الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى

          ░18▒ (بَابٌ): بالتنوين (لاَ صَدَقَةَ): أي: كاملةَ (إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى): قال البغوي: المرادُ: غنًى يستظهرُ به على النَّوائبِ التي تنوبُهُ، إذ التنكير فيه للتَّفخيمِ، وهذا الجزءُ من التَّرجمةِ لفظ حديثٍ أخرجهُ أحمد بسنده عن أبي هريرة، وأخرجهُ أيضاً بمعناه من طريقٍ أخرى عن أبي هريرة بلفظ: ((إنَّما الصَّدقَةُ ما كان عن ظَهرِ غنًى)).
          وقال في ((الفتح)): وكذا ذكره المصنف تعليقاً في الوصايا _أي: بلفظ الترجمة_ وساقهُ مغلطاي بإسنادٍ له إلى أبي هريرة بلفظه، وليس هو باللفظ المذكور في الكتابِ الذي ساقهُ منه، فلا يغترُّ به ولا بمن تبعهُ على ذلك، انتهى فاعرفه.
          وقوله: (وَمَنْ تَصَدَّقَ): ((من)) موصولة أو شرطية، ويلتحق بالتَّصدُّق سائر التَّبرُّعات، قاله في ((الفتح))، وجملة: (وَهْوَ مُحْتَاجٌ): حالية كالجملتين بعدها، وهما قوله: (أَوْ أَهْلُهُ مُحْتَاجٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ): أي: مستغرقٌ (فَالدَّيْنُ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ): و((من الصدقة)) متعلق بـ((أحق))، و((أن يقضى)) على تقدير: بأن يقضي ويحتملُ تقدير حين فيه، ويكونُ هو المفضل عليه، و((من الصدقة)) متعلق بـ((يقضى)) على أن ((من)) للبدل.
          وقوله: ((فالدين أحق)) قال الكرماني: جزاء الشرط وفيه محذوف؛ أي: فهو أحقُّ وأهله أحقُّ والدين أحق.
          وقال شيخُ الإسلام _كالبرماوي_ جواب الشرط، لكن للدِّين خاصَّة، فجواب غيره محذوف؛ أي: فهو وأهلهُ والدين أحقُّ.
          زادَ البرماوي: كما أن في الجواب ما لم يسبق له شرطٌ، وهو قوله: ((والعتق والهبة))، وكلُّ ذلك لظهور المقصودِ، انتهى.
          (وَهْوَ): أي: التَّصدُّق أو الشَّيء المتصدَّق به (رَدٌّ عَلَيْهِ): أي: غير مقبولٍ من المتصدِّق؛ لأنَّ قضاء الدَّين واجبٌ كنفقةِ عياله والصَّدقة تطوُّعٌ.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): كأنَّ المصنِّفَ أراد تفسير الحديثِ المذكور بأن شرط المتصدِّق أن لا يكون محتاجاً لنفسِهِ أو لمن تلزمه نفقته، ويلتحقُ بالتصدُّقِ سائرُ التَّبرُّعاتِ، وقوله: ((فهو ردٌّ عليه)) مقتضاهُ: أن ذا الدين المستغرقِ لا يصحُّ منه التَّبرُّع، لكن محلُّ هذا عند الفقهاءِ إذا حجرَ عليه الحاكم بالفلس كما نقلَ فيه صاحب ((المغني)) من الحنابلةِ وغيرهُ الإجماع، فيحملُ إطلاق المصنِّفِ عليه، أو يكون مذهبه: أن الدِّين المستغرق يمنعُ مطلقاً، واستدلَّ لمذهبه بالأحاديث التي علَّقها. وهي خمسةٌ، وذكر في الباب أيضاً أربعة موصولة.
          وجملة: (لَيْسَ لَهُ أَنْ / يُتْلِفَ): بضم التحتية أوله؛ أي: في الصَّدقةِ وغيرها، واقتصرَ القسطلَّاني على الصدقة (أَمْوَالَ النَّاسِ): مستأنفة (قَالَ): ولأبي ذرٍّ: <وقال> بالواو (النَّبِيُّ صلعم): أي: من حديثٍ وصله المصنف في الاستقراض: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ): وإضافةُ الأموال إلى ((الناس)) كتعريفهم للجنس، فيصدُقُ في كلٍّ منها بالفرد.
