نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت}

          ░123▒ (باب {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ}) أي: واذكر زمان جعلنا وعيَّنا له ({مَكَانَ الْبَيْتِ}) مباءة ومرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة، يقال: تبوَّأ الرَّجل منزلاً اتَّخذه وبوأه غيره منزلاً أعطاه، وأصله باء إذا رجع، وذكر مكان البيت دون البيت؛ لأنَّ البيت ما كان حينئذٍ، وقيل: اللام زائدة ومكان ظرف؛ أي وإذا نزلناه فيه كقوله تعالى: {بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [يونس:93]، وقوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:121].
          قيل: رفع البيت إلى السَّماء أو انطمس أيَّام الطُّوفان، وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله مكانه بريح أرسلها (1) فكنست ما حوله فبناه على بنائه القديم.
          ({أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً}) أن مفسِّرة لبوَّأنا من حيث إنَّه تضمَّن معنى تعبَّدنا (2) ؛ لأنَّ التبوئة من أجل العبادة، أو مصدريَّة موصولة بالنَّهي؛ أي: فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي. وقرئ في الشواذ: (▬يشرك↨) بالياء. /
          ({وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}) من الشِّرك والأوثان والأقذار أن تطرح حوله ({لِلطَّائِفِينَ}) حوله ({وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]) أي: لمن يطوف به ويصلِّي فيه، ولعلَّه عبَّر عن الصَّلاة بأركانها للدلالة على أنَّ كل واحد منها مستقل باقتضائه ذلك كيف وقد اجتمعت.
          قال القسطلاني أخذاً من «عمدة القاري» للعيني: ولم تُذْكر الواو بين الرُّكع والسُّجود، وذُكِرَتْ بين القائمين والرُّكع؛ لكمال الاتِّصال بين الرُّكوع والسُّجود، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر في الصَّلاة فرضاً أو نفلاً، وينفكُّ القيام من الرُّكوع، فلا يكون بينهما كمال الاتِّصال، إذ المراد بالقائمين: المعتكفون بمشاهدة الكعبة، وبالركع السُّجود: المصلُّون.
          ({وَأَذِّنْ}) أي: ناد عطف على قوله: {وَطَهِّرْ}، وقرأ ابن محيصن: (▬وآذن↨) بالمد ({فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}) أي: بدعوة الحجِّ والأمر به، وروي: أنَّ إبراهيم ◙ أُمِرَ أن يُؤَذِّن في النَّاس بالحج فقال ◙: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن، عليَّ البلاغ، فقام على مقامه أو على الحجر أو على الصَّفا أو على أبي قُبَيس فقال: أيُّها النَّاس! إنَّ ربَّكم اتَّخذ بيتاً فحُجُّوا بيت ربكم، فأسمعه الله تعالى من في أصلاب الرِّجال، وأرحام النِّساء فيما بين المشرق والمغرب ممَّن سبق في علمه أن يحج إلى يوم القيامة، فأجابوه: لبيك اللَّهم لبيك قيل: ومن تكرَّر منه الإجابة يتكرَّر منه الحج بقدر تكرر الإجابة.
          وقيل: الخطاب لرسول الله صلعم ؛ أمره بذلك في حجَّة الوداع، فيكون قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} كلاماً مستأنفاً، وهذا مرويٌّ عن الحسن.
          ({يَأْتُوكَ رِجَالاً}) مشاة، جمع: راجل، كقائم وقيام. وقرئ في الشَّواذ: بضم الراء مخفف الجيم ومثقَّلها، و▬رُجَّالَى↨ كعُجالَى ({وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}) أي: وركباناً على كل بعير مهزول أتعبه بُعد السَّفر فهزله ({يَأْتِينَ}) صفة لضامر، وجمعه باعتبار معناه؛ أي: النُّوق، وقرئ: (▬يأتون↨) صفة للرِّجال والركبان، أو استئناف فيكون الضَّمير للنَّاس ({مِنْ كُلِّ فَجٍّ}) أي: طريق ({عَمِيقٍ} [الحج:27]) أي: بعيد، وقرئ: ((معيق))، يقال: بئر بعيدة العمق والمعق بمعنى ({لِيَشْهَدُوا}) أي: ليحضروا ({مَنَافِعَ لَهُمْ}) دينية ودنيوية وتنكيرها؛ لأنَّ المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبارة لا توجد في غيرها من العبادات.
