نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن

          ░18▒ (باب) جواز استعمال (الطِّيبِ عِنْدَ) إرادة (الإِحْرَامِ وَ) جواز (مَا يَلْبَسُ) الشَّخص (إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَتَرَجَّلُ) بالرفع عطف على قوله: يلبس، ويروى بالنصب، ووجهه أن يكون منصوباً بأن المقدرة كما في قول الشَّاعر:
للُبسُ عَباءةٍ وتقَرَّ عَيْني                     أحبُّ إليَّ من لُبسِ الشُّفوفِ
          وهو من الترجُّل على وزن التفعل، وهو أن يسرَّح شعره، من رجَّلت رأسي إذا مشَّطته بالمشط.
          (وَيَدْهَنُ) عطف على قوله: ويترجَّل على الوجهين، وهو بفتح الهاء من الثلاثي. ويروى: بتشديد الدال المفتوحة وكسر الهاء، على أنَّه مضارع ادَّهن من باب الافتعال، أصله: يدتهن فأدغمت؛ معناه: يتطلى بالدهن، وإنَّما أضاف البخاري إلى الطِّيب المقتصر عليه في حديث الباب: الترجُّل والإدهان؛ لجامع ما بينهما من الترفه، فكأنَّه يقول: يلحق بالتَّطيب سائر الترفُّهات، فلا تحرم على المحرم عند إرادة الإحرام، كذا قال ابن المنيِّر.
          وقال الحافظ العسقلاني: والذي يظهر أنَّ البخاري أشار إلى ما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد أربعة أبواب [خ¦1545] من طريق كريب، عن ابن عبَّاس ☻ قال: «انطلق النَّبي صلعم من المدينة بعدما ترجَّل وادَّهن». الحديث، على أنَّ الترجُّل يؤخذ في حديث عائشة ♦ من قولها: «كأنِّي أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلعم وهو محرم»، فإنَّ استعماله بعد الترجُّل غالباً، والله أعلم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : يَشَمُّ) بفتح الشين المعجمة، على الأشهر، وحُكِي ضمها. وذكر في «الفصيح»: بفتح الشين في المضارع وكسرها في الماضي، والعامة تقول: شممت بالفتح في الماضي، وبالضم في المستقبل، وهو خطأ.
          وعن الفرَّاء وابن الأعرابي يقال: شمِمت / أشمُّ بالكسر في الماضي، وبالفتح في المستقبل، وشمَمت أشمُّ بالفتح في الماضي، وبالضم في المستقبل، والأول أفصح، ويقال في مصدره: الشَّم والشَّميم، ويقال تشمَّمته تشمُّماً من باب التفعُّل. وقال الزَّمخشري: وقد جاء في مصدره شميمي على وزن فعيلي، كالخليفي والخطيبي.
          وقال ابن درستويه: معنى الشَّم استنشاق الرَّائحة، وقد يُستعار في غير ذلك في كلِّ ما قارب شيئاً أو دنا منه.
          (الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ) على وزن المفعال (وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ) أي: بالذي يأكل منه، وقوله: (الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ) بالجر بدل أو بيان لما يأكل، وقال ابن مالك: بالجر عطف على ما الموصولة، فإنَّها مجرورة بالباء وهو غير ظاهر، وقيل: وقع بالنصب وليس المعنى عليه؛ لأنَّ الذي يأكل هو الآكل لا المأكول، لكن يجوز على الاتِّساع.
          وأنت خبير بأنَّه إذا ثبتتْ الرِّواية بالنصب لا يحتاج إلى هذا التعسُّف، بل يجوز أن يكون منصوباً على تقدير؛ أعني. ويجوز الرَّفع على أن يكون الزيت خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الزَّيت والسَّمن عطف عليه، أمَّا شمُّ الريحان فقد وصله البيهقي بسندٍ جيِّد إلى سفيان بن عيينة: حدَّثنا أيُّوب، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ «أنَّه كان لا يرى بأساً للمحرم أن يشمَّ الريحان».
          وروى الدَّارقطني بسندٍ صحيح عنه: ((المحرم يشمُّ الرَّيحان، ويدخل الحمَّام، وينزع ضرسه ويفقأ القرحة، وإن انكسر ظفره أماط عنه الأذى)).
          واختلف الفقهاء في الرَّيحان فقال إسحاق: يباح، وتوقَّف أحمد فيه، وقال الشَّافعي: يحرم وكرهه مالك والحنفيَّة، ومنشأ الخلاف أنَّ كلَّ ما يُتَّخذ منه الطِّيب يحرم بلا خلاف، وأمَّا غيره فلا، وروى ابن أبي شيبة عن جابر ☺ أنَّه قال: «لا يشم المحرم الرَّيحان».
          وروى البيهقي بسندٍ صحيحٍ عن ابن عمر ☺: «أنَّه كان يكره شم الرَّيحان للمحرم»، وعن أبي الزُّبير: «أنَّه سمع جابراً ☺ يُسأل عن الرَّيحان أيشمَّه المحرم والطِّيب والدهن فقال: لا».
