الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أرب ماله تعبد الله ولا تشرك به شيئًا

          1396- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ): مكبَّراً؛ أي: الحوضي، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ): أي: ابن الحجَّاج (عَنِ ابْنِ عُثْمَانَ): بضم العين فمثلثة ساكنة، ولأبوي ذرٍّ والوقت: <عن محمد بن عثمان> (ابنِ عَبْدِ اللَّهِ): مكبَّراً (ابنِ مَوْهَبٍ): بفتح الميم والهاء بينهما واو ساكنة وآخره موحدة، ولفظ ((ابن)) مذكور ثلاث مرات.
          (عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ): مكبَّراً؛ أي: ابن عبيد الله _مصغَّراً_ القرشي الكوفي، مات سنة أربع ومائة (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ): هو: خالدُ بن زيد بن كليب الأنصَاري (☺)، وتقدم.
          (أَنَّ رَجُلاً): حكى ابن قتيبة في ((غريب الحديث)): أنه أبو أيوب الراوي، وغلَّطهُ بعضهم، وليس في محلِّه، إذ لا مانعَ أن يبهم الراوي نفسهُ لغرضٍ، ولا يبعِدُهُ وصفُهُ في حديثِ أبي هريرة الآتي قريباً بكونِهِ أعرابيًّا؛ لأنه لا مانعَ من تعدُّدِ القصة، فيكونُ السَّائل في حديثِ أبي أيوب هو أبو أيوب نفسه، والسَّائلُ في حديثِ أبي هريرة أعرابيٌّ آخر، فقد ذكرَ البغويُّ وابن السَّكنِ والطبراني في ((الكبير)) وغيرهم بأسانيدهم عن المغيرةِ بن عبد الله اليشكري: أنَّ أباه قال: انطلقتُ إلى الكوفةِ فدخلتُ المسجدَ فإذا رجلٌ من قيس يقال له: ابن المنتفِقِ وهو يقولُ: وصَفَ لي رسولُ الله فطلبته فلقيتهُ بعرفات، فتزاحمت عليه، فقيل لي: إليكَ عنه، فقال: ((دَعُوا الرَّجُلَ أرِبَ مَا لهُ)) قال: فزاحمتهم عليه حتى خلصتُ إليه، فأخذت بخطامِ راحلته فقلت له: وما غيركَ على شيئين أسألك عنهما: ما يُنجِيني من النَّار؟ وما يُدخِلُني الجنَّةَ؟ قال: فنظَرَ إلى السَّماءِ ثُمَّ أقبل عليَّ بوجههِ فقال: ((لئن كُنتَ أوجَزْتَ المسْألَةَ لقدْ أعظَمْتَ وطوَّلْتَ، فاعقِلْ عليَّ: اعبُدِ اللَّهَ لا تُشرِكْ بهِ شيئاً، وأَقمِ الصَّلاةَ المكتُوبَةَ، وأَدِّ الزَّكاةَ المفرُوضَةَ، وصُمْ رمَضَانَ))، وأخرجهُ البخاريُّ في ((التاريخ)).
          وزعم الصُّريفيني أنَّ اسم ابن المنتفق هذا: لقيطُ بن صَبرة وافد بني المنتفِق، والمُنْتَفِق: بضم الميم وسكون النون وبفتح المثناة الفوقية ففاء مكسورة فقاف / آخره.
          وقال الجلال البلقيني في ((الإفهام لما في البخاري من الإبهام)): هذا الرَّجلُ أو الأعرابيُّ لعله عبد الله بن الأخرم، وقيل: سعدُ بن الأخرم.
