نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج}

          ░33▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}) قد تقدَّم أنَّ الحجَّ في اللغة القصد، وفي الشَّرع: قصد البيت الحرام على وجه التَّعظيم بأفعالٍ مخصوصةٍ، والأشهر: جمع شهر، جمع قلَّة، والشَّهر عبارةٌ عن الزَّمان الذي بين الهلالين واشتقاقه من الشُّهرة، والهلال: أوَّل ليلةٍ من الشَّهر والثَّانية والثَّالثة، سمِّي به؛ لأنَّ النَّاس يرفعون أصواتهم عند رؤيته، ثمَّ هو قمر بعد ذلك إلى آخر الشَّهر، وفي الليلة الرَّابعة عشر يقال له: بدرٌ لتمامه.
          وقال الجوهريُّ: / إنَّما سمِّي بدراً لمبادرته الشَّمس بالطُّلوع، وقال الفرَّاء: هو في أوَّل ليلة هلالٍ ثمَّ قُمَير ثمَّ قمر ثمَّ بدر، وقوله: {الْحَجُّ} مبتدأ وقوله: {أَشْهُرٌ} خبره، وقوله: {مَعْلُومَاتٌ} صفته؛ أي: معروفات عند النَّاس لا تُشْكِلُ عليهم.
          وقال الزَّمخشري: وفيه أنَّ الشَّرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنَّما جاء مقرراً له. هذا، ولمَّا لم يصح أن يخبر بالأشهر عن الحجِّ قالوا فيه تقديره؛ أي: وقت الحجِّ أشهرٌ معلوماتٌ، أو تقديره: الحجُّ حجٌّ أشهرٌ معلومات، ومن ذلك قولهم: البرد شهران.
          وقال الواحديُّ: يمكن حمله على غير إضمارٍ، وهو أنَّ الأشهر جعلت نفس الحجِّ اتِّساعاً؛ لكون الحجِّ يقع فيها، كقولهم ليله نائم، ثمَّ المراد: وقت إحرامه لا وقت نفس الحجِّ، فإنَّ وقت نفس الحجِّ ليس أشهراً بل أيَّاماً.
          وليس المراد من الأشهر ثلاثة أشهرٍ كوامل كما هو مذهب مالكٍ والشَّافعي في القديم، وهو رواية عن ابن عمر ☻ أيضاً.
          قال ابن جرير: حدَّثنا أحمد بن إسحاق قال: حدَّثنا أبو أحمد: حدَّثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر، عن ابن عمر ☻ قال: «أشهر الحجِّ: شوال وذو القعدة وذو الحجَّة».
          وقال ابن أبي حاتم في «تفسيره»: حدَّثنا يونس بن عبد الأعلى: حدَّثنا ابن وهبٍ: أخبرني ابن جريج قال: قلت لنافع: أسمعتَ عبد الله بن عمر ☻ يسمِّي شهور الحجِّ قال: نعم، كان عبد الله يسمِّي شوالاً وذا القعدة وذا الحجَّة.
          قال ابن جريج: وقال ذلك ابنُ شهاب وعطاء وجابر بن عبد الله صاحبُ النَّبي صلعم ، وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى ابن جريج، وحكى هذا أيضاً عن مجاهدٍ وطاوس وعروة بن الزُّبير والربيع بن أنسٍ وقتادة.
          وقال ابن كثير في «تفسيره»: وجاء فيه حديثٌ مرفوعٌ لكنَّه موضوعٌ، رواه الحافظ ابن مردويه من طريق حصين بن مخارق، وهو متَّهم بالوضع، عن يونس بن عبيد، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلعم : ((أشهرٌ معلوماتٌ: شوال وذو القعدة وذو الحجة)) وهذا كما رأيت لا يصحُّ رفعه.
          وممَّا احتجَّ به مالك ما رواه الدَّارقطني في «سننه» عن شريك، عن أبي إسحاق، عن الضَّحاك، عن ابن عبَّاس ☻ قال: «أشهر الحجِّ شوال وذو القعدة وذو الحجة».
