مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب التعوذ من أرذل العمر

          ░42▒ باب التعوذ من أرذل العمر
          فيه حديث أنس: كان ◙ يتعوذ يقول: ((اللهم)) إلى آخره وسلف.
          وجميع أبواب الاستعاذة ما سلف، وما يأتي / تدل آثارها على أنه ينبغي سؤال الله والرغبة إليه في كل ما ينزل بالمرء من حاجاته، وأن يعين كل ما يدعو فيه. ففي ذلك إطالة الرغبة إلى الله تعالى، والتضرع إليه، وذلك طاعة الله تعالى، وكان ◙ يتعوذ بالله من كل ذلك، ويعينه باسمه، وإن كان الله قد عصمه من كل شر؛ ليلزم نفسه خوف الله وإعظامه؛ وليبين ذلك لأمته، ويعلمهم كيف الاستعاذة من كل شيء.
          وقد روى ثابت البناني، عن أنس قال: قال رسول الله: ((ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع))؛ ليستشعر العبد الافتقار إليه في كل أمر، وإن دق، ولا يستحي من سؤاله ذلك.
          والتعوذ من المحيا والممات دعاء جامع لمعان كثيرة لا تحصى، وكذلك التعوذ من المأثم والمغرم(1).
          و(ضلع الدين): هو الذي لا يجد دينه من حيث يؤديه، وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع أي: ثقيل ودابة مضلعة: لا تقوى على الحمل. عن صاحب ((العين)). فمن حال هكذا فلا محالة أنه يؤكد ذلك عليه الكذب في حديثه، والخلف في وعده.
          فإن قلت: كيف استعاذ من المغرم، وكيف قال: ((إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما كره الله))، فيما رواه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، وكان عبد الله بن جعفر يقول: اذهب فخذ لي بدين؛ فإني أكره أن أبيت ليلة إلا والله معي، بعد ما سمعت من رسول الله.
          قلت: كلاهما صحيح، ولا تناقض بينهما، فالثاني في المستدين الذي ينوي قضاء دينه، وعنده في الأغلب ما يقضيه، فالله في عونه على قضائه، والأول الذي استدان على ثلاثة أوجه: إما فيما يكرهه الله، ثم يجد سبيلاً إلى قضائه، فحق على الله أن يؤديه، أو فيما لا يكرهه، ولكن لا وجه عنده لقضائه إن طالبه به صاحبه، فهو معرض لهلاك الأموال، ومتلف لها، أو نوى ترك القضاء وعزم على الجحد فهو عاص لربه وظالم لنفسه، نبه عليه الطبري فكل هؤلاء في القضاء مخلفون، وفي حديثهم كاذبون، فكان معلوماً بذلك أن الحال التي كره فيها ◙ الدين غير الحال التي ترخص لنفسه فيها، وذلك أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بعشرين صاعاً من شعير.
          وأما فتنة الغنى فيخشى منها بطر المال وما يؤول من عواقب الإسراف في إنفاقه وبذله فيما لا ينبغي، ومنع حقوق الله فيه، ففتنة الغنى متشعبة إلى ما لا يحصى عده، وكذلك فتنة الفقر يخشى منها قلة الصبر على الإقلال والتسخط له وتزيين الشيطان للمرء حال الغنى، وما يؤول من عاقبة ذلك لضعف البشرية.
          وكذلك الاستعاذة من العجز والكسل؛ لأنهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله تعالى وحقوق نفسه وأهله، وتضييع النظر في أمر معاده وأمر دنياه، وقد أمر المؤمنين بالاجتهاد في العمل، والإجمال في الطلب، وأن لا يكون عالة ولا عيالاً على غير ما متع بصحة جوارحه وعقله.
          وكذلك الجبن مهانة في النفس وذلة، ولا ينبغي للمؤمن أن يكون ذليلاً، بالإيمان ولزوم طاعة الله تعالى التي تؤدي إلى النعيم المقيم، فينبغي للمؤمن أن يكثر التعوذ من ذلك.
          (والهرم): هو أرذل العمر الذي ينتهي بصاحبه إلى الخرف وذهاب العقل، فيعود العالم جاهلاً، ويصير إلى حال من لا ميز له، ولا يقدر على أداء ما يلزمه من حقوق الله وحاجة نفسه، ومثل هذا خشي عمر حين قال لما كبر ما سلف.