          وقال في ((أسد الغابة)): سعد بن الأخرم مختلفٌ في صحبتهِ، ثمَّ ذكر بسندهِ أنه روى عنه ابنه المغيرة عنه أو عن عمِّه قال: أتيتُ النَّبيَّ وأريد أن أسأله، فقيل: هو بعرفة فاستقبلتُهُ فأخذتُ بزمامِ النَّاقة، فصاح فيَّ الناس فقال: ((دعَوهُ فأرِبَ مَا جاءَ به)) قلت: يا رسولَ الله دُلَّني على عملٍ يُقرِّبُني من الجنَّةِ ويباعدُني من النار، فرفع رأسَه إلى السَّماءِ فقال: ((تعبُدَ الله لا تُشرِكُ بهِ شيئاً وتُقِيمُ الصَّلاةَ وتُؤتِي الزَّكاةَ، وتصُومُ رمضَانَ، وتُحبُّ للنَّاسِ ما تحِبُّ لنفسِكَ، وما كرِهْتَ لنفسِكَ فدع النَّاسَ منهُ، خلِّ سبيلَ النَّاقَةِ))، ثمَّ نقل قصَّة صخر بن القعقاع، وقال: فهذا يحتملُ أيضاً أن يفسَّر به ما تقدم.
          ثمَّ قال: الرَّجلُ هو لقيط بن عامر، ويقال: لقيط بن صبرة وافدُ بني المنتفق، انتهى ملخَّصاً.
          وقد وقعَ نحو هذا السؤال لصخرِ بن القعقاع الباهلِي ففي ((الطبراني)) أيضاً بسندٍ حسنٍ من طريقِ قزعة بن سويدٍ الباهلي: حدَّثني أبي: حدَّثني خالي _واسمهُ: صخر بن القعقَاع_ قال: لقيت النَّبيَّ بين عرفة والمزدلفة، فأخذتُ بخطامِ ناقتهِ فقلت: يا رسول الله ما يقرِّبُني من الجنَّةِ ويباعدُنِي من النَّارِ؟ فذكر الحديث.
          (قَالَ): أي: الرَّجلُ (لِلنَّبِيِّ صلعم: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ): برفع ((يدخلني)) والجملة: صفة ((عمل))، ويجوز الجزم كما في ((الفتح)) جواباً للأمر، وردهُ المظهريُّ من شراح ((المصابيح)): بأن قوله: ((بعمل)) يصير غير موصوفٍ فلا يفيد.
          وأجيب: بأنه موصوفٌ معنى، إذ التنكير للتَّفخيم أو التنويع؛ أي: بعملٍ عظيمٍ أو معتبرٍ في الشَّرع، وبأنه جزاءٌ لشرطٍ محذوف، والمجموع: صفة عمل، والتَّقديرُ: أخبرني بعملٍ إن عملتهُ يُدخِلني الجنَّة.
          (قَالَ): أي: من حدَّثَ أو القومُ كما صرَّحَ بذلك في رواية بهز الموصولة في كتاب الأدب بلفظ: قال القومُ (مَا لَهُ): أي: ما شأنُهُ.
          وقال الكرماني: وفي رواية: ((قال الناس: ما لهُ ما له)).
          (مَا لَهُ): تكرير الاستفهام من المبتدأ وخبره للتأكيد، والتعجُّب من فعله حيث زاحم النَّاسَ وأخذ بزمامِ ناقة النَّبيِّ صلعم كما مرَّ آنفاً.
          (وَقَالَ): بالواو وفي بعضِ الأصول: <فقال> بالفاء (النَّبِيُّ صلعم: أَرَبٌ مَالَهُ؟): بفتح همزة ((أَرَبٌ)) ورائه وتنوينه بمعنى: حاجة، مبتدأ، و((ما)) زائدة للتقليل كما قاله الزَّركشيُّ أو للتَّعظيمِ كما قاله في ((المصابيح))، و((له)) الخبر أو ((أرب)) خبر لمحذوف؛ أي: هو أرب و((ما)) استفهامية مبتدأ، و((له)) خبرها أو موصولة مبتدأ مؤخر، و((له)) صلة و((أرب)) خبر مقدم.
          وقال في ((الفتح)) نقلاً عن ابن بطَّال: ((أرب)) مبتدأ، وخبره محذوف، استفهم أولاً ثمَّ رجعَ إلى نفسه فقال له: ((أرب))، انتهى.
          قال في ((الفتح)) بناهُ على أن فاعل ((قال)) ((النَّبي)) وليس كذلك لما بيَّنَّاه، والمستفهمُ الصحابة والمجيبُ النَّبيُّ، و((ما)) زائدة كأنَّهُ قال له حاجة ما.
