الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.

          1399- 1400- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ): بفتح المثناة التحتية (الْحَكَمُ): بفتحتين (ابْنُ نَافِعٍ): أي: الحمصِي، قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ): مصغَّراً (ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ): بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وبالزاي، واسمهُ: دينار.
          (عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ): بالتَّصغير (ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بالتَّكبير (ابْنِ عُتْبَةَ): بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية (بْنِ مَسْعُودٍ): أي: عبد الله، ☺ (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّي): بتشديد الفاء مبنيًّا للمفعول؛ أي: مات (رَسُولُ اللَّهِ صلعم): وكانت وفاتهُ عليه السلام يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ☺): ((كان)) تامة، والمرادُ به: قامَ مقامهُ، قاله في ((الفتح)).
          وأقول: ويحتملُ أنها ناقصةٌ والخبرُ محذوف؛ أي: موجوداً أو خليفة، ويدلُّ للثاني رواية أبي داود، واستخلفَ أبو بكر بعدَه.
          (وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ): ((مِن)) الأخيرة بكسر الميم بياناً لمن الأولى بفتحها، الموصولة أو الموصوفة الواقعة فاعل ((كفر)) الأولى، وهؤلاءِ الذين كفروا من العرب بعد موت النَّبيِّ كانوا ثلاثة أنواعٍ:
          نوعٌ كفروا بالله وارتدُّوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من عبادةِ الأوثان وأنكروا الشَّرائِعَ من الصَّلاةِ والزَّكاة وغيرهما، فلم يكن مسجدٌ لله تعالى في بسيطِ الأرض إلا ثلاثةٌ: مسجِدُ مكَّةَ، ومسجِدُ المدينةِ، ومسجد عبد القيس في البحرين، في قريةٍ يقال لها: جُواثَى.
          ونوعٌ من أهل اليمن وغيرهم أنكروا نبوَّةَ نبيِّنا محمَّدٍ صلعم، وهم طائفتان: منهم من استجابَ لمسيلمةَ من بني حنيفة وغيرهم فصدَّقُوهُ في دعواه النُّبوةَ واتَّبعوه، ومنهم من استجابَ للأسود العنسيِّ حيث ادَّعى النبوة أيضاً، فقاتلهم أبو بكرٍ ☺ حتى قُتِل مسيلمةُ لعنهُ الله باليمامة، وقُتِل الأسودُ العنسيُّ في صنعاء اليمن، وانقضت جموعهم، وأهلكَ الله أكثرهم.
          والنَّوعُ الثالث: قومٌ فرَّقوا بين الصلاة والزَّكاة فأقروا بفرضيَّةِ الصلاةِ وأنكروا فرضيَّةَ الزَّكاةِ بعده عليه السلام وقالوا: وجوبها خاصٌّ بزمنهِ عليه الصلاة والسلام متأوِّلين النصوصَ كقوله تعالى: / {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103]، وهؤلاء في الحقيقة بُغاةٌ، لكنهم لم يدَّعوا به لانغمارهم في أهل الرِّدَّةِ إذ كانت أعظمُ، وقد كان في ضمنِ هؤلاء قومٌ سمحوا بالزَّكاةِ لكن منعهم رؤساؤهًم كبني يربوع، فإنهم جمعوها وأرادوا دفعها لأبي بكرٍ، فمنعهم من دفعِها مالكُ بن نويرة.
          وهذا النَّوعُ الثالث هو المرادُ هنا لقوله: (فَقَالَ عُمَرُ): أي: ابن الخطاب (☺): لأبي بكرٍ ☻ محتجًّا عليه (كَيْفَ تُقَاتِلُ): بالبناء للفاعل والمثناة الفوقية أوله، وفي بعضها: بالنون أوله (النَّاسَ؟): وفي حديث أنسٍ ☺: أتريدُ أن تقاتلَ العرب؟
          وجملة: (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم): حالية مقرونة بـ((قد)) التقريبية (أُمِرْتُ): مبني للمفعول؛ أي: أمرني الله تعالى (أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ): أي: مطلقاً (حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ): وقال الطيبي: قال أكثرُ الشَّارحينَ: أراد بالناس: عبدةَ الأوثان دون أهل الكتابِ؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثمَّ لا يرفع عنهم السَّيفُ حتى يُقرُّوا بنبوَّةِ محمَّدٍ صلعم أو يعطوا الجزية.