          وجملة: (يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا): أي: الأموال، حاليَّة (أَتْلَفَهُ اللَّهُ): دعائية أو خبرية.
          قال القسطلاني: فمن أخذ ديناً وتصدَّق به ولا يجدُ ما يقضي به الدين فقد دخلَ في هذا الوعيدِ، انتهى.
          وهو مبنيٌّ على تخصيصهِ السَّابق.
          وقال العارفُ ابن أبي جمرة ما حاصلهُ: المرادُ أخذها سلفاً أو ديناً أو قرضاً عازماً على عدمِ وفائها، أو لم يكن له جهةٌ يرجو منها الوفاءَ ولم يخبر صاحب الدَّينِ بذلك، وحينئذٍ فيدخُلُ تحت هذا الدُّعاءُ عليه، وأما أخذُهَا على وجهِ السَّرِقة ففيهِ القطعُ بشروطه، وكذا يحلُّ ما كان منهيًّا عنه ففيه وعيدٌ مخصوصٌ.
          (إِلاَّ أَنْ يَكُونَ): أي: الآخذُ (مَعْرُوفاً بِالصَّبْرِ): هذا استثناءٌ من الترجمة أو ممن تصدَّق لا من الذي يليه؛ أي: فيتصدَّقُ مع عدم الغنى أو مع الحاجَةِ (فَيُؤْثِرَ): بمثلثة من الإيثارِ؛ أي: يقدم غيرهُ بما معه (عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ): أي: المتصدِّقُ (خَصَاصَةٌ): فهو من كلام المصنِّفِ لا من الحديث وإن أوهمهُ كلام ابن التين؛ أي: حاجَةٌ وفُقْرٌ أو شدتهما (كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ): أي: الصِّدِّيق (☺): كما ثبت في نسخةٍ (حِينَ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ): أي: جميعهِ.
          قال في ((الفتح)): هذا مشهورٌ في السِّير، ووردَ في حديثٍ مرفوعٍ أخرجهُ أبو داود وصحَّحه الترمذي والحاكمُ من طريق زيد بن أسلمَ عن أبيه: سمعتُ عمرَ يقول: أَمرَنا رسولُ الله صلعم أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبقُ أبا بكرٍ إن سبقته يوماً، فجئتُ بنصف مالي وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عندهُ فقال له النَّبي صلعم: ((يا أبا بَكرٍ مَا أبقَيتَ لأهلِكَ؟)) قال: أبقيتُ لهم اللَّهَ ورسوله، الحديث
          (وَكَذَلِكَ آثَرَ): بالمد والمثلثة، ماض؛ أي: قدَّمَ (الأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ): أي: حين قدمَ المهاجرون عليهم المدينة وليس بأيديهم شيءٌ، فقاسمهم الأنصار حتى إذا كان عند أحدهم امرأتان نزلَ عن واحدَةٍ وزوَّجها لغيره، كما يأتي موصولاً في الهبة من حديث أنس.
          (وَنَهَى النَّبِيُّ صلعم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ): هذا التَّعليقُ بعضُ حديثِ المغيرة المتقدِّمِ بتمامِهِ موصولاً أواخر صفة الصلاة، وغرضُ المصنِّفِ من إيراده هذا ردُّ صدقَةَ المديان.
          قال ابن بطَّال: أجمعوا على أنَّ المديان لا يجوزُ له أن يتصدَّقَ بماله ويترُكَ قضاءَ الدَّين، انتهى.
          واستشكل: بأن الصَّدقةَ ليست إضاعة، وأجيب: بأنَّها إن قُوبِلت بحقِّ الدين لم يبقَ فيها ثوابٌ فبطل كونها صدقة وثبُتَ أنَّها إضاعَةُ مالٍ محضَةٌ، انتهى.
          وأقول: فيه أن الحرمة لأمرٍ خارجٍ كالثَّوبِ المغصُوبِ إذا صلَّى فيه، فلا يقتضي عدم الثَّواب ليكون إضاعة مالٍ، فتأمَّله.
          وقوله: (فَلَيْسَ لَهُ): أي: للمديون (أَنْ يُضَيِّعَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِعِلَّةِ الصَّدَقَةِ): أي: لأجلها، ليس من تتمَّةِ حديثِ المغيرة.