          وروي أيضاً عن ابن مسعودٍ نحوه وكذا عن عبد الله بن الزُّبير، وإنَّما المراد من الأشهر: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وهو قول أكثر العلماء وهو منقولٌ عن عطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم النَّخعي والشَّعبي / والحسن وابن سيرين ومكحول وقتادة والضَّحاك والربيع بن يونس ومقاتل بن حيان، وهو مذهب أبي حنيفة والشَّافعي وأحمد وأبي يوسف وأبي ثور. واختاره ابن جرير ويحكى عن عمر وعلي وابن مسعود وعبد الله بن الزُّبير وابن عبَّاس ♥ ، وسيجيء عن ابن عمر ☻ ما يروى عنه في ذلك، وكذا يجيء ما يروى عن ابن عبَّاس ☻ .
          ولعلَّ مراد من قال: أنَّ أشهر الحجِّ: شوال وذو القعدة وذو الحجة، التَّجوز في ذكر ذي الحجَّة بكماله، وبهذا يجمع بين الرِّوايتين.
          قال الطَّبري: إنَّما أراد من قال: أشهر الحجِّ: شوال وذو القعدة وذو الحجة، أو عشرٌ من ذي الحجَّة أنَّ هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، وإنَّما هي للحجِّ وإن كان الحجُّ في أيامٍ معدودةٍ وينقضي بانقضاء أيَّام منى، وقال من قال: إنَّ أشهر الحجِّ ثلاثة أشهرٍ بكمالها أنَّ العمرة لا يستحبُّ فيها كما عند عمر وابن عمر ☻ فكأنَّها مخلصةٌ للحجِّ لا مجال فيها للعمرة، وعن عمر ☺ أنَّه كان يخفق النَّاس بالدُّرة وينهاهم عن الاعتمار فيهنَّ.
          وعن ابن عمر ☻ أنَّه قال لرجلٍ: إن أطعتني انتظرت حتَّى إذا أَهلَّ المُحَرَّم خرجتَ إلى ذات عرقٍ فأهللت منها بعمرةٍ، وقالوا: لعلَّ مذهب عروة جواز تأخير طواف الزِّيارة إلى آخر الشَّهر، هذا، والمذهب عندنا: أنَّ الإحرام بالحجِّ فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها وإن كان صحيحاً في جميع السَّنة، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وهو مذهب إبراهيم النَّخعي والثَّوري واللَّيث بن سعدٍ إلَّا أنَّه مكروهٌ عند أبي حنيفة ☼ .
          وأمَّا مذهب الشَّافعي: فهو أنَّه لا يصحُّ الإحرام بالحجِّ إلَّا في أشهر الحجِّ، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عمرةً فيه قولان عنه، والقول بأنَّه لا يصحُّ الإحرام بالحجِّ إلَّا في أشهر الحجِّ مرويٌّ عن ابن عبَّاس وجابر ♥ ، وبه يقول طاوس وعطاء ومجاهد، وهل يدخل يوم النَّحر في عشر ذي الحجَّة أو لا؟
          قال أبو حنيفة وأحمد: يدخل حتَّى لو أحرم فيه بالحجِّ للعام القابل ينعقد ويكون أحرم في أشهر الحجِّ.
          وقال الشَّافعي: لا يدخل لكن لو أحرم في ليلته ينعقد إحرامه، وقال بعض الشَّافعية: لا يدخل يومه ولا ليلته في الحجِّ فلا يصحُّ الإحرام في يوم النَّحر ولا في ليلته، وهو شاذٌّ.
          ثمَّ إنَّ وجه كون المراد بالأشهر شهرين وبعض الثَّالث أنَّ اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} الآية [التحريم:4]، ولو قال: الحجُّ ثلاثة أشهرٍ، لأشكل الأمر.
