نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الخطبة أيام منى

          ░132▒ (بابُ) مشروعيَّة (الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى) الأربعة يوم النَّحر والأيَّام الثَّلاثة بعده، قال ابن المنيِّر في «الحاشية»: أراد البخاري بهذا الرَّدَّ على من زَعَمَ أنَّ يوم النَّحر لا خطبة فيه للحاجِّ، وأنَّ المذكور في هذا الحديث من قبيل الوصايا العامَّة لا على أنَّه من شعار الحجِّ، فأراد البخاري أن يبين أنَّ الرَّاوي قد سماها خطبة كما سمَّى التي وقعت في عرفات خطبة، وقد اتَّفقوا على مشروعيَّة الخطبة بعرفات، فكأنَّه ألحق المختلف فيه بالمتَّفق عليه. انتهى.
          قال العيني: أراد هذا القائل بهذا الرَّدَّ على الطَّحاوي فإنَّه قال: الخطبة المذكورة ليست من متعلَّقات الحجِّ؛ لأنَّه لم يذكر فيه شيئاً من أمور الحجِّ، وإنَّما ذكر فيها وصايا عامَّة، ولم ينقل أحد أنَّه علَّمهم فيها شيئاً من الذي يتعلق بيوم النَّحر، فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج. انتهى.
          قال: وهذا الردُّ مردودٌ عليه، وذلك لأنَّه لم يُذْكَر فيها شيءٌ أصلاً من أمور الحجِّ، وإنَّما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره؛ لكثرة / الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدُّنيا، وهكذا قال ابن القصَّار أيضاً، ثمَّ قال: فظن الذي رآه أنَّه خطب، قال: وأمَّا ما ذكره الشَّافعي أنَّ بالنَّاس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة، فليس بمُتَعيِّنٍ؛ لأنَّ الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة. انتهى.
          وقال الحافظ العسقلاني: وأجيب بأنه صلعم نبَّه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النَّحر، وعلى تعظيم شهر ذي الحجَّة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصَّحابة ♥ بتسميتها خطبة، فلا يلتفت إلى تأويل غيرهم. انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ هذا الذي ذكره لا يكون جواباً؛ إذ هذه الأشياء المذكورة ليس لها دخل في أمور الحجِّ، وتعظيم هذه الأشياء غير مقيَّد بأوقات الحجِّ، بل يجب تعظيمها مطلقاً.
          وقوله: وقد جزم الصَّحابة إلى آخره دعوى بلا دليل، على أنَّا نقول أن تسميتهم للتبليغ المذكور خطبة ليست على حقيقة الخطبة المعهودة المشتملة على أشياء شتى.
          وقال الحافظ العسقلاني أيضاً: وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه كونه يرى مشروعيَّة الخطبة ثاني يوم النَّحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل كان يمكن أن يعلموا يوم التَّروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحجِّ، لكن لمَّا كان في كلِّ يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التَّعليم بحسب تحديد الأسباب.
          وقد بيَّن الزُّهري وهو عالم أهل زمانه: أنَّ الخطبة ثاني يوم نقلت من خطبة يوم النَّحر، وأنَّ ذلك من عمل الأمراء؛ يعني: من بني أميَّة، قال ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع، عن سفيان هو الثَّوري، عن ابن جريج، عن الزُّهري، قال: كان النَّبي صلعم يخطب يوم النَّحر فشغل الأمراء فأخَّروه إلى الغد، وهذا وإن كان مرسلاً لكنه معتضد بما سبق، وبان به أنَّ السنَّة الخطبة يوم النَّحر لا ثانيه.
          وأمَّا قول الطَّحاوي: أنَّه لم يُنْقَلْ [عن] أَحَدٍ أنه عَلَّمهم شيئاً من أسباب التَّحَلُّل، فلا يَنْفي وُقوعَ ذلك أو شيئاً منه في نفس الأمر، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ☻ : أنَّه شهد النَّبي صلعم يخطب يوم النَّحر، وذكر فيه السُّؤال عن تقديم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطَّحاوي هذا النَّفي المطلق مع روايته هو لحديث عبد الله بن عمرو ☻ .
          وثبت أيضاً في بعض طرق أحاديث الباب: أنَّه صلعم قال للنَّاس حينئذٍ: ((خذوا عنِّي مناسككم)). انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه كيف ساغ لهذا القائل أن يحطَّ على الطَّحاوي بفهمه كلامه على غير أصله، فإنَّه لم ينف مطلقاً، وإنَّما مراده نفي دَلالة حديث ابن عبَّاس ☻ المذكور في هذا الباب على أنَّه خطبة وقعت يوم النَّحر، ولا يلزم من هذا أن ينفي نفياً مطلقاً.
