل ثقيلة فرأى الأخف في ذلك خيراً من الأثقل.
          قال في ((الفتح)): هذا التعليق صحيحُ الإسناد إلى طاوس، لكن طاوساً لم يسمعْ من معاذ فهو منقطعٌ، فلا يغتر بقول من قال: ذكره البُخاري بالجزم فهو صحيحٌ عنده؛ لأن ذلك لا يفيد الصَّحة إلا إلى من علَّق عنه دون باقي الإسناد، إلا أن إيراده له في معرضِ الاحتجاج يقتضِي قوته عنده، وكأنه لاعتضادِهِ عنده. انتهى.
          ثم قال: قوله: ((في الصدقة)) يرد قول من قال: إن ذلك في الخراجِ، وحكى البيهقي أن بعضَهم قال فيه: ((من الجزية)) بدل: الصَّدقة، فإن ثبت ذلك سقط به الاستدلال، لكن المشهور الأول.
          وأجاب الإسماعيليُّ: باحتمال أن المعنى: أخذه منكم شراً من مال الصدقة الذي أخذته؛ لأنه أنفعُ، / ويؤيِّده أنها لو كانت من الزكاة لم تكن مردودة على الصَّحابة، وقد أمره النَّبي أن يأخذَ الصَّدقة من أغنيائهم فيردها على فقرائهم.
          وأُجيب: بأنه لا مانعَ من أنه كان حملَ الزكاة إلى الإمام ليتولى قسمتها، ولا دليلَ في قصة معاذ على جواز نقلِ الزكاة كما يقول الحنفيَّة وكثيرون؛ إما لأنَّ هذا حمل إلى الإمام وهو يجوزُ له نقلها اتِّفاقاً؛ وإما لأنَّ هذا اجتهاد من معاذ فلا حجَّة فيه، وردَّ: بأنه كان أعلمَ الناس بالحلالِ والحرام، وقد بيَّن له النَّبي عليه السلام ما يصنعُ لما أرسله إلى اليمن.
          وقال ابن بطَّال: واحتجَّ المخالفون لهذا الحديث فقالوا: حديث معاذ خاصٌّ له لحاجةٍ علمها بالمدينة، وكذلك أخذ عمر العروض على وجهِ التَّطوع لا على الفريضة، وقالوا في حديث أنس: لم يعمل به أهل المدينة ولا أمر أبو بكر ولا عمر به السعاة، فوجبَ تركه لمعنى علموه. انتهى.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ:(صلعم أي: في حديث أبي هريرة الآتي موصولاً في باب قول الله: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] (وَأَمَّا خَالِدٌ): أي: ابن الوليد (احْتَبَسَ): بمثناة فوقية بعد الحاء؛ أي: وقف يتعدى ولا يتعدَّى، وحبسَه واحتبسَه بمعنى، وهو جواب ((أما)) وترك الفاء قليل، ولأبي ذرٍّ والوقت: <فقد احتبسَ>.
          (أَدْرَاعَهُ): جمع درع، وهي الزَّردية (وَأَعْتُدَهُ): بضم المثناة الفوقية، جمع عَتَد _بفتحتين_ ولأبي ذرٍّ: <وأعتِده> بكسر التاء، ولمسلم: ((أعتاده)) جمع عِتاد _بكسر العين_ لكن نقلَ ابن الأثير عن الدَّارقطني أن أحمد صوَّب الأول، وأن عليَّ بن حفص أخطأَ في قوله: ((وأعتاده)).
          وقال بعضهم: إنما حكى أحمد عن ابن حفص: ((وأعتده))، وأن الصَّواب: ((وأعبده)) بالموحدة، لكن الحق أنه لا وهمَ مع صحة الرواية والمعنى.
          وقال الكرماني: والأعتُد _بضم الفوقية_ جمع العتاد نحو العناق والأعنق، وهو آلة الحرب وقد يجمع على أعتدة نحو: زمان وأزمنة، وفي بعضها: ((وأعبده)) جمع: عبد ضد الحر. انتهى.
          وقال الدَّماميني: ويروى: ((أعبده)): بباء موحدة جمع عبد.
          قال الزركشيُّ: وصحَّحه ابن مفوز وأفردَ فيه مصنفاً، وقال غيرُه: الأعتد: ما يعدُّه الرجل من الدَّواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة.