          وقيل: نزَّل بعض الشَّهر منزلة كلِّه كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان، ولعلَّ العهد عشرون سنة أو أكثر، وإنَّما رآه / في ساعةٍ منها.
          ({فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197]) أي: فمن ألزم نفسه الحجَّ بالتَّلبية أو بتقليد الهدي وسوقه عند أبي حنيفة ☼ ، وبالنِّية عند الشَّافعي قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} الآية [البقرة:237] ؛ أي ألزمتم أنفسكم.
          وقال ابن عبَّاس ☻ : الفرض التَّلبية، وقال الضَّحاك: هو: الإحرام، وقال عطاء: فمن فرض فيهنَّ الحجَّ: من أهلَّ فيهنَّ بالحجِّ.
          ({فَلاَ رَفَثَ} [البقرة:197]) هو: الجماع كما في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية [البقرة:187]، وهو حرامٌ على المحرم، وكذا دواعيه من المباشرة والتَّقبيل ونحو ذلك، وكذا التَّكلم به بحضرة النِّساء.
          قال ابن جرير: حدَّثني يونس: أخبرنا ابن وهب: أخبرني يونس: أنَّ نافعاً أخبره أنَّ عبد الله بن عمر ☻ كان يقول: الرَّفث: إتيان النِّساء والتَّكلم بذلك.
          وقال عبد الله بن طاوس، عن أبيه: سألت ابن عبَّاس ☻ عن قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} الآية [البقرة:197] قال: الرَّفث: التَّعرض بذكر الجماع.
          وقال عطاء بن أبي رباح: الرَّفث: الجماع وما دونه من قول الفحش، وكذا قال عمرو بن دينار، وقال: وكانوا يكرهون العِرَابة وهو التَّعريض بذكر الجماع وهو محرمٌ، وقال طاوس هو أن يقول المحرم للمرأة: إذا أحللت أصبتك، وكذا قال أبو العالية.
          وقال ابن عبَّاس وابن عمر ♥ : الرَّفث: غشيان النِّساء، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم وأبو العالية ومكحول وعطاء الخراساني وعطاء بن يسار وعطيَّة والربيع والزُّهري والسدِّي ومالك بن أنسٍ ومقاتل بن حيَّان وعبد الكريم بن مالك والحسن وقتادة والضَّحاك وآخرون.
          ({وَلاَ فُسُوقَ}) قال مقسم وغير واحدٍ: عن ابن عبَّاس ☻ هي المعاصي، وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير والحسن والنَّخعي وقتادة والزُّهري ومكحول وعطاء الخراسانيُّ وعطاء بن يسار ومقاتل بن حيان.
          وقال محمَّد بن إسحاق: عن نافع، عن ابن عمر ☻ قال: الفسوقُ: ما أصيب من معاصي الله تعالى صيداً أو غيره، ورَوَى ابن وهبٍ، عن يونس، عن نافعٍ: أنَّ عبد الله بن عمر ☻ كان يقول: الفسوق: إتيان معاصي الله في الحرم.
          وقال آخرون: / الفسوق هاهنا: السِّباب، قاله ابن عبَّاس في رواية عنه وابن عمر والزُّبير ♥ ، وكذا قال مجاهدٌ والسدي وإبراهيم والحسن.
          وقد تمسَّك هؤلاء بما في «الصحيحين»: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق هاهنا الذَّبح للأصنام، وقال الضَّحاك: الفسوق: التَّنابز بالألقاب.
          ({وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]) أي: لا مجادلة في وقت الحجِّ وفي مناسكه، أو المراد بالجدال المخاصمة مطلقاً.
          وعن ابن مسعودٍ ☺ في قوله: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أنَّه قال: أنَّ تُمَاري صاحَبك حتَّى تغضبه، وعن ابن عبَّاس ☻ : الجدال: المِراء والملاحاة حتَّى تغضب أخاك وصاحبك فنهى الله عن ذلك، وعن ابن عمر ☻ : الجدال: المراء والسِّباب والخصومات.
