مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب أفضل الاستغفار

          ░2 ▒ باب فضل الاستغفار
          وقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} الآية [هود:3].
          ثم ساق حديث بشير بن كعب العدوي عن شداد بن أوس / أن النبي صلعم قال: ((سيد الاستغفار أن تقول)) إلى آخر الحديث.
          قال: والاستغفار يكفر الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكماً في نفس ولا مال، وإن كان ذنبه من الكبائر، وأما من أوجب عليه في نفسه وماله حكماً؛ لارتكابه ذلك الذنب، فالاستغفار لا يجزئه من دون إقامة ذلك الحكم والخروج منه؛ لأن قوله ◙: ((من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف)) لأن الفرار منه وإن كان من الكبائر فهو من الذنوب التي لا توجب على مرتكب حكماً في نفس ولا مال، ولله أن يعفو ويصفح عن كل ذنب دون الشرك، للآية الكريمة.
          والمدرار في الآية: المطر، أي: بدر بالمطر، والآية الثانية روي عن علي: كنت إذا سمعت من رسول الله صلعم حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، فحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: سمعت النبي صلعم يقول: ((ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله ╡ إلا غفر له)) ثم تلا هذه الآية.
          ومعنى: {لَمْ يُصِرُّواْ} [آل عمران:135] لم يمضوا، قاله مجاهد، والمعروف أصر إذا دام، وفي الحديث: ((ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة)) وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: أي: يعلمون أنهم إن تابوا تاب الله عليهم.
          قوله: (سيد الاستغفار) أي: أفضله وأعظمه نفعاً؛ لأن فيه الإقرار بالإلهية والعبودية، وأن الله خالق، والعبد مخلوق.
          قوله: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) يعني: العهد الذي أخذه الله على عباده في أصل خلقهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟! قالوا: بلى. فأقروا له في أصل خلقهم بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية.
          والوعد: ما وعدهم أنه من مات منهم لا يشرك بالله شيئاً وأدى ما افترض الله عليه أن يدخله الجنة.
          فينبغي لكل مؤمن أن يدعو الله تعالى أن يميته على ذلك العهد، وأن يتوفاه على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى من وفي بذلك؛ اقتداء بالشارع في دعائه بذلك، ومثل ذلك سأل الأنبياء ربهم في دعائهم فقال إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وقال أيضاً نبينا عليه أفضل الصلاة وعليهم: ((وإذا أردت بقوم فتنة قاقبضني إليك غير مفتون)).
          وأعلم ◙ أمته بقوله: ((أنا على عهدك ووعدك ما استطعت)) أن أحداً لا يقدر على الإتيان بجميع ما أوجبَ الله عليه، ولا الوفاء بكمال الطاعات، والشكر على النعم، إذ نعمه تعالى كثيرة ولا يحاط بها، ألا ترى قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] فمن يقدر مع هذا أن يؤدي شكر النعم الظاهرة، فكيف الباطنة! لكن قد رفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم، وتجاوز عما فوق ذلك، وكان ◙ يمتثل هذا المعنى في مبايعته للمؤمنين فيقول: ((أنا معكم على السمع والطاعة فيما استطعتم)).
          وقال ابن التين: يريد: أنا على ما عهدتك عليه، وأوعدتك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك.
          وقد يكون معناه: إني مقيم على ما عهدت إلي من أمرك، ومتمسك بك ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر عليه. واشتراطه في ذلك الاستطاعة معناه: الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى، ثم قال: قاله أبو سليمان يعني الخطابي.
          وقال الداودي: عهد الله الإسلام، ووعده الإقرار بالجزاء يوم الدين. قال: وقوله ((ما استطعت)) من قول أو عمل.
          فإن قلت: أين لفظ الاستغفار في هذا الدعاء، وقد سماه الشارع سيد الاستغفار؟ قيل: الاستغفار في لسان العرب: هو طلب المغفرة من الله. وسؤاله غفران الذنوب السالفة، والاعتراف بها، وكل دعاء كان فيه هذا المعنى فهو استغفار، مع أن في الحديث لفظ الاستغفار، وهو / قوله: ((فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).
          ومعنى: (أبوء) أقر بنعمتك وألزمها نفسي، وأصل البواء: اللزوم، يقال: أباء الإمام فلاناً بفلان إذا ألزمه دمه وقتله به، وفلان بواء لفلان إذا قتل به، وهو كقوله: بوأه الله منزلاً؛ أي: ألزمه الله إياه وأسكنه إياه.
          وعبارة صاحب ((الأفعال)): باء بالذنب: أقر، أي: أقر بالنعمة والاستغفار والذنب. وقيل: ((أبوء بذنبي)) أي: أحمله كرهاً، لا أستطيع صرفه عن نفسي.
          قوله: (ما قالها موقناً بها..) إلى آخره. يعني: مخلصاً من قلبه، ومصدقاً بثوابها فهو من أهل الجنة، وهذا كقوله: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) وقال الداودي: هذا يحتمل أن يكون من قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود:114] وعادته التبشير بالشيء، ثم باء بأفضل منه لا بأقل مع ارتفاع الأول.
          ويحتمل أن يكون ذلك ناسخاً، وأن يكون فيمن قاله.
          ومات قبل فعل ما يغفر له به ذنوبه.