          وعن جابر ☺: «إذا شمَّ المحرم ريحاناً أو مسَّ طيباً أَهْرَقَ لذلك دماً»، وعن إبراهيم: في الطِّيب الفدية. وعن عطاء: إذا شمَّ طيباً كَفَّر، وعنه: إذا وضع المحرم على شيء دهناً فيه طيب فعليه الكفَّارة.
          والرَّيحان: ما طاب ريحه من النَّبات كله سهليه وجبليه، والواحدة ريحانة، وفي «المحكم»: الرَّيحان: أطراف كل بقلة طيبة الرِّيح إذا خرج عليها أوائل النُّور، والرَّيحانة: / طاقة من الريحان.
          وأمَّا النظر في المرأة فقال الثَّوري في «جامعه»: رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه عن هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ قال: «لا بأس أن ينظر في المرأة وهو محرم».
          وروى ابن أبي شيبة، عن ليث، عن طاوس: لا ينظر، ونقل كراهته أشعث عن القاسم بن محمَّد.
          وأمَّا التَّداوي فقال ابن أبي شيبة: حدَّثنا أبو خالد الأحمر، وعبَّاد بن العوَّام، عن أشعث، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّه كان يقول: «يتداوى المحرم بما يأكل». وقال أيضاً: حدَّثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الضَّحاك، عن ابن عبَّاس ☻ قال: «إذا تشقَّقت يد المحرم أو رجلاه فليدهنهما بالزَّيت أو بالسَّمن».
          وروي أيضاً من حديث ابن عمر ☻ : «يتداوى المحرم بأيِّ دواء شاء إلَّا دواء فيه طيب»، وكان الأسود يضمِّد رجله بالشَّحم وهو محرم، وعن أشعث بن أبي الشَّعثاء: حدَّثني من سمع أبا ذرٍّ ☺: «لا بأس أن يَتداوى المحرم بما يأكلُ»، وفي رواية: حدَّثني مرَّة بن خالد، عن أبي ذرٍّ ☺، وعن مغيث البَجَلي قال: أصابني شُقَاق وأنا محرم فسألتُ أبا جعفر فقال: ادهنه بما تأكل.
          وكذا قاله ابن جبير وإبراهيم وجابر بن زيد ونافع والحسن وعروة، وقال أبو بكر: حدَّثنا وكيع: حدَّثنا حمَّاد، عن فرقد السَّبخي، عن ابن جبير، عن ابن عمر ☻ : «أنَّ النَّبي صلعم كان يدهن بالزَّيت عند الإحرام».
          قال الزُّهري: هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث فرقد ولفظه: بالزيت وهو محرم غير المقَتَّت؛ أي: المطيَّب، بفتح القاف وتشديد التاء الأولى الفوقية، وفي هذا الأثر ردَّ على مجاهد في قوله: إن تداوى بالسَّمن أو الزَّيت فعليه دم. أخرجه ابن أبي شيبة.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو: ابن أبي رباح (يَتَخَتَّمُ) أي: يلبس المحرم الخاتم (وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ) هو بكسر الهاء معرَّب، وهو شبه تكة السَّراويل، يجعل فيه الدَّراهم ويُشَدُّ على الوسط، يقال له بالترُّكي: كَمَر، وفي «المغيث»: قيل: هو فعلان، من همى إذا سال؛ لأنه إذا أفرغ همى ما فيه.
          وفسَّر ابن التِّين الهميان بالمنطقة، وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع، عن هشام، عن عطاء / قال: لا بأس بالخاتم للمحرم. وحدَّثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق عنه.
          وعن ابن عبَّاس ☻ بسندٍ صحيحٍ: «لا بأس بالخاتم للمحرم»، وعن أبي الهيثم، عن النَّخعي ومجاهد مثله، وقال خالد بن أبي بكر: رأيت سالم بن عبد الله يلبس خاتمه وهو محرم. وكذا قاله إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير. وأخرج الدَّارقطني من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء، وربَّما ذكره عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس ☻ قال: «لا بأس بالهميان والخاتم للمحرم».
          وأخرجه الطَّبراني وابن عديٍّ من وجه آخر عن ابن عبَّاس ☻ مرفوعاً وإسناده ضعيف.
          قال ابن عبد البر: وأجمع عوام أهل العلم وفقهاء الأمصار على أنَّ للمحرم أن يشدَّ الهميان على وسطه، وروي ذلك عن ابن عبَّاس ☻ ، وسعيد بن المسيَّب، والقاسم، وعطاء، وطاوس، والنَّخعي، وهو قول مالك والكوفيِّين والشَّافعي، وأحمد وأبي ثور.
          ولم ينقل عن أحد كراهته إلَّا عن ابن عمر ☻ ، وعنه جوازه. نعم منعه إسحاق قال: لا يدخل السيور بعضها في بعض.