          وعن أبي حنيفة ☼ : أنَّه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحجَّ، فلمَّا حجَّ فضل الحج على العبادات كلِّها لما شاهد من تلك الخصائص.
          ({وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ}) عند إعداد الهدايا والضَّحايا وذبحها. وقيل: كنَّى بالذِّكر عن النَّحر؛ لأنَّ ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيهاً على أنَّه المقصود ممَّا يتقرَّب به إلى الله تعالى ({فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}) عشر ذي الحجَّة عند أبي حنيفة وهو قول الحسن وقتادة، أو أيَّام النَّحر عند صاحبيه، وقيل: تسعة أيَّام من العشر، وقيل: يوم الأضحى وثلاثة أيَّام بعده، وقيل: أيَّام التَّشريق، وقيل: إنَّها خمسة أيَّام أوَّلها يوم التَّروية، وقيل: ثلاثة أيَّام أولها يوم عرفة.
          ويعضد كون المراد أيَّام النَّحر قوله تعالى: ({عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}) فإنَّ المراد التَّسمية عند ذبح الهدايا والضَّحايا، وعلق الفعل / بالمرزوق، وبيَّنه بالبهيمة تحريضاً على التقرُّب، وتنبيهاً على مقتضى الذِّكر، والبهيمة مبهمة بُيِّنَتْ هنا بالأنعام وهي الإبل والبقر والضَّأن والمعز ({فَكُلُوا مِنْهَا}) أي: من لحومها، أمر بذلك إباحة، وإزالة لما عليه أهل الجاهليَّة من التحرُّج فيه، فإنَّهم كانوا يحرمون أكلها ولا يأكلون من نسائكهم، أو ندباً إلى مواساة الفقراء ومساواتهم. ومن ثمَّة استحبَّ الفقهاء أن يأكل الموسِع من أضحيته مقدار الثُّلث لما فيه من استعمال التَّواضع.
          وعن ابن مسعود ☺: أنَّه بعث بهدي وقال فيه: إذا نحرته فكل وتصدَّق وابعث منه إلى عتبة يعني: ابنه. وفي الحديث: ((كلوا وادَّخروا وائتجروا)). ويروى: ((واتَّجروا)) أي: تصدَّقوا طالبين الأجر. وعند بعضهم: لا يجوز الأكل من الدَّم الواجب، وإنَّما يجوز من المتطوَّع به.
          ({وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} (3)) الذي أصابه بؤس؛ أي: شدَّة ({الْفَقِيرَ} [الحج:28]) المحتاج ({ثُمَّ لْيَقْضُوا}) أي: ثمَّ ليزيلوا ({تَفَثَهُمْ}) وسخهم بقصِّ الشَّارب والأظفار، ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال.
          وقال عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ : التفث: حلق الرَّأس، وأخذ الشَّارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، أو التفث: المناسك.
          والتَّفث في الأصل: الوسخ والقذارة من طول الشَّعر والأظفار والشَّعث وقضاؤه نقضه وإذهابه.
          وقال الزَّجاج: أهل اللَّغة لا يعرفون التَّفث إلا من التَّفسير، وكأنَّه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
          ({وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}) ما ينذرون من البرِّ في حجِّهم، وقيل: مواجب الحج ({وَلْيَطَّوَّفُوا}) طواف الرُّكن الذي به تمام (4) التَّحليل، فإنَّه قرينة قضاء التفث، وقيل: طواف الوداع ({بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]) أي: القديم لأنَّه أوَّل بيت وضع للنَّاس، فسَّره بذلك الحسن، أو المعتق من تسلُّط الجبابرة، فكم من جبارٍ سار إليه ليهدمه فمنعه الله كأبرهة فعل به ما فعل، وأمَّا الحجَّاج فإنَّما قصد إخراج ابن الزُّبير عنه دون التسلُّط عليه، وقيل: لأنَّه يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. لكن قال ابن عطيَّة: وهذا يَردُّه التَّصريف. انتهى.
          وتعقَّبه أبو حيَّان فقال: لا يردُّه؛ لأنَّه فسَّره تفسير معنى، وأمَّا من حيث الإعراب فلأن العتيق فعيل بمعنى مُفْعِل؛ أي: مُعْتِقُ رقاب المذنبين، ونسب الإعتاق إليه مجازاً إذ بزيارته والطَّواف به يحصل الإعتاق وينشأ عن كَوْنه مُعْتِقاً أن يقال فيه: تُعْتَق فيه رقابُ المذنبين.