          والحاصل: أنَّ من أحرم بالحجِّ فليجتنب عن الجماع والفحش من الكلام، وعن الخروج عن حدود الشَّرع بالسِّباب وارتكاب المحظورات، وعن المِراء مع الخدم والرفقة.
          نفى الله تعالى هذه الثَّلاثة في الحجِّ، على قصد النَّهي، للمبالغة والدَّلالة على أنَّها حقيقة بأن لا تكون وما كانت مستقبحةً منها في نفسها ففي الحجِّ أَسْحجَ كلبس الحرير في الصَّلاة والتَّطريب بقراءة القرآن؛ لأنَّه خروجٌ عن مقتضى الطَّبع والعادة إلى محض العبادة.
          وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو الأوَّلين بالرَّفع على معنى: لا يكوننَّ رفثٌ ولا فسوق، والثَّالث بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحجِّ، وذلك أنَّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، فارتفع الخلاف بأن أُمِرُوا أن يقفوا أيضاً بعرفة.
          ويمكن أن يقال: إنَّه للمبالغة في النَّهي عن الجدال، كأنَّه قيل: ولا شكَّ أنَّه لا يكون فيه جدالٌ، وقرأ أبو جعفر بالرَّفع في الثَّالث أيضاً.
          وأنت خبيرٌ بأنَّ كلمة لا إذا كانت مكررة يجوز في مدخولها الوجوه إذا كانت قاعدة النَّحو على ذِكْرٍ منك. وآخر الآية: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} حثَّ الله تعالى على الخير عقيب النَّهي عن الشَّر ليُستبدل به ويُستعمل مكانه، فإنَّ الظَّاهر أنَّ لفظ الخير في قوله: {مِنْ خَيْرٍ} يتناول كلَّ خيرٍ على سبيل البدل، ويدخل فيه دخولاً أوليًّا أضداد ما نهوا عنه فكأنَّه قيل: استعملوا مكان الرَّفث الكلام الحسن، ومكان الفسوق التَّقوى، ومكان الجدال الوفاق.
          {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وتزوَّدوا لمعادكم التَّقوى فإنَّه خيرُ زادٍ، وقيل: نزلت في أهل اليمن كانوا يحجُّون ولا يتزوَّدون ويقولون: نحن متوكِّلون فيكونون كلًّا على النَّاس / فأُمروا أن يتزوَّدوا ويتَّقوا الإبرام في السُّؤال والتَّثقيل على النَّاس {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} الآية [البقرة:197]، فإنَّ قضيَّة اللب خشية الله وتقواه، حثَّهم الله تعالى على التَّقوى، ثمَّ أمرهم بأن يكون المقصود منها هو الله تعالى فيتبرَّؤا عن كلِّ شيءٍ سواه، وهو مقتضى العقل المُعَرَّى عن شوائب الهوى، فلذلك خصَّ أُولي الألباب بذلك الخطاب.
          وتحقيق الكلام: أنَّ الإنسان له سَفَران: سفرٌ في الدُّنيا وسفرٌ من الدُّنيا، فالسَّفر في الدُّنيا لا بدَّ له من زادٍ وهو الطَّعام والشَّراب والمركب والمال، والسَّفر من الدُّنيا لا بدَّ له أيضاً من زادٍ وهو معرفة الله تعالى ومحبَّته والإعراض عمَّا سواه والاشتغال بطاعته والاجتناب عن مخالفته ومناهيه، وهذا الزَّاد خيرٌ من زاد المسافرة في الدُّنيا لوجوه.
          منها: أنَّ زاد الدُّنيا يخلِّصك من عذاب منقطعٍ وزاد الآخرة يخلِّصك من عذابٍ دائمٍ، وزاد الدُّنيا يوصلك إلى لذَّةٍ ممزوجةٍ بآلامٍ وبلايا، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذَّاتٍ باقيةٍ خالصةٍ عن شوائب المضرَّة، وغير ذلك ممَّا لا يخفى على من يتأمَّل في أحوال الدُّنيا والآخرة.
