الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب لا يقبل الله صدقةً من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب

          ░7▒ (بابٌ): بالتنوين (لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً): بالتنكير، ولأبي الوقت: <الصدقة> وللحموي والمستملي: <لا تُقبَل> بالفوقية بالبناء للمفعول <الصدقة> (مِنْ غُلُولٍ): بضم الغين المعجمة؛ أي: خيانةٍ في المغنم، كذا في الأصولِ المعتمدة، وعليها شرح القسطلَّاني.
          ورواهُ في ((فتح الباري)) وتبعهُ في ((عمدة القاري)) بلفظ: ((باب لا تُقْبَل صدقة من غلول)) بالبناء للمجهول وعزاهُ للأكثر، وعزى: ((لا يَقبَل الله)) بالبناء للفاعل والتحتية أوله للمستملي.
          ثمَّ قال: وهذا طرفٌ من حديثٍ أخرجهُ مسلمٌ باللفظ الأول، وسبق باقيه في كتاب الطهارة، وأخرجه الحسنُ بن سفيان في ((مسنده)) عن أبي كاملٍ أحد مشايخ مُسلمٍ فيه بلفظ: ((لا يقبَلُ الله صلَاةً إلَّا بطُهُورٍ، ولا صدقَةً من غُلُولٍ))، ولأبي داود بسندٍ صحيحٍ من حديث أبي المليح عن أبيه مرفوعاً: ((لا يقبَلُ الله صدقَةً من غُلُولٍ، ولا صَلاةً بغَيرِ طُهُورٍ)).
          وقوله: (وَلاَ يَقْبَلُ): أي: التَّصدّثق أو المالَ باعتباره، و((يقبل)) مبني للفاعل أو للمفعول (إِلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ): بتشديد التحتية؛ أي: حلالٍ ثابتٍ للمستملي وحده وهو معنى بعض حديثِ أبي هريرةَ الآتي في الباب بعده.
          وقوله: (لِقَولِ اللَّهِ تَعَالَى): وفي بعض النسخ: <لقوله> ({قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263]): ثابت في بعض النسخ، والثابت في أكثر النسخ بدله: <لقول الله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:276-277]>.
          وقال ابن المُنِير: كأنَّ المناسب الاستدلالُ بقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] لكنه جرى على عادتهِ في إيثار الخفيِّ، وذلك لأنّض الآية لما أنبأت عن أن الصَّدقةَ لما تبعتها سيِّئةُ الأذى بطلت، والغلول غصبٌ وأذى، فتبطل الصَّدقةُ بالطريق الأولى، أو لأنَّهُ إذا كانت المعصيةُ اللَّاحقَةُ للطَّاعةِ تبطلها فكيف إذا كانت الصَّدقةُ في المعصية؟ وسيأتي لذلك تتمَّةٌ.
          قال في ((الفتح)): ووقع هنا للمستملي والكُشميهني وابن شبويه: <باب الصدقة من كسب طيب لقوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}> وعلى هذا فتخلو التَّرجمةُ التي قبل هذا من الحديث، وتكون كالتي قبلها في الاقتصارِ على الآية، لكن تزيدُ عليها بالإشارةِ إلى لفظ الحديث الذي في التَّرجمةِ، انتهى.
          ووقعَ في النسخ هنا / اختلافٌ في التَّراجمِ، وما يوردُ فيها من آيةٍ أو حديث.
          ثمَّ قال في ((الفتح)): ومناسبةُ الحديثِ لهذه التَّرجمةِ ظاهرٌ، ومناسبتهُ للتي قبلها من جهة مفهومِ المخالفة؛ لأنه دلَّ بمنطوقِهِ على أنَّ الله لا يقبَلُ من الصَّدقةِ إلا ما كان من كسبٍ طيِّبٍ، فمفهومهُ: أن ما ليس بطيِّبٍ لا يُقبَل، والغلول فردٌ من أفراد غير الطِّيب فلا يُقبل.
          ثمَّ إنَّ هذه الترجمة إن كان ((باب)) بغير تنوين فهو خبر لمحذوف؛ أي: هذا باب فضل الصدقة من كسبٍ طيِّبٍ، وإن كان منوَّناً فما بعده مبتدأ وخبره محذوف تقديره: الصَّدقةُ من كسبٍ طيِّبٍ مقبولَةٌ، أو يكثر الله ثوابها، انتهى.
          وأقول فيه: أن ((باب)) خبر لمحذوف مطلقاً، سواءٌ كان منوناً أم لا، ولو قال: إن كان ((باب)) بغير تنوين فهو مضاف لما بعده، لكان ظاهراً، ولا يتعيَّنُ جعل الخبر محذوفاً، بل يجوزُ أن يجعل ((من كسب))، فافهم.
          وقال الكرمانيُّ في توجيه تعليلِ الآية للباب الأول: لأنَّ تلك الصَّدقة يتبعها يوم القيامة الأذى بسبب الخيانة، ثمَّ قال: فإن قلتُ: لفظ: (({الصَّدَقَاتِ})) عامٌّ للكسبِ الطَّيِّب وغيره، فكيف يدلُّ على الترجمة؟ قلت: هو مقيَّدٌ بالصدقات التي من المالِ الحلال بقرينة نحو: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267].
          وقال في ((الفتح)): ومعنى الكسب: المكسوب، والمرادُ ما هو أعمُّ منه كالميراث، وذكر الكسبَ؛ لأنه الغالبُ في تحصيلِ المال.
          وقال ابن بطَّال: لما كانت هذه الآية مشتملةً على أنَّ الربا يمحقهُ الله؛ لأنَّهُ حرامٌ، دلَّ ذلك على أن الصَّدقةَ التي تُتقبَّل لا تكونُ من جنس الممحوقِ، انتهى.
          وقوله: (({ويُرْبِي الصَّدَقَاتِ})) بضم التحتية وسكون الراء، هكذا التلاوة وهو الموجودُ في أكثر الأصول، ووقع في بعضها: ▬ويرَبِّي↨ بفتح الراء وتشديد الموحدة لكنه مخالف للتلاوة.
          وقد اعترضَ ابن التين على الاستدلالِ: بأن تكثير أجر الصَّدقةِ ليس علَّةً لكون الصدقة من كسبٍ طيِّبٍ بل الأمرُ على العكس؛ فإن الصَّدقةَ من الكسب الطَّيِّب سببٌ لتكثير الأجرِ، قال: فكان الأنسبُ أن يستدلَّ بقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}، انتهى.
          والكلامُ على هذه الآيات يستدعي تطويلاً، لكن المطابقةَ منها قد ذُكِرت، فتدبر.