نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الزيارة يوم النحر

          ░129▒ (باب الزِّيَارَةِ) أي: زيارة الحاج البيت للطَّواف به (يَوْمَ النَّحْرِ) والمراد به طواف الزِّيارة الذي هو ركن من أركان الحجِّ، ويسمَّى طواف الإفاضة أيضاً (وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية، واسمه محمَّد بن مسلم بن تَدْرُس بلفظ المخاطب من المضارع من الدِّراسة، وقد في مرَّ باب من شكا إمامه [خ¦705]، وقد وثَّقه الجمهور، وضعَّفه بعضهم لكثرة التَّدليس وغيره. ولم يروِ له المؤلِّف سوى حديث واحد في البيوع [خ¦2189]، وعلق له عدَّة أحاديث. واحتجَّ به مسلم والباقون.
          قال البيهقي في «سننه»: إنَّه سمع عن ابن عبَّاس ☻ ، وفي سماعه عن عائشة ♦ نظر.
          (عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ♥ ) أنَّهما قالا: (أَخَّرَ النَّبِيُّ صلعم الزِّيَارَةِ) أي: طواف الزِّيارة (إِلَى اللَّيْلِ) وهذا التَّعليق وصله التِّرمذي عن محمَّد بن بشَّار: حدَّثنا عبد الرَّحمن بن مهدي: حدَّثنا سفيان، عن أبي الزُّبير، عن ابن عبَّاس وعائشة ♥ : ((أنَّ النَّبي صلعم أخَّر طواف الزِّيارة إلى اللَّيل))، قال أبو عيسى: هذا الحديث حسن صحيح.
          وأخرجه أبو داود أيضاً عن محمَّد بن بشار. وأخرجه النَّسائي عن محمَّد بن المثنى، عن ابن مهدي، وأخرجه ابن ماجه عن بكر بن خلف.
          فإن قيل: هذا يعارض ما رواه ابن عمر ☻ ، وكذا جابر وعائشة ☻ عن النَّبي صلعم / أنَّه طاف يوم النَّحر نهاراً، والحديثان عن ابن عمر وجابر ☻ عند مسلم.
          أمَّا حديث ابن عمر ☻ : فإنَّه أخرجه من طريق عبد الرَّزَّاق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر ☻ : ((أنَّ رسول الله صلعم أفاض يوم النَّحر، ثمَّ رجع فصلَّى الظُّهر بمنى)). ورواه أبو داود والنَّسائي أيضاً.
          وأمَّا حديث جابر ☺: فإنه أخرجه من رواية جعفر بن محمَّد، عن جابر ☺ في الحديث الطَّويل وفيه: ((ثمَّ ركب رسول الله صلعم فأفاض إلى البيت، فصلَّى بمكَّة الظُّهر)). الحديث.
          وأمَّا حديث عائشة ♦: فأخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق عن عبد الرَّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ♦ قالت: ((أفاض رسول الله صلعم من آخر يومه حين صلَّى الظُّهر، ثمَّ ركب إلى منى فمكث بها ليالي التَّشريق)).
          فهذه الأحاديث تدلُّ على أنَّه طاف طواف الزِّيارة يوم النَّحر نهاراً، وحديث الباب يدلًّ على أنَّه أخره إلى اللَّيل. فالجواب عنه بوجوه:
          الأوَّل: أنَّ الأحاديث الثَّلاثة تحمل على اليوم الأوَّل، وحديث الباب يحمل على بقية الأيَّام.
          الثَّاني: أنَّ حديث الباب يحمل على أنَّه أخر ذلك إلى ما بعد الزَّوال، فكأنَّ معناه أخَّر طواف الزِّيارة إلى العشي. وأمَّا الحمل على ما بعد الغروب فبعيد جداً؛ لما ثبت في الأحاديث الصَّحيحة المشهورة أنَّه صلعم طاف يوم النَّحر نهاراً، وشرب من سقاية زمزم.
          الثَّالث: ما ذكره ابن حبَّان من أنَّه صلعم رمى جمرة العقبة ونحر، ثم تطيَّب للزيارة، ثم أفاض فطاف البيت طواف الزِّيارة، ثمَّ رجع إلى منى فصلَّى الظُّهر بها والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بها، ثمَّ ركب إلى البيت ثانياً وطاف به طوافاً آخر باللَّيل. وقد روى البيهقي: ((أنَّه صلعم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى)).
          فإن قيل: ما تقول في الحديث الذي أخرجه البيهقي: ((أنَّ رسول الله صلعم أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النَّحر ظهره، وزار رسول الله صلعم مع نسائه ليلاً))؟.
          فالجواب: أنَّ هذا الحديث غريب جداً، فلا يعارض الأحاديث المشهورة.
          (وَيُذْكَرُ) على البناء للمفعول (عَنْ أَبِي حَسَّانَ) بالصرف وعدمه هو مسلم بن عبد الله العدوي البصري المشهور بالأجرد، ويقال له: الأعرج أيضاً (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ / يَزُورُ الْبَيْتَ) العتيق (أَيَّامَ مِنًى) أي: بعد اليوم الأوَّل أيام التَّشريق، وهذا التَّعليق وصله البيهقي عن أبي الحسن بن عبدان: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفَّار: حدَّثنا العمري: حدَّثنا ابن عرعرة قال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتاباً قال: سمعته من أبي ولم يقرأه قال: فكان فيه عن قتادة، عن أبي حسَّان، عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ نبي الله صلعم كان يزور البيت كل ليلة ما دام بمنى قال: وما رأيت أحداً واطأه عليه. ورواه الطَّبراني أيضاً من طريق قتادة عنه.
          وقال ابن المديني في «العلل»: روى قتادة حديثاً غريباً لا نحفظه عن أحد من أصحاب قتادة إلَّا من حديث هشام، فنسخته من كتاب أبيه معاذ بن هشام، ولم أسمعه منه عن أبيه عن قتادة حدَّثني أبو حسان، عن ابن عبَّاس ☻ : ((أنَّ النَّبي صلعم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى)).
          قال الأثرم: قلت لأحمد: تحفظ عن قتادة؟ فذكر هذا الحديث؛ فقال: كتبوه من كتاب معاذ، قلت: فإنَّ هنا إنساناً يزعم أنَّه سمعه من معاذ؟ فأنكر ذلك. وأشار الأثرم بذلك إلى إبراهيم بن محمَّد بن عَرْعرة، فإنَّ من طريقه أخرجه الطَّبراني بهذا الإسناد.
          وكأن البخاري ☼ ذكر طريق أبي حسَّان للإشارة إلى الجمع بين الأحاديث الدَّالة على أنَّه صلعم طاف طواف الزِّيارة يوم النَّحر نهاراً، وبين حديث عائشة وابن عبَّاس ♥ الدَّال على أنَّه أخَّره إلى اللَّيل بأن هذا الحديث محمول على بقيَّة الليالي بعد يوم النَّحر كما مر، والله أعلم.
          تنبيه: أبو حسَّان المذكور قد أخرج له مسلم حديثين غير هذا عن ابن عبَّاس ☻ ، وليس هو على شرط البخاري، ولرواية أبي حسَّان هذه شاهد مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة: حدَّثنا ابن طاوس، عن أبيه: ((أنَّ النَّبي صلعم كان يفيض كل ليلة يعني ليالي منى)).