الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب المنان بما أعطى

          ░19▒ (بَابُ الْمَنَّانِ): بإضافتهِ للمنَّان كما هو الموجودُ في الأصول ويجوزُ عدمها، فـ((المنان)) مبتدأ وخبره محذوف نحو مذموم، بفتح الميم وتشديد النون؛ أي: ذمُّه على منِّه (بِمَا أَعْطَى): بفتح الطاء؛ أي: أعطاهُ من الصدقة، و((ما)) اسم موصول أو نكرة موصوفة، ويحتمل المصدرية، والظرف متعلقٌ بالمنَّان، وهذه الترجمة مع الآية بعدها لم تثبتْ إلا في رواية الكُشميهني من غير حديثٍ، وكأنَّهُ لعدمِ وجوده على شرطه.
          لكنَّهُ أشارَ كما في ((الفتح)): إلى ما رواه مسلمٌ عن أبي ذرٍّ رفعه: ((ثلاثَةٌ لا يُكلِّمُهم اللَّهُ تَعَالى يومَ القِيَامَةِ: الَّذي لا يُعطِي شيئاً إلَّا منَّهُ، والمنفِقُ سلعَتَهُ بالحَلفِ، والمسبِلُ إزارَهُ)).
          واعترضهُ العينيُّ فقال: هذا كلامٌ غير موجَّهٍ؛ لأنَّه كيف يشيرُ إلى ما ليس بموجودٍ؟ والإشارةُ إنما تكون للحاضرِ، انتهى.
          وقال في ((الانتقاض)): قد أكثرَ من إنكارِ مثل هذا وأثبتهُ في عدَّة مواضع إما إغفالاً وإما وجوهاً.
          وأقول: لم يردْ الإشارة الحسيَّةَ ليردَّ ما قاله كما هو ظاهرٌ، فتأمَّله.
          وفي الباب أيضاً حديثُ ابن مسعودٍ وأبي هريرة وأبي أمامة ومعقل بن يسار وعمران بن حصين لكنها ليست على شرطهِ، فلذا أسقطها واكتفى بالآية فقال:
          (لِقَوْلِهِ تعالى: {الَّذِينَ}) مبتدأ ({يُنْفِقُونَ}): بضم التحتية؛ أي: يصرفونَ ({أَمْوَالَهُمْ}): أي: بعضها ({فِي سَبِيلِ اللَّهِ}): أي: في وجه / برٍّ وطاعةٍ ({ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ}): بضم أوله وإسكان التاء، و(({ثُمَّ})) للتفاوت بين الإنفاقِ وترك المنِّ والأذى.
          ({مَا أَنْفَقُوا}): (({مَا})) موصولة أو نكرة موصوفة مفعول أول (({يُتْبِعُونَ})) ({منَّاً}): مصدر منَّ _بتشديد النون_ أي: عدد على الغير ما فعلَهُ معه، وهو من العبد مذمومٌ مبطِلٌ للأجرِ، ومن الله تعالى ممدوحٌ؛ لأنَّه المنعمُ الحقيقيُّ قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17].
          وقال شيخُ الإسلام: المنَّانُ من يعدِّدُ نعمَهُ على من أنعَمَ عليه، فالمنُّ بهذا المعنى: صفة ذمٍّ في حقِّ العبد؛ لأنَّهُ لا يكون غالباً إلا عن البُخلِ والكِبَر والعجب ونسيان منَّة الله تعالى بما أنعَمَ به عليه، أمَّا المَنُّ في حقِّ الله تعالى فصفة مدحٍ، ومن أسمائِهِ تعالى: المنَّانُ؛ أي: المنعم المعطي، انتهى.
          ومثله المانُّ.
          قال الأسنويُّ وابن الملقن: المنُّ والمنَّةُ يطلقان على النِّعمةِ، وقيل: النِّعمة الثَّقيلةُ، ويطلقان على تعديدها، والمانُّ والمنان في حقِّهِ تعالى يجوزُ أخذه من كلٍّ منهما، والثاني في حقِّ الإنسان ذمٌّ.