          (وَقَالَ كَعْبٌ ☺): وزاد أبو ذرٍّ: <ابن مالك>، هو طرفٌ من حديثه الطَّويل في توبته الآتي في تفسير التوبة (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي): أي: من تمامها لتخلُّفِي عن غزوةِ تبوك (أَنْ): بفتح الهمزة (أَنْخَلِعَ) أي: أخرج (مِنْ مَالِي): أي: من جميعِهِ، وفيه استعارةٌ تبعيَّةٌ ومكنيَّةٌ، وقوله: (صَدَقَةً): حال أو مفعول لأجله، ويحتملُ أنه مفعول مطلق مبين للنوع؛ أي: خروج صدقةٍ (إِلَى اللَّهِ): صفة ((صدقة)): أي: منتهية إلى الله (وَإِلَى رَسُولِهِ صلعم، قَالَ): أي: النَّبيُّ صلعم له مرشداً له إلى ما هو الأكملُ في حقِّهِ (أَمْسِكْ): بفتح الهمزة (عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ): أي: أفضلُ.
          (قُلْتُ: فَإِنِّي): وسقطت فاء <فإني> لأبي ذرٍّ (أُمْسِكُ): بضم الهمزة؛ أي: أُبقِي لي (سَهْمِي): أي: نصيبي (الَّذِي بِخَيْبَرَ): قال الكرماني: فإن قلتُ: ما وجهُ التَّلفيقِ بين فعل أبي بكرٍ حيث صرَفَ الكُلَّ ومنع رسول الله صلعم كعباً عن صرفِ الكلِّ؟ قلت: أبو بكرٍ كان شديدَ الصَّبر قويَّ التَّوكُّل، وكعبٌ لم يكن مثله.
          وقال ابن بطَّال وغيره: اختلفَ العلماء فيمن تصدَّق بماله كله في صحة بدنِهِ وعقله، فقالت طائفةٌ: ذلك جائزٌ حينئذٍ، واستدلوا بفعل أبي بكرٍ وأن النَّبي قبلهُ ولم ينكره، وهو قول مالكٍ والكوفيين والشَّافعي والجمهور، وقال آخرون: لا يجوز شيءٌ منه لما ورد عن عمر بن الخطاب أنَّه ردَّ على غيلان / نساءهُ وكان طلَّقهنَّ، وقسم ماله على بنيهِ، فرده عُمر أيضاً.
          وقال آخرون: الجائزُ من ذلك الثلث دون غيره لحديث كعب بن مالكٍ؛ فإن النَّبيَّ ردَّ صدقته إلى الثلث، وهو قول مكحولٍ والأوزاعي، وقال آخرون: كلُّ عطيَّةٍ تزيدُ على النصف فتردُّ إليه.
          قال الطَّبريُّ: والصَّوابُ عندنا أن صدقَةَ المتصدِّقِ بمالِهِ كله في صحته جائزةٌ لإجازة النَّبي صدقةَ أبي بكرٍ بذلك، وإن كنت لا أرى أن يتصدَّقَ بماله كلِّهِ ولا يجحفُ بعيالهِ، بل يستعملُ في ذلك أدبَ الله تعالى لنبيِّه بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29]، فيجعل من ذلك الثلث، كما أمرَ النَّبيُّ كعباً وأبا لبابة، وأما إجازتُهُ لأبي بكرٍ الصدقة بجميع مالِهِ فهو إعلامٌ منه بجواز ذلك لكمالِ صبره، والدَّليلُ عليه الإجماع على أن لكلِّ مالكٍ إنفاقَ جميع ماله في حاجاتِهِ وصرفه فيما لا يحرُمُ عليه من شهواته، فمثلهُ إنفاق جميعه فيما فيه القربَةُ إلى الله ╡ بل أولى من إنفاقِهِ في لذَّاتِهِ وشهواتِهِ، انتهى ملخَّصاً.
          وأقول: قد يقال: ما نقلهُ عن عمر ☺ واقعة حالٍ فعليَّة، فلا تصلحُ استدلالاً للقائل بعدمِ الجواز على أن هذا مذهبُ صحابيٍّ فلا يحتجُّ به، نعم يمكنُ أن يحتجَّ له بقضية المدبِّر الآتي؛ فإنه عليه السلام باعَهُ وأرسل ثمنَهُ إلى الذي دبَّرهُ لكونه محتاجاً، فتدبَّر.