          ولذلك قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} الآية [البقرة:197] فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب؛ يعني: إن كنتم من أولي الألباب (1) الذين يعلمون حقائق الأمور، فاختاروا ما هو خيرٌ وأبقى، قال الأعشى:
إِذَا أَنتَ لمْ تَرْحلَ بزَادٍ مِنَ التُّقَى                     ولَاقَيْتَ بعْدَ الموْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدا
نَدِمتَ علَى أنْ لَا تكُونَ كَمِثلِهِ                     وأَنَّك لمْ تَرْصُد كَمَا كَانَ أَرْصَدا
          (وَقَوْلِهِ) عطفٌ على: قول الله تعالى ({يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ}) قال العَوفيُّ: عن ابن عبَّاس ☻ : «سأل النَّاس رسول الله صلعم عن الأهلَّة فنزلت هذه الآية يعلمون بها حلَّ دَينهم، وعدَّةَ نسائهم، ووَقْت حجِّهم».
          وقال أبو جعفرٍ: عن الربيع، عن أبي العالية بلغنا أنَّهم قالوا: يا رسول الله، لم خُلِقَتْ الأهلَّة؟ فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ}.
          وقال الواحديُّ: عن معاذ: يا رسول الله، إنَّ اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا، فأنزل الله هذه الآية.
          وقال النَّسفي في «تفسيره»: نزلت الآية في عديِّ بن حاتمٍ ومعاذ بن جبل ☻ / سألا رسول الله صلعم عن الهلال فنزلت؛ أي: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} ما لها تبدو صغيرةً ثمَّ تصير بدوراً، ثمَّ تعود كالعرجون وما معنى تغير أحوالها.
          وقال الكلبيُّ: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط، ثمَّ يزيد حتَّى يستوي، ثمَّ لا يزال ينقص حتَّى يعود كما بدا.
          ({قُلْ}) يا محمَّد ({هِيَ}) أي: الأهلَّة ({مَوَاقِيتُ}) جمع ميقات من الوقت، والفرق بينه وبين المدَّة والزَّمان أنَّ المدَّة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدأها إلى منتهاها، والزَّمان: مدَّة مقسومةٌ، والوقت الزَّمان المفروض لأمرٍ؛ أي: معالم.
          ({لِلنَّاسِ}) يؤقتون بها أمورهم الدُّنيوية من الدُّيون والأجارات ونحو ذلك من المعاملات ومعالم للعبادات المؤقتة يُعْرَفُ بها أوقاتها عموماً.
          ({وَالْحَجِّ} [البقرة:189]) أي: والحج خصوصاً فإنَّ الوقت مراعى فيه أداء وقضاء، وهو أهمُّ وأشقُّ من بين سائر العبادات، ولذا خصَّ بالذِّكر، سألوه عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدُّل أمره، فأمر الله تعالى أن يُجيب بأنَّ الحكمة الظَّاهرة في ذلك أن تكون معالم للنَّاس والحجِّ، وأمَّا الحكمة الباطنة فلا يليق أن يُسأل عنها لما في السُّؤال من الاتِّهام بمقارنة الشكِّ؛ فإنَّ جميع أفعال الله تعالى ذات حكمةٍ وصوابٍ من غير اختلاج شبهةٍ ولا اعتراض شكٍّ في ذلك حتَّى لا يُسأل عمَّا يفعل.
          وتمام الآية {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة:189] كان ناسٌ من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحدٌ منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من بابٍ، فإن كان من أهل المدر نَقَب نقباً في ظهر بيته، منه يدخل ويخرج، أو يتَّخذ سلماً يصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، ويعدُّون ذلك برًّا، فقيل لهم: ليس البر بتحرجكم من دخول الباب {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} بر {مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189] المحارم والشَّهوات.