          ثم قال: أقولُ: تحرير ذلك أن ((حتى)) للغاية يعني في قوله: ((حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) وقد جعل رسولُ الله صلعم غاية المقاتلةِ القول بالشهادتين وإقامَ الصلاة وإيتاء الزكاة، ورتَّبَ على ذلك العصمةَ، وأهلُ الكتاب إذا أعطوا الجزية سقطَ عنهم القتالُ وثبتتْ لهم العصمةُ، فيكون ذلك نفياً للمطلق، فالمرادُ بالنَّاس إذاً: عبدةُ الأوثان، والذي يُذاقُ من لفظ: ((الناس)) العموم والاستغراق، انتهى.
          والمرادُ _كما قال النَّووي وغيره_ مع قول: محمَّدٍ رسول الله، وهذا شاملٌ لجميع الشَّريعةِ، فيقتضِي أن من جحدَ شيئاً مما جاءَ به صلعم ودُعي إليه فامتنعَ وقاتلَ يجبُ مقاتلته وقتلهُ إذا أصرَّ.
          وأُجيب عن تأويل المتأولين: بأن الخطابَ في كتابِ الله تعالى على ثلاثة أقسامٍ: خطابٌ عامٌّ كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة:6]، وخطاب خاصٌّ بالرسول كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] حيث قطعَ الشَّريك بقوله: {نَافِلَةً لَكَ}، وخطابُ مواجهةٍ للنَّبيِّ وأمَّته، فهو وجميع أمَّته في المرادِ منه سواءٌ كقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء:78]، فعلى القائمِ بعده بأمر الأمَّةِ أن يحتذي حذوهُ في أخذها منهم، وأما التَّطهيرُ والتَّزكيةُ والدُّعاءُ من الإمام لصاحبها، فإنَّ الفاعل فيهما قد يقال ذلك كله بطاعةِ الله ورسوله فيها، وكلُّ ثوابٍ موعود على عملٍ كان في زمنه فإنه باقٍ غير منقطعٍ، وكأنَّ عُمر لم يستحضر من هذا الحديثِ إلا ما ذكره، وإلا فولدهُ عبد الله رواه بزيادة: ((وأنَّ مُحمَّداً رسولُ الله، ويُقِيموا الصَّلاةَ، ويُؤتُوا الزَّكاةَ))، بل يجبُ عليهم الإيمان بجميعِ ما جاء به كما في الرواية الأخرى لأبي هريرة: ((حتَّى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويُؤمِنوا بي وبما جئتُ به)).
          وقال عياضٌ: اختصاصُ عصمة المال والنَّفسِ بمن قال: لا إله إلا الله، تغييرٌ عن الإجابةِ إلى الإيمان، وأن المرادَ بهذا: مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحِّد، وهم كانوا أوَّلَ من دُعِي إلى الإسلامِ وقُوتِل عليه، فأمر غيرهم ممن يقرُّ بالتوحيد، فلا يُكتَفى في عصمتهِ بقول: لا إله إلا الله إن كان يقولها في كفرِهِ وهي من اعتقادِهِ، فلذلك جاءَ في الحديثِ الآخر: ((وأنَّ محمَّداً رسولُ الله، وتُقِيموا الصَّلاةَ وتُؤتُوا الزَّكاةَ)).
          (فَمَنْ قَالَهَا): أي: هذه الجملة، وهي: لا إله إلا الله مع قرينتها من ذلك وتوابعها كما مرَّ آنفاً (فَقَدْ عَصَمَ): بفتحات؛ أي: حقنَ ومنع (مِنِّي مَالَهُ): أي: واختصاصه (وَنَفْسَهُ): أي: دمهُ، فلا يجوز حينئذٍ التَّعرُّض لشيءٍ من ذلك بسببٍ من الأسباب (إِلاَّ بِحَقِّهِ): أي: الإسلام، كما صرَّحتْ به روايةُ مسلمٍ وكثيرين في حديث بأنه: زنًى بعد إحصانٍ أو كُفرٌ بعد إيمانٍ، أو قتلُ النَّفسِ التي حرَّمَ الله قتلها، ويحتملُ رجوع الضَّمير إلى ((الله)) أو إلى: من قالها، لكن بحسب اختلافِ الأشخاص.
          (وَحِسَابُهُ): بإفراد الضَّمير. قال العيني:وفي رواية غيره: ((وحسابهم)) بالجمع؛ أي: محاسبةُ من قالها، فيما يسرُّهُ إذا لم يثبت عليه عندنا كاللازم.
