نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}

          ░37▒ (باب) تفسير (قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [البقرة:196]) وقوله ذلك إشارةٌ إلى التَّمتع؛ لأنَّه سبق فيما قبل: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي: إذا تمكَّنتم من أداء المناسك بعدما أحصرتم، أو إذا كنتُم في حال أمن وسعة مطلقاً {فَمَنْ تَمَتَّعَ} أي: استمتعَ وانتفع بالتَّقرب إلى الله {بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أي: إلى وقت الحجِّ.
          وقيل: الانتفاع بالتَّقرب بالحجِّ في أشهره، وقيل: فمن استمتع بعد التَّحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحجِّ، والمعنى الأوَّل يشمل التَّمتُّع الخاصُّ وهو أن يحرم بالعمرة أولاً ثمَّ بالحجِّ ثانياً بعد ما تحلَّل منها، والقران وهو أن يحرم بهما معاً، والمعنى الثَّاني يخصُّ الأوَّل {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] أي: فعليه ما قدر عليه من الهدي يذبحه وأقلُّه شاةً.
          وهو دم شكرٍ عند أبي حنيفة لنعمة أداء العبادتين في سفرٍ واحدٍ فيأكل منه كالأضحية، ودم جبر عند الشَّافعي يجبر به النُّقصان اللازم من التَّمتُّع الذي هو التَّلذذ فإنَّ مبنى العبادة على المشقَّة، وكلَّما قلَّت المشقَّة انتقص بحسبها ثواب العبادة.
          وأيضاً ففي التَّمتُّع صار السَّفر للعمرة وكان من حقِّه أن يكون للحجِّ؛ لأنَّه أشرف النُّسكين، وكذا حقُّ الميقات أن يكون للحجِّ وقد جُعِلَ للعمرة، وكلُّ واحدٍ من هذه الأمور يوجب نوع خللٍ في العبادة فيكون الدَّمُ دَمَ جَبْر لا دم شكرٍ فلا يأكل منه.
          {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي: هدياً {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أي: في أيَّام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التَّحلل والأحبُّ أن يصوم سابع ذي الحجَّة وثامنه وتاسعه، ولا يجوز صوم النَّحر وأيَّام التَّشريق {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي: فرغتم من أعمال الحجِّ، أو إذا رجعتُم إلى أهليكم وأوطانكم، والأوَّل مذهب أبي حنيفة، والثَّاني مذهب الشَّافعي، وسيجيءُ تفصيل المذاهب في ذلك إن شاء الله تعالى.
          {تِلْكَ عَشَرَةٌ} فذلك الحساب وفائدتها: أن لا يتوهَّم أنَّ الواو بمعنى أو، كما في قولك جالِس الحسنَ وابن سيرين، وأن يُعْلَم العددُ جملةً كما عُلِمَ تفصيلاً، / فإنَّ أكثر العرب لم يحسنوا الحساب وأنَّ المراد بالسَّبعة العدد دون الكثرة فإنَّه يطلق لهما.
          {كَامِلَةٌ} صفة مؤكِّدة مفيدة لمعنى المبالغة في محافظة العدد، أو مبيِّنة لكمال العشرة فإنَّه أوَّل عددٍ كاملٍ إذ به تنتهي الآحاد وتتمُّ مراتبها، أو مقيِّدة تفيد كمال بدليتها عن الهدي {ذَلِكَ}: أي التَّمتع كما سبق، وهو المذهب عند الحنفيَّة إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، فمن فعل ذلك منهم فعليه دمَّ جناية لا يأكل منه عند الحنفيَّة.
          وأمَّا عند الشَّافعية: فذلك إشارةٌ إلى وجوب الهدي أو الصِّيام فلا يجب على حاضريه شيء عندهم {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي} أصله حاضرين سقطت النون للإضافة إلى { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
          واختلف العلماء في المراد منهم فذهب طاوس ومجاهد إلى أنَّهم أهل الحرم وبه قال داود، وقالت طائفةٌ: هم أهل مكَّة بعينها روي هذا عن نافعٍ وعبد الرَّحمن بن هرمز الأعرج، وهو قول مالكٍ قال: هم أهل مكَّة ذي طوى وشبهه، وأمَّا أهل منى وعرفة والمناهل مثل قديد ومر الظَّهران وعسفان فعليهم الدَّم، واختاره الطَّحاوي ورجَّحه.
          وذهب أبو حنيفة إلى أنَّهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكَّة وهو قول عطاء ومكحول، وهو قول الشَّافعي بالعراق، وقال أيضاً وأحمد: من كان من الحرم على مسافةٍ لا تقصر في مثلها الصَّلاة فهو من حاضري المسجد الحرام.
          ثمَّ إنَّ عند الشَّافعي وأحمد ومالك وداود: أنَّ المكيَّ لا يكره له التَّمتع، والإفراد أحب وإن تمتَّع لم يلزمه دمٌ، وقال أبو حنيفة: يُكره له التَّمتُّع والقِران، فإن تمتَّع أو قرن فعليه دم جبر، إذ هما في حقِّ الآفاقي مستحبَّان ويلزم الدَّم شكراً كما تقدَّم.
          {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصاً في الحجِّ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] لمن لم يتَّقه كي يصدَّكم العلم به عن العصيان.