          وقال ابن بطَّال أيضاً: لأنَّه صلعم لم يكرر قوله: ((ما له؟)) إلا لأنَّه أنكرَ عليه حبسهِ زمام ناقتهِ أو غير ذلك مما لم يكن فعله، انتهى.
          وقال ابنُ الجوزي: المعنى: له حاجةٌ مهمَّةٌ جاءت به، وروي بفتح الهمزة وكسر الراء بلفظ الماضي للدُّعاء، يقال: أرِبَ الرجل تساقطتْ آرابه؛ أي: أعضاؤهُ، والمعنى: التَّعجُّب من السَّائل.
          وقال الأصمعي: أرِبَ في الشَّيءِ صار ماهراً فيه، فهو أربٌ، وكأنَّه تعجَّب من حسنِ فطنته والتَّهدِّي إلى موضعِ حاجته، ويؤيِّدهُ ما في رواية مسلمٍ: فقال النَّبي: ((لقد وُفِّقَ _أو لقد هدي_)).
          وقيل: أَرِب: عَقِل فهو أريب، وقيل: أنه تَعجَّب من حرصهِ وحسن فطنته، ومعناهُ: لله دره، وقيل: دعاءٌ عليه؛ أي: سقطت آرابه وذلك لأنه عليه السلام لما رأى الرَّجل يزاحمه _كما تقدم_ دعا عليه، لكن دعاؤه على المؤمن طهرٌ له، كما ثبت في الحديثِ الصَّحيح، وقيل: ليس دعاء عليه، بل هو على عادةِ العرب في استعمالهم هذه الألفاظ ونحوها كقولهم: تربَتْ يمينك، وثكلتك أمُّك، وعقرى حلقى.
          وروي كسابقه لكن مع التنوين؛ أي: هو أرِبٌ حاذِقٌ فطنٌ.
          قال في ((الفتح)): ولم أقف على صحَّةِ هذه الرواية، وجزم الكرمانيُّ بأنَّها ليستْ محفوظةً.
          وفي روايةٍ لأبي ذرٍّ: <أَرَبَ> بفتح الجميع على أنه فعل ماض، والحاصلُ: أن الروايات أربع كما قاله عياض مع بيان معانيها بما تقدَّم سوى الأخيرةِ، فإنَّه قال: لا وجهَ لها، وأقرَّهُ الشُّرَّاح.
          وأقول: بل لها وجهٌ، ففي ((القاموس)): أَرَب العقدة، كضَرَب: أحكمها، وفلاناً ضرب على أرب له، انتهى.
          ويجري في ((ما)): جميع ما تقدَّم، فليتأمَّل.
          وقال شيخُ الإسلام: وروي: ((أرب)) بوزن ضَرَب؛ / أي: حاجةٌ له، و((ما)) زائدة، انتهى فليتأمل.
          وقوله: (تَعْبُدُ اللَّهَ): وحده (وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً): ولابن عساكر بإسقاط واو <ولا> جملة مستأنفة استئنافاً بيانيًّا، انتقلَ بها من الغيبةِ في قوله: ((أرب ما له؟)) إلى الخطاب، فافهم.
          (وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ): هذه الجمل لفظها خبرٌ، والمرادُ: الأمرُ في غير ((ولا تشرك)) وعطف ((وتقيم)) وما بعدها على ما قبلها من عطفِ الخاص على العام، بل مثلهُ ((ولا تشرك)) بناء على أنَّ المرادَ بالعبادة: مطلقُ الطَّاعةِ أو مع خضوعٍ، وقيل: المرادُ بها التَّوحيدُ، فعطف ((ولا تشرك)) للتفسير، وأما عطفُ ما بعدها فمغاير، وكذا إن فُسِّرت العبادةُ بمعرفةِ الله تعالى والإقرار بوحدانيَّتهِ، فتأمَّله.
          قال النَّووي: معنى صلة الرحم: الإحسانُ إلى أقاربكَ بما تيسَّر على حسبِ حالكَ وحالهم من إنفاقٍ أو سلامٍ أو زيارةٍ أو طاعة أو غيرها، وهو قريبٌ من تفسيره بمشاركةِ ذوي القرابة في الخيرات، وخصَّ هذه دون باقي خصَال الخير نظراً إلى حال السَّائل، كأنَّه كان مقصِّراً في ذلك، فهو المهمُّ بالنسبةِ إليه، ويؤخذُ منه تخصيص بعض الأعمالِ بالحضِّ عليها، أو النَّهيُ عنها بحسبِ حالِ المخاطب، إما لمشقَّتها عليهِ أو لمساهلتهِ فيها.
