نجاح القاري لصحيح البخاري

باب التجارة أيام الموسم والبيع في أسواق الجاهلية

          ░150▒ (باب) جواز (التِّجَارَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ) بفتح الميم وسكون الواو وكسر السين المهملة.
          قال الأزهريُّ: سمِّي موسم الحجِّ موسماً؛ لأنَّه معلم يجتمع إليه النَّاس وهو مشتقٌّ من السِّمة وهي العلامة.
          (وَ) جواز (الْبَيْعِ فِي أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ) وهي أربعة: عُكاظ، وذو المجاز، ومجنة، وحُبَاشة.
          أمَّا عُكَاظ: فهو بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وبعد الألف ظاء معجمة، قال الرَّشاطي: هي صحراءٌ مستويةٌ لا علم فيها ولا جبل إلَّا ما كان من الأنصاب التي كانت بها في الجاهليَّة وبها من دماء البدن كالأرحاء العِظَام.
          وقال محمَّد بن حبيب: عُكاظ بأعلى نجدٍ قريب من عرفات، وقال غيره: عكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء، وهي من عمل الطَّائف وعلى بريد منها وأرضها لبني نصر واتخذت سوقاً بعد الفيل بخمس عشرة سنة وتركت عام خرجت الحرورية بمكَّة مع أبي حمزة المختار بن عوف سنة تسع وعشرين ومائة إلى هلم جرًّا خاف النَّاس أن ينتهبوا وخافوا الفتنة فتركت إلى الآن.
          وعن ابن الكلبيِّ: أنَّها كانت لقيس، وقال أبو عبيدة: عكاظ ماءٌ بين نخلة والطَّائف إلى موضع يقال له: الفُتق _بضم الفاء والمثناة الفوقية بعدها قاف_ وبه أموالٌ ونخل لثقيف بينه وبين الطَّائف عشرة أميال، فكان سوق عكاظ تقوم صبح هلال ذي القعدة عشرين يوماً.
          وعكاظ مشتقٌّ من قولك: عكظت الرَّجل عكظاً، إذا قهرته بحجَّتك؛ لأنَّهم كانوا يتفاخرون هناك بالفخر ويتناشدون الشِّعر، وكانت بعكاظ وقائع مرَّة بعد مرَّة، وبعكاظ رأى رسول الله صلعم قُس بن ساعدة وحفظ كلامه، وكان يتَّصل بعكاظ بلدٌ تسمَّى: ركبة، بها عينٌ تسمَّى: عين خليص، وكان ينزلها من الصَّحابة: قدامة بن عمَّار الكلابي، ولقيط بن ضمرة العقيلي، ومالك بن نضلة الحبشي.
          وأمَّا ذو المجاز فقد ذكر ابنُ إسحاق أنَّها كانت بناحية عرفة إلى جانبها، وعن الكلبيِّ: أنَّه كان لهذيل على فرسخ من عرفة.
          وقال / الرَّشاطي: كان ذو المجاز سوقاً من أسواق العرب، وهو عن يمين الموقف بعرفة قريباً من كبكب وهو سوقٌ متروك.
          وقال الكرمانيُّ: ذو المجاز بلفظ ضد الحقيقة موضع بمنى كان به سوق في الجاهليَّة، وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الطَّبري روى عن مجاهدٍ أنَّهم كانوا لا يبيعون ولا يبتاعون في الجاهليَّة بعرفة ولا منى.
          وأمَّا مَجَنَّة فهي بفتح الميم والجيم وتشديد النون، وهي على أميالٍ يسيرةٍ من مكَّة بناحية مرِّ الظهران ويقال: هي على بريد من مكَّة وهي لكنانة، وبأرضها وَشامةُ وطَفِيل جبلان مشرفان عليها سمِّيت بها لبساتين تتَّصل بها وهي الجنان، ويحتمل أن يكون من مجنَ يمجنُ سمِّيت بذلك؛ لأنَّ ضرباً من المجون كان بها.
          وأمَّا حُبَاشة فهي بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف شين معجمة، وكانت بأرض بارق نحو قَنُونا بفتح القاف وضم النون المخففة وبعد الواو الساكنة نون أخرى مقصورة من مكَّة إلى جهة اليمين على ستِّ مراحلٍ.
          ولم يذكر هذا في الحديث لأنَّه لم يكن في مواسم الحجِّ، وإنَّما كان يقام في شهر رجب.
          وقال الرَّشاطي: هي أكبر أسواق تهامة كان يقوم ثمانية أيَّام في السَّنة، قال حكيم بن حزام: وقد رأيتُ رسول الله صلعم يحضرها واشتريت منه فيها بزًّا من بزِّ تهامة.
          وقال الفاكهيُّ: ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أوَّل ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة، وآخر ما ترك منها سوق حُبَاشة في زمن داود بن عيسى بن موسى العبَّاسي في سنة سبع وتسعين ومائة.
          وروى الزُّبير بن بكار في كتاب «النسب» من طريق حكيم بن حزام أنَّها _أي: سوق عكاظ_ كانت تقام صبح هلال ذي القعدة إلى أنْ يمضي عشرون يوماً، قال: ثمَّ يقوم سوق مجنَّة عشرة أيَّام إلى هلال ذي الحجَّة ثمَّ يقوم سوق ذو المجاز ثمانية أيَّام ثمَّ يتوجَّهون إلى منى للحجِّ.
          وفي حديث أبي الزُّبير عن جابر ☺: أنَّ النَّبي صلعم لبث عشر سنين يتبع النَّاس في منازلهم في الموسم بمجنَّة يبلِّغ رسالات ربِّه. أخرجه أحمد وغيره.