نجاح القاري لصحيح البخاري

باب التلبية

          ░26▒ (بابُ) بيان كيفيَّة (التَّلْبِيَةِ) وهي مصدر لبَّى يلبِّي، وأصله: لبَّب على وزن فعَّل فقلبت الموحدة الثالثة ياء مثناة استثقالاً لثلاث موحَّدات ثمَّ قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها.
          وقال صاحب «التلويح»: وقولهم: لبَّى يلبِّي مأخوذٌ من لفظ لبَّيك؛ أي قال: لبَّيك، كما قالوا: حَمْدَل وحَوْقَل، قال العينيُّ: وهذا ليس بصحيحٍ، وإنَّما الصَّحيح الذي تقتضيه القواعد الصرفيَّة أنَّ لفظ: لبَّى مشتقٌّ من لفظ التَّلبية.
          وقياس ذلك على حَمْدَل وحَوْقَل في غاية البُعْد، ومعنى التَّلبية الإجابة فإذا قال الرَّجل لمن دعاه: لبَّيك فمعناه: أجبت لك فيما قلت، واختلف في لفظ لبَّيك ومعناه: أمَّا لفظه فتثنية عند سيبويه يراد بها التَّكثير مرَّة بعد مرَّة لا أنَّهما لِحقيقة التَّثنية بحيث لا يتناول إلَّا فردين، وقال يونس: هو مفرد، والياء فيه كالياء في عليك ولديك وإليك، يعني: في قلب الألف ياء لاتِّصالها بالضَّمير، وردَّ بأنَّها قلبت ياء مع المُظْهَر أيضاً.
          وأمَّا معناه فقيل: معناه إجابةً بعد إجابةٍ أو إجابة لازمة، قال ابن الأنباريِّ: ومثله حنانيك؛ أي: تحنناً بعد تحننٍ، وقيل: معناه: أنا مقيمٌ على طاعتك إقامةً بعد إقامةٍ من ألبَّ بالمكان أو لبَّ به إذا أقام به ولزمه.
          وقيل: معناه اتِّجاهي وقصدي إليك من قولهم: داري تلبُّ بدارك؛ أي: تواجهها، وقيل: معناه محبَّتي لك من قولهم: امرأة لبَّة؛ أي: محبَّة لزوجها أو عاطفة على ولدها.
          وقيل: معناه إخلاصي لك من قولهم حسب لباب؛ أي: خالص، وقيل: معناه قرباً منك من الإلباب وهو القرب، وقيل: خاضعاً لك والأوَّل منها أظهر / وأشهر؛ لأنَّ المحرم مجيبٌ لدعاء الله إيَّاه في حجِّ بيته، ولهذا من دعى فقال: لبَّيك فقد استجاب.
          وعن الفراء: لبَّيك منصوب على المصدر، وأصله لبَّا لك، فثنى للتأكيد؛ أي: إلباباً بعد إلباب.
          قال ابن عبد البرِّ: قال جماعةٌ من أهل العلم: معنى التَّلبية إجابة دعوة إبراهيم ╕ حين أذَّن في النَّاس بالحجِّ.
          وقال القاضي عياض: والدَّاعي إبراهيم ╕ لما دعا النَّاس إلى الحجِّ على جبل أبي قبيس وقيل: على حجر المقام، وقيل: عند ثنية كداء، وزعم ابن حزم أنَّ التَّلبية شريعة أمر الله تعالى بها لا علَّة لها إلَّا قوله تعالى: {لنبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الآية [الملك:2].