          ({وَلَا أَذًى}): بالقصر من عطف العام على الخاص، وسقط من نسخة وكذا بقيَّةُ الآية لغير الكُشميهني فاكتفى بقوله: <الآية>.
          قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيتَ رجلاً شيئاً ورأيتَ أن سلامك يثقلُ عليه فكفَّ سلامك عنه.
          ({لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}): أي: وإنه مدَّخرٌ لهم عندهُ لا يضيع ({وَلَا خَوفٌ عَلَيْهِمْ}): أي: فيما يستقبلونهُ من أهوالِ القيامة ({وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262]): أي: على ما خلَّفوهُ من الأولادِ ولا ما فاتهم من الحياةِ الدُّنيا وزهرتها.
          قال البيضاوي: لعله لم يدخل الفاء في خبر المبتدأ مع تضمنه ما أسندَ إليه معنى الشرط إيهاماً بأنَّهم أهلٌ لذلك، وإن لم يفعلوا فكيفَ بهم إذا فعلوا؟
          والآيةُ _كما في البيضاوي_ نزلتْ في عثمان بن عفان ☺؛ فإنَّه جهَّزَ جيشَ العسرة في غزوة تبوك بألف بعيرٍ بأقتابها وأحلاسها، وفي عبد الرحمن بن عوف؛ فإنَّه أَتَى النَّبي بأربعة آلاف درهمٍ صدقة.
          وزاد البغوي فقال: لأنَّ عندي ثمانية آلافٍ فأمسكتُ منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعةُ آلاف أقرضتها ربِّي فقال لهُ رسول الله: ((بارَكَ لك فيما أمسَكْتَ وفيما أعطَيْتَ))، انتهى.
          وقال ابن بطَّال: ذكر أهل التَّفسيرِ أنَّها نزلت في الذي يعطي مالهُ المجاهد في سبيل الله معونَةً لهم على جهادِ العدوِّ، ثمَّ يمنُّ عليهم بأنه قد صنعَ إليهم معروفاً إما بلسانٍ أو بفعلٍ، ولا ينبغي له أن يمنَّ به على أحدٍ؛ لأنَّ ثوابهُ على الله تعالى.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): مناسبةُ الآية للتَّرجمةِ واضحٌ من جهة أنَّ النَّفقةَ في سبيل الله لما كان المانُّ بها مذموماً ذمَّ المعطي في غيرها من باب الأولى.
          وقال العيني: وجهُ ذلك أنَّ الله مدحَ الذين ينفقون أموالهم في سبيله، ثمَّ لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى وجعل لهم أجراً مخصوصاً، ومفهومهُ: أن الذين يتَّبعون ما أنفقوا منًّا وأذى يكونون مذمومين، ولا يكون ذلك الأجر والشَّيء يتبيَّنُ بضدِّه، انتهى ملخَّصاً.
          ولعلَّهُ أولى من قول الحافظ المذكورِ مع ما فيه من الإشارةِ إلى الجوابِ عما يقال: كان الأولى بالمصنف الترجمة بباب فضلِ من أنفقَ ماله في سبيل الله بشرطه، وذلك لأنَّ عادتهُ أن يشيرَ إلى الأخفى دون الأظهر، فتدبَّر.
          قال القرطبي: المنُّ غالباً يقعُ من البخيل والمعجب، فالبخيلُ تعظم في نفسهِ العطيَّةُ وإن كانت حقيرةً في نفسها، والمعجَبُ يحمله على النَّظرِ لنفسه بعين العظمة، وأنَّهُ منعمٌ بماله على المعطى وإن كان أفضلَ منه في نفسِ الأمر، وموجبٌ ذلك كله الجهلَ ونسيان منَّة الله تعالى فيما أنعمَ به عليه، ولو نظرَ مصيره لعلِمَ أن المنَّةَ للآخذ لما يترتَّبُ له من الفوائدِ، انتهى.