نجاح القاري لصحيح البخاري

باب وجوب الحج وفضله

          ░1▒ (╖) هكذا ثبتت البسملة في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره لم تذكر، وكذا لم يذكر لفظ باب في قوله: (باب وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ، وَقَوْلِ اللَّهِ ╡: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ}) أي: ولله فرض واجب على النَّاس؛ لأنَّ اللام للإيجاب ({حِجُّ الْبَيْتِ}) مرفوع على الابتداء وخبره مقدم عليه أعني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ}.
          قوله: ({مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ}) أي: إلى البيت أو الحج ({سَبِيلاً}) بدل من النَّاس في محل الجر، والتَّقدير: ولله على من استطاع من النَّاس إليه سبيلاً، والاستطاعة هي: الزَّاد والرَّاحلة وأمن الطَّريق. وعن أنس ☺ عن النَّبي صلعم أنَّه قال: ((السَّبيل: الزَّاد والرَّاحلة)) أخرجه الحاكم ثمَّ قال: صحيحٌ على شرط مسلم.
          وروى التِّرمذي من حديث ابن عمر ☻ قال: قامَ رجل إلى النَّبي صلعم فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال: ((الشَّعِثُ التَّفِل، فقام آخر فقال: أيُّ الحجِّ أفضل يا رسول الله؟ فقال: العَجُّ والثَّجُّ، فقام آخر فقال: ما السَّبيل يا رسول الله؟ قال: الزَّاد والرَّاحلة)).
          وقال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عبَّاس وأنس ☻ والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والرَّبيع بن أنس وقتادة نحو ذلك. وقد روى ابن جرير عن ابن عبَّاس ☻ / في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} الآية [آل عمران:97] قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلاً.
          وعن عكرمة مولاه {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} السَّبيل: الصحَّة. وعن الضَّحاك عن ابن عبَّاس ☻ قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}: الزَّاد والبعير، وعليه أكثر العلماء.
          وعن ابن الزُّبير هو على قدر القوَّة، ومذهب مالك: أنَّ الرَّجل إذا وثق بقوَّته لزمه، وعنه ذلك على قدر الطَّاقة وقد يجد الزَّاد والرَّاحلة من لا يقدر على السَّفر، وقد يقدر عليه من لا راحلة له ولا زاد.
          وقال الشَّافعي: يجب الحجُّ بإباحة الزَّاد، والرَّاحلة ليست بشرط في حقِّ القادر على المشي. وعندنا معشر الحنفيَّة إنَّما يجب على حرٍّ مسلم مكلَّف صحيح؛ أي: سالم البدن عن الآفات المانعة عن القيام بما لا بدَّ منه في السَّفر فلا وجوب على الزَّمِن والمقعد والمفلوج والأعمى والشَّيخ الكبير الذي لا يثبت على الرَّاحلة بنفسه، كما ذكره في «البدائع»، وهذه رواية الأصل.
          وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة ☼ : يجب على الزَّمِن والمقعد والأعمى إذا كان له زاد وراحلة، وقالا أيضاً: إذا وجد الأعمى قائداً مملوكاً أو مستأجراً يجب عليه الحج، كما ذكره في «التُّحفة»، و«الخانية»: له زادٌ وراحلةٌ فضلاً؛ أي: زائداً عن المسكن، وما لا بدَّ منه من نفقة عياله إن كان ذا عيال إلى حين عوده مع أمن الطَّريق.
          وقال الفقيه أبو اللَّيث: إن كان الغالب في الطَّريق السَّلامة يجب، وإن كان خلاف ذلك لا يجب، وعليه الاعتماد. وعن الضَّحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع، وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكَّة أكان يتركه بل كان ينطلق إليه ولو حبواً، فكذلك يجب عليه الحج.
          ({وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} الآية [آل عمران:97]) لا ينفعه إيمانهم ولا يضرُّه كفرهم. قال ابن عبَّاس ☻ ومجاهد وغير واحد: أي: ومن جحد فرضيَّة الحج فقد كفر، والله غنيٌّ عنه. وقيل: من لم يرج ثوابه ولم يخف عقاب تركه، وقيل: إذا أمكنه الحج ولم يحج حتَّى مات، وفي هذه الآية أنواع من التَّوكيد والتشديد.
