نجاح القاري لصحيح البخاري

باب رمي الجمار

          ░134▒ (بابُ) وقت (رَمْيِ الْجِمَارِ) وإنَّما قدَّر الوقت؛ لأنَّ حديث الباب لا يدلُّ إلَّا على بيان وقت الجمار، أو المعنى حكم رمي الجمار، وقد اختلف فيه؛ فالجمهور على أنَّه واجبٌ يجبر تركه بدم.
          وعند المالكيَّة سنَّة مؤكَّدة فتجبر، وعندهم رواية أنَّ رمي جمرة العقبة ركنٌ / يبطل الحجُّ بتركه، ومقابله قول بعضهم: إنَّها إنَّما تشرع حفظاً للتَّكبير فإنَّ تركه وكبَّر أجزأه، حكاه ابن جريرٍ عن عائشة ♦ وغيرها، والجمار واحدتها جمرة وهي في الأصل النَّار، والحصاة، وواحدة جمرات المناسك، وهي المرادة هنا.
          وهي ثلاث: الجمرة الأولى، والوسطى، وجمرة العقبة، يرمين بالجمار، قاله في «القاموس».
          وقال القرافيُّ من المالكيَّة: الجِمَار اسمٌ للحصى لا للمكان، والجمرة اسمٌ للحصاة، وإنَّما سمِّي الموضع جمرة باسم ما جاوره وهو اجتماع الحصى فيه، والأُولى منها هي التي تلي مسجد الخيف أقرب، ومن بابه الكبير إليها ألف ذراعٍ ومائتا ذراعٍ وأربعة وخمسون ذراعاً وسدس ذراعٍ، ومنها إلى الجمرة الوسطى مائتا ذراعٍ وخمسة وسبعون ذراعاً، ومن الوسطى إلى جمرة العقبة مائتا ذراعٍ وثمانية أذرعٍ، كلُّ ذلك بذراع الحَدِيد.
          (وَقَالَ جَابِرٌ) هو: ابن عبد الله الأنصاريِّ ☻ (رَمَى النَّبِيُّ صلعم ) أي: جمرة العقبة (يَوْمَ النَّحْرِ ضُحَى) الرِّواية فيه بالتنوين على أنَّه منصرفٌ، وكذا في التَّنزيل، وهو مذهب النُّحاة من أهل البصرة، سواءٌ قصد التَّعريف أو التَّنكير.
          وقال الجوهريُّ: تقول لقيته ضحَى وضحًى إذا أردت به ضحى يومك لم تنوِّنه، وقال في «القاموس»: الضُّحى والضَّحيَّة كعشيَّة: ارتفاع النَّهار، والضُّحى فُوَيْقَه، ويُذَكَّر ويصغَّر ضحيًّا بلا هاء.
          والضَّحاء: بالمد إذا قرب انتصاف النَّهار، وبالضم والقصر الشَّمس، وأتيتك ضَحْوة: ضُحًى وأَضْحَى: صَار فيها. انتهى.
          وقال الجوهريُّ: ضحوة النَّهار بعد طلوع الشَّمس ثمَّ بعده الضُّحى، وهو حين تشرق الشَّمس، مقصور يؤنِّث ويُذَكَّر، فمن أنَّث ذهب إلى أنَّها جَمْع ضَحْوة، ومن ذَكَّر ذَهَبَ إلى أنَّه اسمٌ على فُعَل مثل: صُرَد ونُعَر، وهو ظرفٌ غير متمكِّنٍ، مثل: سحر، قال: ثمَّ بعده الضحاء ممدودٌ مُذّكَّر، وهو عند ارتفاع النَّهار الأعلى.
          (وَرَمَى) صلعم (بَعْدَ ذَلِكَ) أي: الجمار أيَّام التَّشريق (بَعْدَ الزَّوَالِ) وهذا التَّعليق وصله مسلمٌ وابن خزيمة وابن حبَّان من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزُّبير عن جابرٍ ☺ قال: ((رأيتُ النَّبي صلعم رمى الجمرة ضحى يوم النَّحر وحده، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشَّمس)).
