مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب قول النبي: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت»

          ░60▒ باب قول النبي صلعم: ((اللهم اغفر لي))
          فيه حديث شعبة، إلى آخره، وقال عبيد الله بن معاذ: ثنا أبي إلى آخره.
          ثم ساق من حديث إسرائيل، ثنا أبو إسحاق، إلى آخره.
          ما ذكره عن عبيد الله بن معاذ يحتمل أن يكون (خ) أخذه عنه في المذاكرة. وعبيد الله هذا هو عبيد الله بن عبيد الله بن معاذ العنبري أبو عمرو، وعنه (م) (د)، وأخرج له (خ) (ن) أيضاً، قال أبو داود: كان يحفظ نحو عشرة آلاف حديث، وكان فصيحاً. مات سنة سبع وثلاثين ومائتين، وليس في الكتب عبيد الله بن معاذ سواه، وزعم الإسماعيلي أنه سمع من حفاظ الحديث من يقول: لم يسمع هذا الحديث أبو إسحاق من أبي بردة، إنما سمعه من سعيد بن أبي بردة.
          قوله: (اللهم اغفر لي) إلى آخره أي: أنا متصف بهذه الأشياء، فاغفرها لي، قاله النووي: قيل: إنه قاله؛ تواضعاً وعد على نفسه ذلك ذنباً. وقيل: أراد ما كان عن سهو. وقيل: ما كان قبل النبوة(1). وعلى كل حال فهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فدعا بهذا وغيره؛ تواضعاً؛ ولأن الدعاء عبادة. قال أهل اللغة: الإسراف مجاوزة الحد.
          قلت: وأظهر مما ذكره أنه قاله تعليماً لأمته.
          وقال الطبري: إن قلت: ما وجه دعائه ◙ ربه أن يغفر له خطيئته وجهله وما تقدم من ذنبه، وقد أعلمه الله أنه قد غفر له ذلك كله؟ فما وجه سؤاله ربه مغفرة ذنوبه، وهل يجوز إن كان كذلك أن يسأل العبد ربه أن يجعله من بني آدم وهو منهم؟ وأن يجعل له يدين ورجلين وقد جعلهما له، فالجواب أنه ◙ كان يسأل ربه في صلاته حين اقترب أجله بعد / أن أنزل عليه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ناعياً إليه نفسه، فقال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] وكان ◙ يقول: ((إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة)) فكان هذا من فعله في آخر عمره، وبعد فتح مكة، وقد قال تعالى له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] باستغفارك منه فلم يسأل النبي صلعم أن يغفر له ذنباً قد غفر له، وإنما غفر له ذنباً وعده بمغفرته له باستغفاره، ولذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
          قال غير الطبري: واختلف في الذنوب، هل تجوز على الأنبياء ‰؟
          فذهب الجمهور إلى أنه لا تجوز عليهم الكبائر؛ لوجوب عصمتهم، وتجوز عليهم الصغائر.
          وذهب المعتزلة إلى أنه لا تجوز عليهم الصغائر، كما لا تجوز عليهم الكبائر، وتأولوا قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [النصر:3] فقالوا: إنما غفر له تعالى ما يقع منه ◙ من سهو، وغفلة، واجتهاد، وفي فعل خير لا يوافق به حقيقة ما عند ربه، فهذا هو الذي غفر له. وسمي ذنباً؛ لأن صفته صفة الذنب المنهي عنه لا أن ذلك تعمد، وهذا بغير قصد، وهذا تأويل بعيد من الصواب، وذلك أنه لو كان السهو والغفلة ذنوباً للأنبياء يجب عليهم الاستغفار منها: لكانوا أسوأ حالاً من سائر الناس غيرهم؛ لأنه قد وردت السنة المجمع عليها أنه لا يؤاخذ العباد بالخطأ والنسيان، فلا يحتاجون إلى الاستغفار من ذلك، وما لم يوجب الاستغفار، فلا يسمى عند العرب ذنباً، والنبي صلعم هو المخبر لنا بذلك عن ربه تعالى أولى بأن يدخل مع أمته في معنى ذلك، ولا يلزمه حكم السهو والخطأ، وإنما يقع استغفاره ◙ كفارة للصغائر الجائزة عليهم، وهي التي سأل الله غفرانها له بقوله: ((اغفر لي ما قدمت وما أخرت)) وستأتي هذه المسألة في حديث الشفاعة في باب قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى؛ لأن الحديث يقتضي ذلك.