          ومن متعه الله بصحته لم يزده طول العمر إلا خيراً يستكثر من الحسنات / ويستغيث من السيئات.
          وكذلك الهم والحزن لا ينبغي للمؤمن أن يكون مهموماً بشيء من أمور الدنيا، فإن الله قد قدر الأمور وأحكمها، وقدر الأرزاق، فلا يجلب الهم للعبد في الدنيا خيراً، ولا يأتيه بما لم يقدر له، وفي طول الهم قلة الرضا بقدر الله، وسخطه على ربه، ومن آمن بالقدر فلا ينبغي له أن يهتم على شيء فاته من الدنيا ولا يتهم ربه، ففيما قضى له الخيرة، وإنما ينبغي للعبد الاهتمام بأمر الآخرة، ويفكر في معاده وعرضه على ربه، وكيف ينجو من سؤاله عن الفتيل والنقير والقطمير؛ ولذلك قال ◙: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) فهنا يحسن الهم والبكاء، وغلبة الرجال أشد من الموت؛ لأن المغلوب يصير كالعبد من غلبة قهره، وكذلك البخل استعاذ منه؛ لقوله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
          وقال ◙: ((أي داء أدوى من البخل)) ومعنى ذلك: أن البخيل يمنع حقوق الله وحقوق الآدميين ويمنع معروفه ورفده، ونسي عشرة أهله وأقاربه.
          فإن قلت: قد دعا ◙ بالمفصلات والجوامع، وكان السلف يستحبون الدعاء إلى الله بالجوامع كنحو الرغبة والخوف والعفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، اكتفاء منه بعلم الله بموضع حاجتهم ومبلغا؟
          قيل: لكل نوع من ذلك حالة يختار العمل به فيها على الآخر، فالجوامع تحتاج في حال الحاجة إلى الإيجاز والاقتصاد، والمفصلات بالأسماء والصفات في حالة الحاجة إلى إدامة الرغبة إلى من بيده مفاتيح خزائن السموات والأرض؛ استفتاحاً بذلك مغاليقها، وقد دعا ◙ بكل ذلك في مواضعه.
          قال والدي ⌂:
          (باب التعوذ من عذاب القبر).
          قوله: (الحميدي) بضم الحاء عبد الله و(موسى بن عقبة) بضم المهملة وسكون القاف وبالموحدة و(أم خالد) ابن الزبير بن العوام بنت خالد بن سعيد بن العاص اسمها أمه بتخفيف الميم المفتوحة و(مصعب) بضم الميم وإسكان المهملة الأولى وفتح الثانية ابن سعد بن أبي وقاص و(أرذل العمر) الهرم حيث ينتكس قال تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68] ولفظ: (يعني فتنة الدجال) قالوا هو من باب زيادات شعبة بن الحجاج.
          قوله: (عثمان ابن أبي شيبة) بفتح المعجمة ضد الشباب و(جرير) بفتح الجيم وكسر الراء الأولى و(أبو وائل) بلفظ فاعل الويل بالتحتانية شقيق بكسر القاف الأولى قال الغساني: في بعض النسخ أبو وائل و(مسروق) بالعطف وهو وهم وإنما يرويه أبو وائل عن مسروق وما أحفظ لأبي وائل رواية عن عائشة.
          قوله: (عجوزان) العجوز يطلق على الشيخ والشيخة ولا يقال عجوزة إلا على لغة رديئة والعجز بضمتين جمعه.
          فإن قلت: سبق في الجنائز أن يهودية دخلت؟ قلت: لا منافاة بينهما.
          و(لم أنعم) أي: لم أحسن في تصديقها.
          قوله: (إن عجوزين) حذف خبره للعلم به وهو دخلتا.
          فإن قلت: العذاب ليس مسموعاً؟ قلت: المقصود صوت المعذب من الأنين ونحوه، أو بعض العذاب نحو الضرب مسموع، ومر في الجنائز أن صوت الميت يسمعه كل شيء إلا الإنسان.
          قوله: (المحيا) إما مصدر أو اسم زمان و(الممات) أي: زمان الموت أي بعده أو وقت النزع و(المعتمر) أخو الحاج ابن سليمان و(الهرم) هو أقصى الكبر و(الفتنة) الامتحان والضلال والإثم والكفر والعذاب والفضيحة.