          وقيل: إنَّه تفردَّ به، وليس كذلك، فقد أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن سعيد بن المسيَّب قال: لا بأس بالهميان للمحرم، ولكن لا يعقد عليه السَّير، بل يلفه لفاً، هذا، وسئلت عائشة ♦ عن المنطقة فقالت: «أوثق عليك نفقتك».
          وقال ابن عليَّة: قد أجمعوا أنَّ للمحرم أن يعقدَ الهميان والإزار على وسطه وكذلك المنطقة.
          قال العيني: وقول إسحاق لا يُعَدُّ خلافاً، ولاحظَّ له في النَّظر؛ لأنَّ الأصل النَّهي عن لبس المخيط، وليس هذا مثله، فارتفع أن يكون له حكمه.
          وقال ابن التِّين: إنَّما ذلك ليكون نفقته فيها، وأمَّا نفقة غيره فلا، وإن جعلها في وسطه لنفقته، ثمَّ نفدت نفقته وكان معها وديعة ردَّها إلى صاحبها، فإن تركها افتدى، وإن كان صاحبها غاب بغير علمه فتركها لا شيء عليه، ويشدُّ المنطقة من تحت الثِّياب.
          (وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ ☻ وَهُوَ مُحْرِمٌ) جملة حالية، وكذا قوله: (وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ) أي: شدَّ، وهذا التَّعليق وصله الشَّافعي من طريق طاوس قال: «رأيت ابن عمر ☻ يسعى وقد حزم على بطنه بثوب». وعن سعيد، عن إسماعيل بن أميَّة: أنَّ نافعاً أخبره أنَّ ابن عمر ☻ لم يكن عقد الثَّوب عليه إنَّما غرز طرفه على إزاره.
          وروى ابن أبي شيبة: حدَّثنا ابن فضيل، عن ليث، عن عطاء وطاوس قالا: «رأينا ابن عمر ☻ / وهو محرم وقد شدَّ حقويه بعمامة». وحدَّثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن مسلم بن جندب: سمعت ابن عمر ☻ يقول: «لا تعقد عليك شيئاً وأنت محرم».
          قال ابن التِّين: وهو محمول على أنَّه شدَّه على بطنه، فيكون كالهِميان، ولم يشدَّه فوق المئزر، وإلا فما له يرى على من فعل ذلك الفدية.
          وروى الحاكم بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي سعيد الخدري ☺ قال: حجَّ النَّبي صلعم وأصحابُه مشاةً فقال: «اربطوا على أوساطكم مآزركم وامشوا مشياً خِلْط الهرولة».
          وفي «التَّوضيح»: اختُلف في الرِّداء الذي يلتحف به على مئزره، فكان مالك لا يرى عقده، ويلزمه الفدية إن انتفع به، ونهى عنه ابن عمر ☻ . وكذا عطاء وعروة، ورخَّص فيه سعيد بن المسيَّب، وكرهه الكوفيُّون وأبو ثور وقالوا: لا بأس عليه إن فعل، وحُكِي عن مالك أنَّه رخَّص للعامل وكرهه لغيره، والله أعلم.
          (وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ ♦ بِالتُّبَّانِ) بضم المثناة الفوقية وتشديد الموحدة وبعد الألف نون كالرُّمان هو سراويلُ قصيرٌ جدًّا، وهو مقدار شبر ساتر للعورة الغليظة فقط، ويكون للملَّاحين والمصارعين (بَأْساً لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ) بفتح الياء وسكون الراء وفتح الحاء المهملة.
          قال الجوهري: رحلت البعير أرحله رَحْلاً، إذا شددت على ظهره الرَّحل. قال الأعشى:
رَحَلَتْ أُمَيْمَةُ غَدْوَةَ أَجْمَالها
          وسيأتي إن شاء الله تعالى في التَّفسير قبل رقم [خ¦4654] استشهاد البخاري بقول الشاعر:
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحلُهَا بلَيلٍ
          وعلى هذا فوهم من ضبطه هنا بتشديد الحاء المهملة وكسرها.
          (هَوْدَجَهَا) بفتح الهاء والجيم، مركب من مراكب النِّساء مقتَّب وغير مقتَّب، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور من طريق عبد الرَّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ♦: «أنَّها حجَّت ومعها غلمان لها، وكانوا إذا شدُّوا رحلها يبدو منهم الشَّيء، فأمرتهم أن يتَّخذوا التبابين فيلبسوها وهم محرمون»، وأخرجه من وجه آخر مختصراً بلفظ: «يشدون هودجها».
          وفي هذا ردٌّ على ابن التِّين في قوله: أرادت النِّساء؛ لأنَّهن يلبسن المخيط بخلاف الرِّجال، وكأنَّ هذا رأي رأته عائشة ♦، وإلَّا فالأكثر على أنَّه لا فرق بين التبان والسَّراويل في منعه للمحرم.
          وفي «التَّوضيح»: التبان لبسه حرام عندنا كالقميص والدَّرَّاعة والخُف ونحوها، فإن لبس شيئاً من ذلك مختاراً عامداً أَثِمَ وأزاله وافتدى سواء قصر الزَّمان أو طال.