          منها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} الآية / يعني: إنَّه حقٌّ واجب لله في رقاب المسلمين، لا ينفكُّون عن أدائه والخروج من عهدته. ومنها: الدَّلالة على وجوبه بصيغة الخبر وإبرازه في صورة الاسميَّة. ومنها: أنَّه ذكر النَّاس، ثمَّ أبدل عنه من استطاع إليه سبيلاً.
          وفيه ضربان من التَّأكيد:
          أحدهما: أنَّ الإبدال تثنية للمراد وتكرير له.
          والثَّاني: أنَّ الإيضاح بعد الإبهام، والتَّفصيلَ بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين.
          ومنها قوله: ومن كفر مكان ومن لم يحج تغليظاً على تارك الحج وتشديداً عليه، ولذلك قال رسول الله صلعم : ((من مات ولم يحجَّ فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا)) ونحوه من التَّغليظ: «من ترك الصَّلاة متعمداً فقد كفر».
          وقد روى ابن مردويه من حديث الحارث، عن عليٍّ ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((من ملك زاداً وراحلة ولم يحجَّ بيت الله فلا يضرُّه مات يهوديًّا أو نصرانيًّا ذلك بأنَّ الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} إلى آخر الآية)).
          ورواه التِّرمذي أيضاً وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعَّف في الحديث. ومنها: ذكر الاستغناء عنه، وذلك ممَّا يدلُّ على المقت والسَّخط والخذلان.
          ومنها: قوله: عن العالمين بدل عنه؛ لما فيه من الدَّلالة على الاستغناء عنه ببرهان؛ لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنَّه يدلُّ على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السَّخط الذي وقع عبارة عنه.
          وإنَّما أشعر بعظم السَّخط؛ لأنَّ الحجَّ مظنَّة الإهمال لِمَا فيه من كسر النَّفس وإتعاب البدن وصرف المال الذي هو شقيق الرُّوح، والتجرُّد عن الشَّهوات، والإقبال على الله تعالى بالكليَّة. وهاهنا دقيقة أنيقة قلَّما يُتَفَطَّنُ لها وهي أنَّ اللام في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ} مظنَّة أن يكون في الحج نفع له تعالى، فدفعه ببيان غناه تعالى عن العالمين. وعن سعيد بن المسيَّب أنَّها نزلت في اليهود فإنَّهم قالوا: الحج إلى مكَّة غير واجب.
          وروي أنَّه لمَّا نزل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] جمع رسول الله صلعم أهل الأديان كلَّهم فخطبهم فقال: ((إنَّ الله كتب عليكم الحجَّ فحجُّوا فآمنت به ملَّة واحدة وهم المسلمون، وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلِّي إليه، ولا نحجُّه فنزل: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97])).
          وعن النَّبي صلعم : ((حجُّوا قبل أن لا تحجُّوا / قبل أن يمنعَ البر جانبه)). وعن ابن مسعود ☺: ((حجُّوا هذا البيت قبل أن تنبتَ في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلَّا نفقت)). وعن عمر ☺: «لو ترك النَّاس الحج عامًّا واحداً ما نُوظروا».
          ثمَّ إنَّ المؤلِّف ☼ أشار بذكر هذه الآية الكريمة إلى أنَّ وجوب الحجِّ قد ثبت بها عند الجمهور، وقيل: ثبت وجوبه بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} الآية [البقرة:196] والأوَّل أظهر.
          وقد وردت الأحاديث المتعدِّدة بأنَّه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضروريًّا.
          وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يزيد بن هارون: حدَّثنا الرَّبيع بن مسلم القرشي، عن محمَّد بن زياد، عن أبي هريرة ☺ قال: خطبنا رسول الله صلعم فقال: ((يا أيُّها النَّاس إن الله ╡ قد فرض عليكم الحج فحجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتَّى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلعم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثمَّ قال: ذروني ما تركتُكم، فإنَّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه))، ورواه مسلم وفي روايته: ((فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله، أفي كلِّ عام)) الحديث.
          وفي رواية عند أحمد عن عليٍّ ☺ قال: لمَّا نزلت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] قالوا: يا رسول الله، في كلِّ عام؟ [وفي رواية ابن ماجه عن أنس بن مالك] قال: ((لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها لعذبتم)).
          وفي «الصَّحيحين» من حديث جابر ☺: أنَّ سراقة بن مالك قال: يا رسول الله مُتْعتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ قال: ((بل للأبد)).