نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ليس التحصيب بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله

          1766- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) المعروف بابن المدينيِّ، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هو: ابنُ عيينة (قَالَ عَمْرٌو) هو: ابن دينار، وفي رواية ابن عساكر سقط لفظ: <قال عَمرو> (عَنْ عَطَاءٍ) هو: ابنُ أبي رباح، وأخرج هذا الحديث مسلمٌ أيضاً من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، وأخرجه النَّسائي عن عليِّ بن حجر، عن سفيان، وأخرجه التِّرمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو إلى آخره، وقال: هذا الحديث حسنٌ صحيحٌ، وذكر الدَّارقطني أنَّ هذا حديث عليِّ بن حجر، قال ابن عساكر: يعني: تفرَّد به.
          وابن عيينة سمعه من حسن بن صالح عن عمرو بن دينار؛ يعني: أنَّه دلسه هنا عن عَمرو، وتعقِّب بأنَّ الحميدي أخرجه في «مسنده» عن سفيان قال: حدَّثنا عمرو.
          وكذلك رواه ابنُ أبي عمر وعبد الجبار بن العلاء وجماعة غيرهما، ورواه الإسماعيليُّ من حديث أبي خيثمة عن سفيان قال: حدَّثنا عمرو، وكذا رواه أبو نُعيم الحافظ من طريق عبد الله بن الزُّبير: حدَّثنا سفيان: حدَّثنا عَمرو فقد صرَّح أبو خيثمة، وأبو نُعيم والحميديُّ وغيرهم بالتَّحديث بين سفيان وعَمرو فانتفتْ تهمة التَّدليس.
          (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ : لَيْسَ التَّحْصِيبُ) أي: النُّزول بالمحصَّب، وهو: الأبطح (بِشَيْءٍ) من أمر المناسك الذي يلزم فعله (إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلعم ) للاستراحة بعد الزَّوال فصلَّى فيه العصرين والمغربين وبات فيه ليلة الرَّابع عشر لكن لمَّا نزل به رسول الله صلعم / كان النُّزول به مستحبًّا اتِّباعاً له، وقد فعله الخلفاء بعده رواه مسلم من طريق عبد الرَّزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ☻ بلفظ: كان النَّبي صلعم وأبو بكرٍ وعمر ☻ ينزلون بالأبطح.
          ومن طريق أخرى عن نافعٍ عن ابن عمر ☻ : أنَّه كان يرى التَّحصيب سنة، قال نافع: وقد حصَّب رسول الله صلعم والخلفاء بعده.
          ولمَّا روى التِّرمذي من حديث ابن عمر ☻ قال: كان النَّبي صلعم وأبو بكر وعمر وعثمان ♥ ينزلون بالأبطح.
          قال: وفي الباب عن عائشة وأبي رافعٍ وابن عبَّاس ♥ ، أمَّا حديث عائشة ♦ فقد أخرجه الأئمَّة السِّتة، وقد روى أحمد من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة ♦ قالت: ثمَّ ارتحل حتَّى نزل الحصبة قالت: والله ما نزلها إلَّا من أجلي.
          وأمَّا حديث أبي رافع ☺ فقد أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما من رواية سفيان بن عيينة عن صالح بن كيسان عن سليمان بن يسار عن أبي رافع ☺ قال: لم يأمرني رسولُ الله صلعم أن أنزلَ الأبطح حين خرج من منى ولكن جئت فضربت قبَّته فجاء فنزل.
          وأمَّا حديث ابن عبَّاس ☻ فقد سمعته آنفاً، قال الخطَّابي: التَّحصيب هو أنَّه إذا نفر من منى إلى مكَّة للتَّوديع يقيم بالمحصَّب حتَّى يهجع به ساعةً، ثمَّ يدخل مكَّة وليس بنسكٍ من مناسك الحجِّ إنَّما نزله رسول الله صلعم للاستراحة.
          وقال بعض العلماء: كان نزوله صلعم به شكراً لله تعالى على الظُّهور بعد الاختفاء وعلى إظهار دين الله تعالى بعدما أراد المشركون من إخفائه، وإذا تقرَّر أنَّ نزول المحصب لا تعلق له بالمناسك فهل يستحبُّ لكلِّ أحدٍ أن ينزل فيه إذا مرَّ به يحتمل أن يقال باستحبابه مطلقاً.
          ويحتمل أن يقال باستحبابه للجمع الكثير إظهاراً لشكر الله تعالى على ردِّ كيد الكفَّار وإبطال ما أرادوه، وقال الحافظ عبد العظيم المنذريُّ: التَّحصيب مستحبٌّ عند جميع العلماء.
          وقال الشَّيخ زين الدِّين العراقي: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ التِّرمذي حكى استحبابه عن بعض العلماء، وحكى النَّووي استحبابه عن مذهب الشَّافعي ومالك والجمهور وهذا هو الصَّواب، وقد كان من أهل العلم من لا يستحبُّه فكانت أسماء وعروة بن الزُّبير لا تحصبان حكاه ابن عبد البرِّ في «الاستذكار» عنهما، وكذلك سعيد بن جبير فقيل لإبراهيم: إنَّ سعيد بن جبير لا يفعله فقال: قد كان يفعله ثمَّ بدا له.
          وقال ابن بطَّال: وكانت / عائشة ♦ لا تحصب ولا أسماء وهو مذهب عروة.
          والحاصل: أنَّ من نفى أنَّها سنَّة كعائشة وابن عبَّاس ♥ أراد أنَّه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيءٌ. ومن أثبته كابن عمر ☻ أراد دخوله في عموم التَّأسي بأفعاله صلعم إلا الإلزام بذلك، ويستحبُّ أن يصلِّي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل كما دلَّ عليه حديث أنسٍ ☺.
          ويأتي إن شاء الله تعالى نحوه من حديث ابن عمر ☻ في الباب الذي يليه، والله أعلم.