          ووجه اتِّصاله بما قبله: أنَّهم لمَّا سألوا عن الأهلَّة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها كأنَّه قيل لهم معلومٌ أنَّ كلَّ ما يفعله الله تعالى ╡ لا يكون إلَّا حكمةً بالغةً ومصلحةً لعباده فدعوا السُّؤال عنه، وانظروا في خصلةٍ تفعلونها أنتم ممَّا ليس من البرِّ في شيءٍ وأنتم تحسبونها برًّا، ويجوز أن يجري ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنَّها مواقيت للحجِّ؛ / لأنَّه كان من أفعالهم في الحجِّ.
          ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم، وأنَّ مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من وراء ظهره.
          والمعنى: وليس البرَّ أن تعكسوا في مسائلكم ولكن البرَّ بر من اتَّقى ذلك ولم يجسر على مثله، أو أنَّهم لمَّا سألوا عمَّا لا يعنيهم ولا يتعلَّق بعلم النُّبوة وتركوا السُّؤال عمَّا يعنيهم ويختصُّ بعلم النُّبوة عقب بذكره جواب ما سألوا تنبيهاً على أنَّ اللائق بهم أن يسألوا مثال ذلك ويهتمُّوا بالعلم بها.
          {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}: أي ادخلوها محرمين ومحلِّين منها إذ ليس في العدول برٌّ، أو باشروا الأمور من وجوهها {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في تغيير أحكامه، أو الاعتراض على أفعاله {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189] لكي تظفروا بالهدي والبرِّ.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ (أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ) بكسر القاف وفتحها (وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ) بكسر الحاء وفتحها أيضاً، وهذا التَّعليق وصله ابن جرير قال: حدَّثني أحمد بن حازم بن أبي عَرزة: حدَّثنا أبو نعيم: حدَّثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عمر ☻ : «أشهر الحجِّ معلوماتٌ قال: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة». وإسناده صحيحٌ. ورواه الحاكم أيضاً في «مستدركه» عن الأصمِّ، عن الحسن بن عليِّ بن عفَّان، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر ☻ فذكره وقال: على شرط الشَّيخين.
          وعن الحاكم: رواه البيهقيُّ في «المعرفة» بإسناده ومتنه، ووصله الطبريُّ والدَّارقطني أيضاً من طريق ورقاء، عن عبد الله بن دينارٍ، وأمَّا ما رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عمر ☻ قال: «من اعتمر في أشهر الحجِّ شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجَّة قبل الحجِّ فقد استمتع» فلعلَّه تجوز في إطلاق ذي الحجَّة؛ جمعاً بين الرِّوايتين كما تقدَّم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لاَ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ) وهذا التَّعليق وصله ابن خزيمة والحاكم والدَّارقطني من طريق الحكم عن مِقْسم عنه قال: «لا يحرم بالحجِّ إلَّا في أشهر الحجِّ، فإنَّ من سنَّة الحجِّ أن يحرم بالحجِّ في أشهر الحجِّ». وقال الحاكم: صحيحٌ على شرطهما ولم يخرجاه، ورواه ابن جريرٍ من وجهٍ آخر / عن ابن عبَّاس ☻ قال: «لا يصلح أن يحرم أحدٌ بالحجِّ إلَّا في أشهر الحجِّ».
          وقال الكِرمانيُّ: قوله من السُّنة؛ أي: من الشَّريعة إذ هو واجبٌ ولا ينعقد الإحرام بالحجِّ إلَّا في أشهره عند الشَّافعي، وأمَّا عند غيره فلا يصحُّ شيءٌ من أفعال الحجِّ إلَّا فيها. انتهى.
          وقال العينيُّ: هذا تفسيرٌ على مساعدة ما قاله إمامه، ولكن لا يساعده اللفظ، فإنَّ قوله: من السُّنة لا يدلُّ على الوجوب قطعاً؛ إذ يحتمل أن يكون من السُّنة التي إذا فعلها كان له أجرٌ، وإذا تركها لا يفسد ما فعله من الإحرام قبل أشهر الحجِّ.