          وتأييد ردَّه عليه بحديث عبد الله بن عَمرو ☻ يؤيِّد ضعف ما فهمه من كلامه؛ لأنَّ حديث عبد الله بن عَمرو ☻ ليس فيه ما يدلُّ صريحاً على لفظ ((خطب))، فإنَّ لفظ البخاري ومسلم: ((وقف في حجَّة الوداع فجعلوا يسألونه)).
          وفي رواية أخرى لمسلم: ((وقف رسول الله صلعم على راحلته / فطفق ناس يسألونه)). وفي رواية التِّرمذي: ((أنَّ رجلاً سأل رسول الله صلعم فقال: حلقت قبل أن أذبح)) الحديث، وليس في شيء من هذه الألفاظ ما يدلُّ على أنَّه خطبة، وإنَّما هو سؤال وجواب، وتعليم وتعلُّم فلا يسمَّى هذا خطبة، وكذلك ليس في أحاديث أخرى غير حديث عبد الله بن عمرو ☻ ما يدلُّ على أنَّه خطبة.
          وروى أحمد في «مسنده» عن عليٍّ ☺، قال: ((جاء رجل فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر)) الحديث، وروى النَّسائي عن جابر ☺ ((أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله ذبحت قبل أن أرمي)) الحديث.
          وروى ابن ماجه والبيهقي عن جابر ☺ أيضاً يقول: ((قعد النَّبي صلعم بمنى يوم النَّحر للنَّاس فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إنِّي حلقت قبل أن أذبح)).
          وروى الأئمة الستَّة خلا التِّرمذي عن ابن عبَّاس ☻ من طرق، وليس فيها ما يدلُّ على الخطبة. فروى الشَّيخان والنَّسائي من رواية ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ النَّبي صلعم قيل له في الذَّبح والحلق والرَّمي والتقديم والتأخير فقال: ((لا حرج)).
          وروى البخاري [خ¦1735] وأصحاب السُّنن خلا التِّرمذي من رواية عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((كان النَّبي صلعم يُسأل يوم النَّحر بمنى)) الحديث.
          وروى البخاري [خ¦1721] والنَّسائي من رواية منصور، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((سئل النَّبي صلعم عمَّن حَلَق)) الحديث.
          وروى البخاري [خ¦1722] من رواية عطاء أيضاً عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((قال رجل للنَّبي صلعم : زرت قبل أن أرمي)). الحديث.
          فهذه كلها سؤالات وجوابات وليس فيها ذكر الخطبة. ثمَّ إنَّ أحاديث الباب صريحة في مشروعيَّة الخطبة أيَّام منى إلَّا حديث جابر بن زيد، عن ابن عبَّاس ☻ ، وهو ثاني أحاديث الباب، فإنَّ فيه التقييد بالخطبة بعرفات. وقد أجاب عنه ابن المنيِّر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وليس في شيء من أحاديث الباب التَّصريح بغير يوم النَّحر، وهو الموجود في أكثر الأحاديث، كحديثِ الهرماس بن زياد وأبي أمامة كلاهما عند أبي داود. وحديث جابر بن عبد الله عند أحمد: خطبنا رسول الله صلعم يوم النَّحر فقال: ((أيُّ يوم أعظم حرمة)) / الحديث.
          وقد تقدَّم حديث عبد الله بن عمرو ☺ وفيه ذكر الخطبة يوم النَّحر. وأمَّا قوله في حديث ابن عمر ☺ (1) أنَّه قال ذلك بمنى، فهو مطلق فيحمل على المقيَّد فتعين يوم النَّحر.
          فلعلَّ المؤلِّف أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب كما عند أحمد من طريق الرَّقاشي عن عمِّه، قال: ((كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلعم في أوسط أيَّام التَّشريق)). فذكر نحو حديث أبي بكرة ☺. فقوله: في أوسط أيَّام التَّشريق، يدلُّ على وقوع ذلك أيضاً في اليوم الثَّاني أو الثَّالث.
          وفي حديث سراء بنت نبهان عند أبي داود: خطبنا النَّبي صلعم يوم الدَّوس فقال: ((أي يوم هذا؟ ليس أوسط أيَّام التَّشريق)). وفي الباب عن كعب بن عاصم عند الدَّارقطني.
          وعن أبي نَجِيْح عن رجلين من بني بكر عند أبي داود. وعن أبي بصرة عمَّن سمع خطبة النَّبي صلعم عند أحمد.


[1] من قوله: ((وفيه ذكر الخطبة... إلى قوله: عمر ☺)): ليس في (خ).