          (عَلَى اللَّهِ): تعالى، فيثيبُ المؤمنَ على طاعتهِ ويعاقبه على معصيتهِ إن شاء، ويعاقبُ المنافقَ فاحتجاج عُمر به على أبي بكرٍ ☻ لعدمِ نظرهِ لقوله: ((إلا بحقِّهِ))، أو لحملهِ إيَّاهُ على غير الزَّكاةِ، فتدبَّر.
           (فَقَالَ): أي: أبو بكرٍ لعمر ☻ مُشيراً إلى قياس الزَّكاة على الصَّلاة (وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ): بتشديد / النون (مَنْ فَرَّقَ): بتشديد الراء وتخفيفها، كما قاله الكرمانيُّ وغيره؛ أي: بأن قال: أحدهما فرضٌ دون الآخر، أو منعَ من إعطاءِ الزكاة متأولاً في أحكامهما.
          وخصَّ (الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ): بالذكر والمقاتلةِ عليهما؛ لأنهما أمَّا العبادات البدنيَّةِ والماليَّةِ، ولذلك جاءَ تسميةُ الصَّلاةِ بعمادِ الدين، والزَّكاةُ بقنطرةِ الإسلامِ، وأكثرَ الله تعالى من ذكرهما في القرآنِ متقاربتين.
          وأشارَ إلى الجامعِ بينهما بقوله: (فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ): أي: والصَّلاةُ حقُّ البدن، فدخلتا في قوله: ((إلا بحقِّهِ)) والحكم المتعلِّقُ بشيئين أو أكثر لا يحصلُ بأحدهما، فاجتمعَ في هذا احتجاجُ عمر بالعموم، وأبي بكرٍ بالقياس، فالعمومُ مخصوصٌ بالقياس، ومن ثمَّ سلمَ له عمر، وهذا من لطيفِ النظر أن فيه القلبَ على المستدلِّ دليلهُ فينقلب عليه الحكمُ.
          وفي الحديثِ: إشارةٌ إلى أن العُمرَين ☻ لم يسمعا من الحديثِ الصلاة والزكاة كما سمعهُ غيرهما، أو لم يستحضراهُ، إذ لو سمعاهُ لم يحتجَّ عمرُ به على أبي بكر، ولردَّ به أبو بكرٍ على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاجِ بعموم قوله: ((إلا بحقِّه))، لكن يحتملُ أنه سمعَه واستظهرَ بهذا الدَّليلِ النَّظريِّ.
          وقال الطِّيبي: يحتملُ أن عمرَ ظنَّ أن مقاتلةَ الصِّدِّيق لهم إنما كانت لكفرِهِم لا لمنعهم الزَّكاةَ، فاستشهد بالحديثِ وأجابه أبو بكرٍ بما معناه؛ أي: ما أقاتلهم لكفرهم بلْ لمنعهم الزَّكاةَ، ولذا قال: (وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا): بفتح العين المهملة وتخفيف النون، أنثى أولاد المعزِ التي لم تبلُغْ سنةً، وللمصنِّف في رواية وكذا لمسلمٍ وأبي داود: ((عِقالاً)) بكسر العين وتخفيف القاف آخره.
          وقال الكرماني: عرضُ الخلاف ووقعت المناظرةُ في الصنف الثاني، فقال عُمر بظاهرِ الكلام قبلَ أن ينظرَ في آخره، فقال أبو بكر: إن الزَّكاةَ حقُّ المال، فهي داخلةٌ تحت الاستثناء ((إلا بحقِّهِ)) ثمَّ قياسهُ على الصَّلاة؛ لأن قتالَ الممتنع من الصَّلاة كان بالإجماعِ، ولذلك ردَّ المختلفُ فيه إلى المتَّفق عليه، والعموم يخصُّ بالقياس، مع أن هذه الرواية مختصرةٌ من الرِّوايات المصرَّحة بالزكاة.
          واختلفَ في المرادِ منه، فذهب جماعةٌ من العلماءِ إلى أنَّ المراد بالعقالِ: زكاة عام، وهو معروفٌ في اللغة، وبه قال النَّسائي والنَّضر بن شميل وأبو عُبيد والمبرِّد وغيرهم واستدلُّوا بقوله:
سَعَى عِقَالاً فلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا                     فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
          وعَمْرو هذا: ابن عتبة بن أبي سفيان السَّاعي، ولاه عمَّهُ معاوية بن أبي سفيان صدقاتِ بني كلب، فقال قائلهم ذلك، ولأنَّ العِقال بمعنى عِقال البعيرِ لا يجبُ دفعهُ في الزكاة، بل لا يكفِي، فلا يصحُّ حملُ الحديثِ عليه.