          ({ذَلِكَ}) خبر مبتدأ محذوف؛ أي الأمر والشَّأن ذلك. وذلك كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني، ثمَّ إذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا.
          ({وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ}) الحرمة ما لا يحل هتكه، وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصِّفة من مناسك الحجِّ وغيرها، فيحتمل أن يكون عامًّا في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصًّا فيما يتعلَّق بالحجِّ.
          وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشَّهر الحرام والمحرم (5) حتَّى يحل. ومعنى التَّعظيم العلم بأنَّها واجبة المراعاة والحفظ، والقيام بمراعاتها، وقيل: معنى تعظيم حرمات الله ترك ما نهى الله.
          ({فَهُوَ}) أي: التَّعظيم ({خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]) ثواباً، وفي رواية / أبي ذرٍّ وأبي الوقت: <{يَأْتُوكَ رِجَالاً} إلى قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:27-30]> فَحَذَفَا ثبت عند غيرهما ممَّا ذكر من الآيات.
          وعزا الحافظ العسقلاني سياق الآيات كلِّها إلى رواية كريمة، قال: والمراد منها هنا قوله تعالى: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] ولذلك عطف عليها في التَّرجمة: وما يأكل من البُدْن، وما يتصدَّق؛ أي بيان المراد من الآية. انتهى.
          وقال العيني: الذي قاله إنَّما يتمشَّى أنْ (6) لو لم يكن بين هذه الآيات، وبين قوله: ((ما يأكل من البدن وما يتصدَّق)) بابٌ. وفي معظم النُّسخ بعد قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}: <باب ما يؤكل من البدن وما يتصدق> فأين العطف؛ إذ كل واحد من البابين ترجمة مستقلَّة.
          والظَّاهر: أنَّه ذكر هذه الآيات ترجمة، ولم يذكر فيها حديثاً يطابقها إما لأنَّه لم يجد على شرطه، أو أدركه الموت قبل أن يضعه.
          ووجه آخر وهو أقرب: أنَّ هذه الآيات مشتملة على أحكام الحجِّ، فذكر هذه الآيات تنبيهاً على تلك الأحكام، وهي تطهير البيت للطَّائفين والمصلِّين من الأصنام والأوثان والأقذار، وأمر الله تعالى لرسوله أن يؤذِّن للنَّاس بالحجِّ، وذلك في حجَّة الوداع، على بعض التَّفاسير. وشهود المنافع الدِّينية والدُّنيوية المختصَّة بهذه العبادة. وذكر اسم الله تعالى في أيَّام معلومات وهي عشر ذي الحجَّة على قول. وشكرهم له على ما رزقهم من الأنعام يذبحون وينحرون، والأمر بالأكل منها وإطعام الفقير. وقضاء التفث مثل حلق الرَّأس ونحوه، والوفاء بالنَّذر، والطَّواف بالبيت العتيق، وتعظيم حرمات الله تعالى.
          هذا، وقال القسطلاني: وهذا عجيب منه، فإنَّ قوله: في معظم النُّسخ، فيه إشعار بحذف الباب في بعض النُّسخ ممَّا وقف هو عليه، ولا مانع أن يعتمده شيخ الصَّنعة الحافظ ابن حجر لما ترجَّح عنده، بل صرَّح بأنَّه الصَّواب، وهو رواية الحافظ أبي ذرٍّ مع ثبوت واو العطف قبل قوله: ما يأكل من البدن. نعم في رواية غير أبي ذرٍّ كما في الفرع وغيره هكذا.


[1] في هامش الأصل: يقال لها: الخجوج وهي ريح تلتوي في هبوبها، وقال الأصمعي: هي من الرياح الشديدة المَرِّ. منه.
[2] في هامش الأصل: قوله: تعبَّدنا من التعبُّد بمعنى الاستعباد، وهو أن يتخذه عبداً. منه.
[3] في هامش الأصل: وقيل: البائس: الضرير الزمن، والفقير الذي أضعفه الإعسار. منه.
[4] في هامش الأصل: فإن أصل التحليل يقع بالحلق، وتمامه بالطواف حيث يحل له النساء أيضاً. منه.
[5] في هامش الأصل: الظاهر والإحرام. منه.
[6] كذا في العمدة والمؤلف ينقل منه هنا.