          وقوله: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ): متعلق بـ((احتبس)).
          قال النووي: طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظناً منهم أنها للتجارة، فقال لهم: لا زكاةَ علي، فقالوا للنَّبي صلعم: إن خالداً منع، فقال: إنَّكم تظلمونه إنه حبسَها ووقفها في سبيلِ الله قبل الحول فلا زكاةَ فيها، ويحتملُ أن المراد: لو وجبَتْ عليه زكاة لأعطاها؛ لأنه وقفَ أموَاله لله تعالى متبرعاً، فكيف يشحُّ بواجب عليه؟.
          ووجه دَلالته على الترجمةِ _كما قال الكرمانيُّ_ أنه لولا وقفه لهما لأعطَاهما في الزكاة، أو أنه لما صحَّ صرفهما في سبيلِ الله وقفاً صحَّ صرفهما للزكاة؛ لأنهما أيضاً سبيل الله، أو لأن سبيل الله أحد مصارفهِ الثمانية.
          وبه يندفع ما قال في ((المصابيح)): لا أدري كيف ينتهضُ حديث وقف خالد لأدراعهِ وأعتُده دليلاً للبخاري على أخذ العرض في الزكاة؟ فتأمله. انتهى.
          واستشكله ابنُ دقيق العيد: بأنه إذا حبسَ تعيَّن مصرفه من حيث التَّحبيس، فلا يكون مصرفاً من جهةِ الزكاة، ثم أجابَ باحتمال أن المرادَ بالتَّحبيس: الإرصاد لذلك لا الوقف.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ:(صلعم مما وصله المصنف في العيدين عن ابن عباس (تَصَدَّقْنَ): أمر لهنَّ بالصَّدقة (وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ): بضم الحاء المهملة وكسر اللام وتشديد التحتية، جمع حَلْي _بفتح فسكون_.
          وقوله: (فَلَمْ يَسْتَثْنِ): بفتح أوله؛ أي: النبي صلعم (صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا): من كلام البخاري، ولأبي ذرٍّ: <صدقة العرض> بالعين المهملة بدل الفاء.
          وقوله: (فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ...إلخ): من الحديث (تُلْقِي): بضم الفوقية (خُرْصَهَا): بضم الخاء المعجمة مضافاً للضمير: حلقتها في أذنها (وَسِخَابَهَا): بكسر السين المهملة فخاء معجمة خفيفة؛ أي: قلادتها.
          وقوله: (وَلَمْ يَخُصَّ): بضم الخاء المعجمة وكسرها؛ أي: النبي صلعم (الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْعُرُوضِ): أي: عن العروض، من كلام المصنف ذكره _كسابقه_ للاستدلال على الترجمة؛ لأن السخاب ليس بذهب ولا فضَّة بل مسك وقرنفل ونحوهما.
          قال في ((الفتح)): وهو مصير منه إلى أن مصارفَ الصَّدقة الواجبة كمصارف صدقةِ التَّطوع بجامع ما فيهما من قصدِ القُرْبة والمصروف إليهم بجامعِ الفقر والاحتياج، إلا ما استثناهُ الدليل. انتهى.
          ثم قال: ويمكنُ أن يكون تمسَّك بقوله: ((تصدَّقنَ)) فإنه مطلق يصلحُ لجميع أنواع / الصَّدقات واجبها ونفلها، وجميع أنواع المتصدِّق به عيناً وعرضاً، ويكون قوله: ((ولو من حليكُنَّ)) للمبالغة؛ أي: ولو لم تجدْنَ إلا ذلك، والبُخاري _فيما عرف بالاستقراء من طريقتهِ_ يتمسَّكُ بالمطلقات تمسك غيره بالعمومات. انتهى.
          لكن قال بعضهم: قوله: ((ولو من حليكنَّ)): يدل على أنها لم تكن صدقة محدودة على حدِّ الزكاة، فلا حجَّة فيه، والصَّدقة إذا أطلقَتْ حملت على التَّطوع عرفاً؛ ولأنه لو كان للإيجابِ لكان مقدراً، وكانت المجازفةُ فيه وقبول ما تيسَّر غير جائز.