          وذهب كثيرٌ من المحققين إلى أن المرادَ بالعِقال: الحبل الذي يعقلُ به البعير، وهو من الفريضةِ؛ لأنَّ على صاحبها التَّسليمَ، وهو متوقِّفٌ عليه كثيراً، وهذا القولُ محكيٌّ عن الإمامِ مالك وابن أبي ذئب وغيرهما، وقيل: محمولٌ على ما إذا كان من عروض التِّجارةِ فبلغَ قيمتهُ مع غيره نصاباً.
          وقيل _كما في ((المحكم)) وغيره_ العِقال: القلوص من النُّوق الفتية، ورواه ابنُ القاسم ووهب عن مالك، وقال النَّضر بن شُميل: إذا بلغت الإبل خمساً وعشرين وجبتْ فيها بنت مخاضٍ، وهي العِقَال، وقال أبو سعيدٍ الضَّرير: هو اسمٌ لكلِّ ما أخذَ من الأموالِ في الصَّدقة سُمِّي به؛ لأنَّ المؤدي عَقِل به عنه طلبة السلطان وعقلَ عنهُ الإثم، وقيل: المرادُ به: الشَّيءُ الحقيرُ التَّافهُ، فضرب العِقَال مثلاً له.
          وجملة: (كَانُوا يُؤَدُّونَهَا): بضم التحتية وفتح الهمزة وتشديد الدال المضمومة؛ أي: العِنَاق؛ أي: يدفعونها (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا): أي: العِنَاق بمعنى مثلها.
          (قَالَ عُمَرُ): أي: ابن الخطَّاب (☺: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ): أي: الشَّأنُ والأمر (إِلاَّ أَنْ): و((أَن)) بفتح الهمزة، وما بعدها في تأويل مصدر خبر لمحذوف، والجملة مفسرة لضَميرِ الشأن، فافهم.
          (قَدْ): بثبوت <قد> لغير أبي ذرٍّ (شَرَحَ اللَّهُ): أي: وسَّعَ وفتحَ (صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ ☺): أي: للقتالِ كما ثبت في بعضِ الأصولِ (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ): أي: الصَّوابُ، و((أَنه)) بفتح الهمزة؛ لأنه مفعول عرَفت _بفتح الراء_ أي: لما ظهرَ له من الدليل الذي أقامه الصِّدِّيق نصًّا ودَلالة وقياساً، لا أن عُمر قلَّد أبا بكر في ذلك؛ لأن المجتهدَ لا يجوزُ له أن يقلِّدَ مجتهداً.
          ومن الأدلَّةِ على ذلك ما رواهُ البغوي والطَّبراني وابن شاهين والحاكم في ((الإكليل)) بأسانيدِهِم إلى عبد الرَّحمن / الظَّفري _وكانت له صحبةٌ واللَّفظ للطَّبراني_ قال: بعثَ رسولُ الله صلعم إلى رجلٍ من أشجع أن يؤخذَ منه صدقتُهُ فأبى أن يُعطيها فردَّهُ إليه الثانية فأبى ثمَّ ردَّه إليه الثالثةَ، وقال: ((إن أَبى فاضرِبْ عُنقَه))، ومدارهُ على الواقدي، وقد ذكره في أول كتاب ((الردة)).
          وقال في آخره: قال عبدُ الرحمن بن عبد العزيز: فقلت لحكيم بن حكيم: ما أرى أبا بكرٍ الصِّدِّيق قاتل أهل الرِّدَّة إلا على هذا الحديثِ، قال: أجل.
          وقال ابن بطَّال: قال أبو جعفر الدَّاودي: قال أبو هريرة: والله الذي لا إله إلا هو لولا أبو بكرٍ ما عُبِد الله، قيل له: اتقِّ الله يا أبا هريرةَ، فكرَّر اليمين وقال: لما تُوفِّي رسولُ الله ارتدَّتْ العربُ، وكثرت أطماعُ الناس في المدينة، وأرادتهُ الصَّحابةُ على إمساكه بحبسِ أسامة، والكفُّ عمن منعَ الزَّكاة فقال: والله لو لم يتَّبعني أحدٌ لجاهدتهم بنفسي حتى يعزَّ الله دينهُ أو تنفردَ سالفتي، فاشتدَّ عزمُ الصَّحابة حينئذٍ وقمع الله أهل التَّطامعِ عما أرادوه.