          وأيضاً قوله: وأمَّا عند غيره..إلى آخره فليس بقسيم لما قبله ممَّا قاله الشَّافعي؛ لأنَّ قسيمه أن يقال: وأمَّا عند غيره فينعقد الإحرام بالحجِّ قبل أشهر الحجِّ، وأمَّا الذي ذكره فمتَّفق عليه؛ لأنَّ أفعال الحجِّ قبل أشهر الحجِّ لا تصحُّ بلا خلافٍ.
          (وَكَرِهَ عُثْمَانُ ☺: أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ) بضم الخاء المعجمة، وهو إقليمٌ واسعٌ من الغرب، المفازة التي بينها وبين بلاد الجيل وجرجان ومن الجنوب مفازة واصلةٌ بينها وبين فارس وقومس، ومن الشَّرق نواحي سجستان وبلاد الهند، ومن الشَّمال بلاد ما وراء النَّهر وشيءٌ من تركستان، وهو يشتمل على كور كثيرةٍ كلُّ كورةٍ منها نحو إقليم.
          ولها مدنٌ كثيرةٌ: منها: بلخ في وسط خراسان، خرج منها خلقٌ من الأئمَّة والعلماء والصَّالحين لا يحصون ومنها: جرجان وطالقان وطايران وكشميهن ونسا وهراة.
          (أَوْ كِرْمَانَ) بكسر الكاف ويجوز فتحها، وفي «المشترك»: هو صقعٌ كبيرٌ بين فارس وسجستان، وحدُّها متَّصلٌ بخراسان، ومن بلادها المشهورة: زرند والسيرجان، وهي أكبر مدن كرمان.
          وهذا التَّعليق وصله ابنُ أبي شيبة في «مصنفه» عن عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن أنَّ ابن عامر أحرم من خراسان، فعاب عليه عثمان وغيره، فكرهوه.
          وروى أحمد بن سيار في «تاريخ مرو» من طريق داود بن أبي هندٍ قال: لمَّا فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلنَّ شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرماً فأحرم من نيسابور، فلمَّا قدم على عثمان ☺ لَامَه على ما صَنَع، هذا، وعبد الله بن عامر هو: ابن خال عثمان بن عفان ☺، ولد في حياة رسول الله صلعم وتفلَ في فيه رسول الله صلعم ، واستنابه عثمان ☺ على البصرة / بعد أبي موسى الأشعريِّ ☺، وولَّاه بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص وعُمْره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ففتح خراسان كلَّها وأطراف فارس وكرمان وسجستان، وقُتِلَ كسرى في أيامه وهو يزدجرد، مات سنة ثمانية وخمسين من الهجرة.
          ثمَّ إنَّ وجه الكراهة: أنَّ الإحرام من خراسان ونحوه موجبٌ للحرج والتَّضرر ولا حرج في الدِّين ولا ضرر في الإسلام، وهذا على سبيل التَّمثيل لا أنَّه مخصوصٌ بهاتين المملكتين إذ حكم سائر البلاد البعيدة من مكَّة كالصِّين والهند كذلك، ويحتمل أن تُعَلَّل الكراهةُ بأنَّ الإحرام منهما لا يقع غالباً إلَّا قبل أشهر الحجِّ وهو مكروهٌ إمَّا تحريماً وإمَّا تنزيهاً.
          هذا مع أنَّه يحتمل أن تكون الكراهة من جهة الميقات المكانيِّ؛ إذ الأفضل أن لا يحرم من دويرة أهله عند كثيرٍ من العلماء؛ اقتداء برسول الله صلعم ، لكنَّه غير مناسبٍ للتَّرجمة، والله أعلم.


[1] قوله: ((يعني إن كنت من أولي الألباب)): ليس في (خ).