          ورواه الدَّارمي عن عبيد الله بن موسى، عن ابن جُريج بلفظ التَّعليق لكن قال: / ((وبعد ذلك عند زوال الشَّمس))، ورواه أبو داود والتِّرمذي والنَّسائي أيضاً.
          ثمَّ إنَّه يستفاد من الحديث حكمان: الأوَّل أنَّ وقت رمي جمرة العقبة يوم النَّحر ضحى اقتداء به صلعم .
          وقال الرَّافعي: المستحبُّ أن يرمي بعد طلوع الشَّمس، ثمَّ يأتي بباقي الأعمال فيقع الطَّواف في ضحوة النَّهار. انتهى.
          وقال الشَّيخ زين الدِّين العراقيُّ: وما قاله الرَّافعي يخالف الحديث على مقتضى تفسير أهل اللغة أنَّ ضحوة النَّهار متقدِّمة على الضُّحى، وهذا وقت الاختيار.
          وأمَّا أوَّل وقت الجواز فهو بعد طلوع الشَّمس، وهذا مذهبنا، لما روى أبو داود، عن ابن عبَّاس ☻ ، عن النَّبي صلعم أنه قال: ((أي بني لا ترموا الجمرة حتَّى تطلع الشَّمس)) وأمَّا آخره: قال غروب الشَّمس.
          وقال الشَّافعي: يجوز الرَّمي بعد النِّصف الأخير من الليل، وفي «شرح الترمذي» للشَّيخ زين الدِّين، وأمَّا آخر وقت رمي جمرة العقبة فاختلف فيه كلام الرَّافعي فجزم في «شرح الصَّغير» أنَّه يمتدُّ إلى الزَّوال، قال: والمذكور في «النهاية» جزماً امتداده إلى الغروب.
          وحكى وجهين في امتداده إلى الفجر أصحُّهما أنَّه لا يمتدُّ، وكذا صحَّحه النَّووي في «الروضة».
          وفي «التوضيح»: رمي جمرة العقبة من أسباب التَّحلل عندنا، وليس بركنٍ خلافاً لعبد الملك المالكي حيث قال: من خرجت عنه أيَّام منى ولم يرم جمرة العقبة بطل حجُّه، فإن ذَكَرَ بعد غروب شمس يوم النَّحر فعليه دمٌ، وإن تذكَّر بعدُ فعليه بدنة.
          وقال ابنُ وهب: لا شيء عليه ما دامت أيَّام منى، وفي «المحيط»: أوقات رمي جمرة العقبة ثلاثةٌ: مسنون: بعد طلوع الشَّمس، ومباح: ما بعد زوالها إلى غروبها، ومكروه: وهو الرَّمي بالليل، ولو لم يرم حتَّى دخل الليل فعليه أن يرميها في الليل ولا شيء عليه، وعن أبي يوسف وهو قول الثَّوري: لا يرمي في الليل وعليه دمٌ، ولو لم يرمِ في يوم النَّحر حتَّى أصبح من الغد رماها وعليه دمٌ عند أبي حنيفة خلافاً لهما.
          الحكم الثَّاني: هو أنَّ الرَّمي في أيَّام التَّشريق محلُّه بعد زوال الشَّمس وهو كذلك، وقد اتَّفق عليه الأئمَّة، وخالف أبو حنيفة ☼ في اليوم الثَّالث منها فقال: يجوز الرَّمي فيه قبل الزَّوال استحساناً، وقال: إن رمى في اليوم الأوَّل أو الثَّاني قبل الزَّوال / أعاد، وفي الثَّالث يجزئه.
          وقال عطاء وطاوس: يجزئه في الثَّلاث قبل الزوال، واتَّفق مالك وأبو حنيفة والثَّوري والشَّافعي وأبو ثور أنَّه إذا مضت أيَّام التَّشريق وغابت الشَّمس من آخرها فقد فات الرَّمي ويُجْبر ذلك بالدَّم.