          وهذا يشهدُ لتقدُّم أبي بكرٍ ☺ في العلم ورسوخهِ فيه، وأن مكانهُ من العلمِ ونصرةِ الإسلام لا يوازيهِ فيه أحدٌ، ألا ترى إلى رجوع الصَّحابةِ إلى رأيه في قتال أهلِ الرِّدَّةِ؟ ولا يجوزُ عليهم اتِّباعه تقليداً، بل ظهر لهم بالأدلة الحقِّ في قوله، فلذلك اتَّبعوه، انتهى.
          وقال الخطَّابي: هذا الحديث مشكلٌ؛ لأن أوَّله دلَّ على كفرهم، والتَّفريقُ بين الصَّلاة والزكاة يوجبُ أن يكونوا ثابتين على الدِّين مقيمينَ للصلاة، ثمَّ إنهم كانوا مؤولين في منعِ الزَّكاة محتجِّين بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية [التوبة:103]، فإنَّ التَّطهُّر ونحوهُ معدومٌ في غيرهِ عليه السلام، ومثل هذه الشُّبهةِ توجبُ العذر لهم والتوقُّف عن قتالهم.
          وأجيب: بأن المخالفينَ كانوا صنفين، بل ثلاثةً كما مر قريباً، والذين أنكروا الزَّكاةَ هم أهلُ البغي، لكن لانغمارهم في المرتدين لم يُسمُّوا بهذا الاسم، وإنما أوَّلُ من سُمِّي بهذا الاسم الذين خرجوا على عليٍّ ☺ لانفرادهم في عصرِهِ وعدم اختلاطِهِم بأهل الشِّركِ، ولم نكفِّرهم لعذرِهِم بالتَّأويل، وإن كنَّا الآن نُكفِّر بالإجماعِ من أنكرَ وجوب الزكاة لاستفاضة العلم الآن بوجوب الزكاة حتَّى عرفه الخاصُّ والعامُّ كالصَّلوات الخمس، فلا يُعذر أحدٌ بتأويله؛ لأنَّه معلومٌ من الدِّين بالضرورة.
          وأجيب: بأن الخطابَ في كتاب الله إلى آخرِ ما قدمناه آنفاً.
          وفي الحديثِ: فضيلة أبي بكرٍ ☺، وجوازُ القياس والعمل به، وجوازُ الحلفِ وإن كان في غير مجلس الحكم.
          وفيه: اجتهادُ الأئمَّةِ في النوازل، ومناظرةُ أهل العلمِ والرُّجوعُ إلى قول صاحبهِ إذا كان هو الحقُّ، ووجوب الصَّدقةِ في السخال والفصلان والعجاجيل، وإنما تجري إذا كانت كلها صغاراً.
          وفيه: أن حول النِّتاج حولُ الأمهات ولو كان يستأنف لها الحول لم يوجدْ لها سبيلٌ إلى أخذِ العناق.
          وقال النَّووي: رواية العِناق محمولةٌ على ما إذا كانت الغنم صغاراً كلها، بأن ماتت أمَّهاتها في بعض الحول، فإذا حال حولُ الأمهات زكى السِّخال بحولِ الأمهات سواءٌ بقيَ من الأمَّهات شيءٌ أم لا، هذا هو الصَّحيح المشهور.
          وقال أبو القاسم الأنماطِي: لا تزكى الأولادُ بحولِ الأمهات، إلا أن يبقَى من الأمَّهات نصابٌ، وقال بعض أصحابنا: إلا أن يبقى من الأمَّهات شيءٌ، ويتصوَّرُ ذلك أيضاً فيما إذا كان مات مُعظم الكبار وحدثت صغار، فحال حول الكبار على بقيَّتها وعلى الصغار.
          وقال العينيُّ: قوله: هو الصَّحيح المشهور، هو قولُ أبي يوسف أيضاً من أصحابنا، وعند أبي حنيفة ومحمد: لا تجبُ الزكاة في المسألةِ المذكورة، وحمَلَا الحديث على صيغةِ المبالغة، أو على الفرضِ والتأويل، انتهى.
          وحديثُ الباب أخرجهُ المصنف أيضاً في استتابةِ المرتدِّين وفي الاعتصام، ومسلمٌ في الإيمان والترمذي، وكذا النسائي فيه، وفي المحاربة.