الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية

          ░35▒ (بابٌ): بالتنوين، ويحتمل عدمُه (مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ): أي: مُتخالطين مجاورة، وبالأولى المتشاركين شيوعاً في المالِ الزكوي (فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ): أي: بمقدار.
          قال العينيُّ: كلمة ((ما)) هنا تامَّة نكرةٌ مضمنة معنى حرف الاستفهام، ومعناها؛ أي: شيء كان مِن خليطين فإنهما يتراجعان. انتهى.
          وأقول: الأولى جعلها موصولة أو شرطيَّة، ودخول الفاء عليهما ظاهر، ثم رأيتُ شيخ الإسلام قال: ((ما)) متضمِّنة معنى الشرط؛ أي: مهما ((كان من خليطين)) أي: مخلوطَين أو خالطين ((فإنهما)) أي: الخليطين بالمعنى الثاني، أو مالكيهما بالمعنى الأول، ولا مانعَ من ذلك إذ فعيل يأتي بمعنى المفعول وبمعنى الفاعل، ويجوز جمعهما باعتبارين، فيكون خليط بمعنى المخلوط بالنسبة إلى المال، وبمعنى الخالطِ بالنسبة إلى المالك. انتهى.
          قال في ((الفتح)): اختلفَ في المراد بالخليطِ، فعند أبي حنيفة: الشَّريك، قال: ولا يجب على أحد منهم فيما يملك إلا مثل الذي كان يجبُ عليه لو لم يكن خلط.
          قال في ((الفتح)): واعترضَ عليه بأن الشريك قد لا يعرف عينَ ماله، وقد قال: ((فإنهما يتراجعان بينهما بالسَّوية))، ومما يدلُّ على أن الخليطَ لا يلزم أن يكون شريكاً قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص:24] وقد بيَّنه قبل بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي} الآية [ص:23] واعتذرَ بعضُهم عن الحنفية: بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث، أو أرادوا أن الأصلَ قوله عليه السلام: ((ليس فيما دونَ خمس ذُودٍ صَدقة))، وحكم الخلطة بغير هذا الأصل فلم يقولوا به. انتهى فتأمله.
          وتعقَّبه أيضاً ابن جرير: بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكمِ لبطلت فائدةُ الحديث، وإنما نهى عن أمر لو فعله كانت فيه فائدة قبل النهي، ولو كان كما قال لما كان لتراجع الخليطين بينهما بالسوية معنى. انتهى.
          وقال ابنُ المنذر: اختلفوا في رجلين بينهما ماشية نصاب واحد، قالت طائفة: لا زكاة عليهما، قال: وهذا قول مالك والثوري وأبي ثور وأهل العراق.
          وقال ابنُ حزم في ((المحلى)): وبه قال شريك بن عبد الله والحسن بن حيٍّ. وقال الشافعي والليثُ وأحمد بن حنبل وإسحاق: يجبُ عليهما الزكاة ولو كانوا أربعين رجلاً لكلِّ واحدٍ شاة يجب عليهم شاة.
          وقال ابنُ المنذر: الأول أصحُّ يعني: عدم الوجوب. ومعنى ((فإنهما يتراجعان)) كما قال الخطَّابي: أن يكون بينهما أربعون شاة مثلاً لكل واحد منهما عشرون، قد عرف كلٌّ منهما عين ماله، فيأخذ المصدق من أحدهما شاة، فيرجعُ المأخوذ من مالهِ على خليطه بقيمة نصفِ شاة، وهذه تسمى خلطةُ الجوار، ويشترطُ فيها شروط عند الشَّافعية: اتحاد المسرح والمرعَى والمشرب والمراحُ وموضع الحلب والراعي والفحل.
          وفي ((جامع سفيان الثوري)) عن عبيد الله بن عمر، عن ابن عمر، عن عمر ☺: / ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، قلت لعبيد الله: ما يعني بالخليطين؟ قال: إذا كان المراح واحداً، والراعي واحداً والدلو واحداً، ومثل الخلطة في المواشِي خلطة التمر والزروع والنقد وعرض التجارة بشرط أن لا يتميَّز الناطور والجرين والدكان والحارس ومكان الحفظ وما تشرب به، وحراث ومتعهد وحداد وميزان وحمال.
          وليس المراد بقوله: ((بالسوية)) النصفُ فقط بل بحسبِ المال ومقدارهِ بأي نسبة كانت، ولا يحتاج أحدُ الشريكين في إخراجِ زكاة المشترك إلى إذن شريكهِ لتسليطِ الشارع له على ذلك.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ): أي: ابن كيسَان (وَعَطَاءٌ): أي: ابن أبي رباح، هذا التَّعليق وصله أبو عُبيد في كتاب ((الأموال)) بسنده عن طاوس بمعناه قال: إذا كان الخليطان يعلمان أموالهما لم يجمع مالهما في الصَّدقة، قال _يعني: ابن جريج_ فذكرته لعطاء فقال: ما أراه إلا حقًّا، ورواه عبد الرَّزاق عن ابن جُريج قلتُ لعطاء: ناس خلطاء لهم أربعون شاة؟ قال: عليهم شاة، قلتُ: فلواحد تسعة وثلاثون شاة، ولآخر شاة، قال عليهما: شاة.
          (إِذَا عَلِمَ): بكسر اللام مخففة، ولأبي الوقت من غير ((اليونينية)): بفتحها مشددة، وفي بعض النسخ: ((أعلم)) بزيادة همزة أوله، وعلى كل فقوله: (الْخَلِيطَانِ): فاعل الفعل (أَمْوَالَهُمَا، فَلاَ يُجْمَعُ مَالُهُمَا): أي: في الزكاة؛ لأن الخلطة حينئذٍ خلطة جوار لا شُيوع، والمعتبر عندهما الثانية لا الأولى، فعلى قولهما: لو كان لكل واحد منهما عشرون شاة مميزة فلا زكاة على واحد منهما.
          (وَقَالَ سُفْيَانُ): أي: الثوري (لاَ تَجِبُ): أي: الزكاة في الخليطين؛ لأن الخلطة لا تأثير لها عنده، إلا إن كان مراده: أنه لا تجبُ الزكاة في الخليطِ إلا إذا كان مشاعاً فالمذاهب ثلاثة:
          أحدها: مذهب الشَّافعية والحنابلة: أنَّ الخليطين مطلقاً شيوعاً أو جوازاً يُؤثر.
          ثانيها: مذهبُ المالكية والحنفية: أنها لا تأثيرَ لها مطلقاً.
          ثالثها: مذهبُ البخاري وطاوس وعطاء وسفيان: التَّفرقة بين خلطة الشُّيوع فتؤثر، وبين خلطة الجوارِ فلا تأثير لها، فافهم.
          (حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً، وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً): أي: فيجبُ على كلِّ واحد منهما شاة، وهو قولُ أبي حنيفة ومالك، وهذا التعليقُ وصله عبد الرزاق عن الثوريِّ بلفظ: لا يجبُ على الخليطين شيء إلا أن يتمَّ لهذا أربعون ولهذا أربعون.
          قال في ((الفتح)): وبهذا قال مالك، وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا؛ أي: بالشروط السابقة.