          وفيها قول آخر: محتمل والله أعلم أن يكون دعاؤه ليغفر الله له ذنبه على وجه ملازمة الخضوع لله، واستصحاب حال العبودية، والاعتراف بالتقصير؛ شكراً لما أولاه ربه ╡ مما لا سبيل له إلى مكافأته بعمل، كأن يصلي حتى ترم قدماه، فيقال له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) فكان اجتهاده في الدعاء والاعتراف بالزلل والتقصير والإقرار بالافتقار إلى الله شكراً لربه، كما كان اجتهاده حتى ترم قدماه شكراً لربه، إذ الدعاء لله من أعظم العبادة له، وليسن ذلك لأمته فيستشعروا الخوف والحذر، ولا يركنوا إلى الأمن، وإن كثرت أعمالهم وعبادتهم إلى الله تعالى، وأشار المحاسبي إلى هذا المعنى فقال: خوف الملائكة والأنبياء لله هو خوف إعظام؛ لأنهم آمنون في أنفسهم.
          فائدة:
          هل يجوز الدعاء لسائر المسلمين بالمغفرة، منعه القرافي، وخالفه ابن عبد السلام(2).
          قال القرافي في ((قواعده)): قول القائل: اللهم اغفر لي ولجميع المسلمين دعاء بالمحال؛ لما ثبت في نصوص الشريعة من كتاب وسنة أن بعض المسلمين وهم أهل الكبائر يدخلون النار، ودخول النار ينافي الغفران، ويرد ما ذكره قول الله تعالى حكاية عن نوح ◙: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] ثم دخول النار لا ينافي العذاب مطلقاً، وإنما المنافاة للخلد؛ إذ الغفران ضربان: ابتداء من غير عذاب كما قال: ((سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)) وخروجه بالشفاعة أو غيرها، وهذا لا يخرج كونه غفراناً يعم المنكر اللهم اغفر للخلق أجمعين؛ إذ يدخل فيه المخلد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74](3) / .
          والخطئة: الذنب، يقال: خطئ يخطأ، والاسم: الخطيئة على فعيلة، ولك أن تشدد الياء؛ لأن كل ياء ساكنة قبلها كسرة، أو واو قبلها ضمة، لا للإلحاق ولا من نفس الكلمة، فإنك تقلب الهمزة بعد الياء ياء، وبعد الواو واو أو تدغم فتقول في: حي حيي، والجد بكسر الجيم نقيض الهزل.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: قد علمنا الله تعالى وقال: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} والخطاب للمؤمنين أي ثبتنا على ذلك وهاهنا أيضاً يقال مثله أي يسأل ◙ ربه أن يديم له ما وعده به)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قلت: الدعاء للمسلمين لا يخلو حال المسلم إما أن يكون عاصياً أو طائعاً فإن كان عاصياً فقال القرافي: الدعاء له وبالمحال أقول وإن كان طائعاً فلا ريب له ليغفر فالدعاء بالمغفرة كمن لا ذنب له تحصيل الحاصل، قلت: أما جواب القرافي فقد ذكره ابن الملقن ووالدي وأما ما أستشكله أنا هو أنه بجواب دعاء النبي ◙ لنفسه الشريفة وهو معصوم وله أجوبة سلفت)).
[3] في هامش المخطوط: ((أقول: وقال تعالى لنبيه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ})).