          وقال القرطبيُّ: إنما لم يخبرهم بالتَّطوُّعات؛ لأنَّهم كانوا حدِيثي عهدٍ بالإسلام، فاكتفَى منهم بالواجبات تخفيفاً إلى أن تنشرحَ صُدورهم لها فتسهل عليهم، وقيل: لئلا يظنُّوا أنها واجبة.
          واستشكلَ مطابقةُ الحديث للتَّرجمةِ وأُجيبَ بوجوهٍ:
          أحدها: أن سؤاله عن العملِ الذي يدخل الجنَّةَ يقتضِي أن لا يُجاب بالنَّوافلِ قبل الفرائضِ فيُحملُ على الزكاة الواجبة.
          ثانيها: أنَّ الزكاة قرينةُ الصَّلاةِ فيكون حكمها كحكمها.
          ثالثها: أنه وقف دخول الجنَّةِ على أعمالٍ، من جملتها: الزَّكاة فيلزمُ أنَّ من لم يعملها لم يدخل الجنَّةَ، ومن لم يدخلها دخلَ النار، وذلك يقتضي الوُجوب.
          رابعها: أنَّه أشارَ إلى أنَّ القصَّةَ التي في حديثِ أبي أيوب، والقصَّةُ التي في حديثِ أبي هريرة الذي يليه واحدةٌ، فأرادَ أن يُفسِّر الأول بالثاني لقوله فيه: ((وتُؤدِّي الزَّكاةَ المفروضَةَ)).
          قال في ((فتح الباري)): وهذا أحسنُ الأجوبةِ، وقد أكثر المصنِّفُ من استعمالِ هذه الطريقة.
          (وَقَالَ بَهْزٌ): بفتح الموحدة وسكون الهاء وبالزاي؛ أي: ابن أسدٍ العمي (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ): أي: ابن الحجاج (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَأَبُوهُ): أي: وحدَّثنا أبو محمَّد (عُثْمَانُ): أي: المذكور (ابنُ عَبْدِ اللَّهِ): أي: ابن موهب المتقدِّمِ في سندِ الحديث الذي قبله، فبيَّنَ شعبة في هذا الطَّريقِ أنَّ ابن عثمان المبهم سابقاً في رواية الأكثرِ اسمه: محمد.
          (أَنَّهُمَا): أي: محمَّداً وأباه (سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ): ☺، زاد أبو ذرٍّ: <عن النَّبي صلعم> (بِهَذَا): أي: بالحديث المارِّ قبله، ووقع لمسلمٍ: ((حدَّثنا موسى بن طلحة: حدَّثني أبو أيوب)).
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ): أي: البخاري.
          قال العينيُّ: وفي بعض النُّسخِ: <قال محمد> هو البخاريُّ أيضاً؛ لأنَّ اسمه: محمداً.
          (أخْشَى): أي: أخاف (أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ): أي: في تفسير ابنِ عثمان (غَيْرَ مَحْفُوظٍ، إِنَّمَا هُوَ): أي: ابن عثمان المذكور أولاً (عَمْرٌو): بفتح العين؛ أي: فوهم شعبة في تسميته محمَّداً، وكان الحُذَّاق من أصحابه يبهمونهُ كما مرَّ في روايةِ حفص. وقال الغسَّانيُّ: هذا مما عُدَّ على شعبة أنَّه وهمَ فيه.
          وقال النَّووي: اتَّفقوا على أنه وهَمَ من شُعبة وأنَّ الصواب: عَمرو، انتهى.
          وقد وافقَ البخاريُّ فيما قاله مسلمٌ والدَّارقطني وغيرهما، وكان بعضُهم يقول: محمد.
          وحديثُ البابِ أخرجهُ المصنِّف أيضاً في الأدب، ومسلمٌ في الإيمان، والنسائي في العلم والصلاة.