          قوله: (المأثم) بمعنى الإثم و(المغرم) بمعنى الغرامة وهي ما يلزمك أداؤه كالدين والدية و(عذاب القبر) ما يترتب بعده على سبيل التوبيخ قال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} الآية [الملك:8].
          قوله: (فتنة الغني) نحو الطغيان والبطر وعدم تأدية الزكاة.
          فإن قلت: لم زاد لفظ الشر فيه ولم يذكره في الفقر ونحوه؟ قلت: تصريحاً بما فيه من الشر وأن مضرته أكثر من مضرة غيره / ، أو تغليظاً على الأغنياء حتى لا يغتروا بغناهم ولا يغفلوا عن مفاسده، أو إيماء إلى صورة إخوانه الأخر لا خير فيها بخلاف صورته، فإنها قد تكون خيراً.
          قوله: (البرد) بفتح الراء حب الغمام.
          فإن قلت: العادة أنه إذا أريد المبالغة في الغسل أن يغسل بالماء الحار لا البارد لا سيما الثلج ونحوه، قلت: قال الخطابي: هذه أمثال لم يرد بها أعيان المسميات وإنما أراد بها التوكيد في التطهير من الخطايا والمبالغة في محوها عنه، والثلج والبرد ماءان مقصوران على الطهارة لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما استعمال، فكان ضرب المثل بهما أوكد في بيان ما أراده من التطهير وتقدم في الصلاة له وجوه أخر.
          وأقول: يحتمل أنه جعل الخطايا بمنزلة نار جهنم؛ لأنها مؤدية إليها فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيداً في الإطفاء وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقياً عن الماء إلى أبرد منه وهو الثلج، ثم إلى أبرد منه وهو البرد، بدليل جموده.
          قوله: (خالد بن مخلد) بفتح الميم واللام و(سليمان) هو ابن بلال و(الضلع) بالمعجمة واللام المفتوحتين الثقل والقوة ومر الحديث آنفاً.
          قوله: (محمد بن المثنى) ضد المفرد و(غندر) بضم المعجمة وسكون النون وفتح المهملة وبالراء، اسمه محمد وعبد الملك بن عمير مصغر عمرو، مر آنفاً مع الحديث.
          قوله: (أرذل العمر) هو الهرم زمان الخرافة وحين انتكاس الأحوال قال تعالى: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70] وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:27] أي أسقاطنا.
          قوله: (أبو معمر) بفتح الميمين عبد الله و(ابن صهيب) مصغر الصهب بالمهملة.
          فإن قلت: فالدعاء بطول العمر دعاء عليه لا دعاء له، وقد ثبت في الحديث: السعادة كل السعادة طول العمر في طاعة الله؟ قلت: المراد بطوله الممدوح ما ينتكس ويبقى على علمه ويقوى على طاعته، اللهم اجعلنا من الأبرار.
          الزركشي:
          (أعوذ بك من العجز والكسل) قال صاحب ((تثقيف اللسان)): العجز ما لا تستطيعه، وأن تترك الشيء وتتراخى عنه وإن كنت تستطيعه، انتهى كلام الزركشي.
          أقول:
          قوله: (أرذل العمر) أي: آخره في حال الكبر والعجز والخرف، والأرذل من كل شيء الرديء منه.
          (باب التعوذ من فتنة المحيا والممات) يدخل تحت قوله ◙: فتنة المحيا والممات الاستعاذة من جميع فتن الدنيا والآخرة، وهو كلام عظيم واستعاذة عامة يا سعادة من نالها، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المحيا والممات يا أرحم الراحمين.
          أقول: وفتنة المحيا محنة الدنيا وفتنة الممات المسائلة في القبر، ولهذا يسمى منكر ونكير فتانا القبر أي: يفتنان الميت.
          (باب التعوذ من المأثم والمغرم) المأثم الأمر الذي يأثم به الإنسان أو هو الإثم نفسه، وأما المغرم فهو الذنوب والمعاصي، وقيل المغرم الدين ويريد ما استدين مما يكرهه الله، أو فيما يجوز ثم عجز عن أدائه، وإما دين احتاج إليه وهو قادر على أدائه فلا يستعاذ منه.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: وروي أن الله تعالى قال لموسى ◙: اسألني حتى ملح بنيك)).