نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل الحرم

          ░43▒ (بابُ فَضْلِ الْحَرَمِ) أي: حرم مكَّة، وهو ما / أحاطها من جوانبها، جعل الله حُكمه في الحرمة تشريفاً لها، وحدُّه من المدينة على ثلاثة أميال، ومن اليمن والعراق على سبعةٍ، ومن الجدَّة على عشرة.
          وقال الأزرقيُّ: حدُّ الحرم من طريق المدينة دون التَّنعيم عند بيوتٍ تِعَار على ثلاثة أميال من مكَّة، ومن طريق اليمن طرف أضاة لِبْنٍ على سبعة أميال من مكَّة، ومن طريق الطَّائف إلى بطن نمرة على أحد عشر ميلاً، ومن طريق العراق إلى ثنية خَلٍّ عشرة أميالاً، ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد على تسعة أميال، ومن طريق جدَّة منقطع الأعشاش، ومن الطَّائف سبعة أميالٍ عند طرف عرفة ومن بطن عرنة أحد عشر ميلاً، قيل: إنَّ الخليل ◙ لما وضع الحجر الأسود في الرُّكن أضاء منه نورٌ وصل إلى أماكن الحدود فجاءت الشَّياطين فوقفتْ عند الأعلام، فبناها الخليل ◙ حاجزاً. رواه مجاهد، عن ابن عبَّاس ☻ .
          وعنه أنَّ جبريل ◙ أَرَى إبراهيم ◙ مواضع أنصاب الحرم فنصبها ثمَّ جدَّدها إسماعيل ◙، ثمَّ جدَّدها قُصي بن كلاب، ثمَّ جدَّدها سيدنا رسول الله صلعم ، فلمَّا ولى عمر ☺ بعث أربعة من قريش فنصبوا أنصاب الحرم.
          وقال ابن الجوزيِّ في «المنتظم»: وأمَّا حدود الحرم فأوَّل من وضعها إبراهيم ◙ وكان جبريل يريه، ثمَّ لم تُحرَّك حتَّى كان قصي فجدَّدها ثمَّ قلعتها قريش في زمان نبينا صلعم ، فجاء جبريل ◙ فقال: إنَّهم سيعيدونها، فرأى رجالٌ منهم في المنام قائلاً يقول: حرمٌ أكرمكم الله تعالى به نزعتم أنصابه الآن تختطفكم العرب، فأعادوها، فقال جبريل ◙: قد أعادوها فقال: قد أصابوا قال: ما وضعوا؟ منها نصباً إلَّا بيد ملك، ثمَّ بعث رسول الله صلعم عام الفتح تميم بن أسد فجدَّدها، ثمَّ جدَّدها عمر بن الخطَّاب ☺، ثمَّ جدَّدها معاوية ☺، ثمَّ جدَّدها عبد الملك بن مروان.
          فإن قيل: ما السَّبب في بُعْدِ بَعْضِ الحدود وقُرْبِ بعضِها منه؟
          فالجواب: أنَّ الله ╡ لما أهبط آدم ╕ أهبط بيتاً من ياقوتة أضاء له ما بين المشرق والمغرب فنفرت الجنُّ والشَّياطين، وأقبلوا ينظرون فجاءت الملائكة فوقفوا مكان الحرم إلى موضع انتهاء نوره، وكان آدم ◙ يطوف به ويأنس به. /
          تتميم: تِعَار، بكسر التاء المثناة الفوقيَّة وتخفيف العين المهملة وبعد الألف راء، وهو جبلٌ من جبال أُبْلى على وزن فُعلى، بضم الهمزة وسكون الموحدة، على طريق الآخذ من مكَّة إلى المدينة على بطن نخل ويقال: هو جبل لا ينبت شيئاً، وقال كثير:
أُحِبُّكِ مَا دامَتْ بنَجْدٍ وشِيْجَةٌ                     ومَا ثبتَتْ أُبْلَى بهِ وتِعارُ
          والتَّنعيم على لفظ المصدر من نعَّمته تنعيماً وهو ما بين مَرٍّ وسَرِف، بينه وبين مكَّة فرسخان، ومن التَّنعيم يُحِرمُ من أرادَ العمرةَ، وسمَّي التَّنعيم؛ لأنَّ الجبل عن يمينه يقال له: نعيم، والذي عن يساره يقال له: ناعم، والوادي: نعمان.
          ومَرٍّ: بفتح الميم وتشديد الراء، مضافٌ إلى الظَّهران، بالظاء المعجمة المفتوحة، بينه وبين البيت ستَّة عشر ميلاً.
          وسَرِف: بفتح السين المهملة وكسر الراء وفي آخره فاء. وقال البكريُّ: بسكون الراء، وهو ماءٌ على ستَّة أميال من مكَّة، وهناك أعرس رسول الله صلعم بميمونة مَرْجِعَه من مكَّة حين قضى نسكه، وهناك ماتت ميمونة ♦؛ لأنَّها اعتلت بمكَّة فقالت: أخرجوني من مكَّة؛ لأنَّ رسول الله صلعم أخبرني أنَّي لا أموت بها، فحملوها حتَّى أتوا بها سَرِفاً إلى الشجَّرة التي بَنَى بها رسولُ الله صلعم تحتها في موضع القبة، فماتت هناك سنة ثمانٍ وثلاثين وهناك عند قبرها سقاية، وروى الزُّهري: أنَّ عمر ☺ حمى السرف والرَّبذة، هكذا ورد الحديث: السرف بالألف واللام، ذكره البخاريُّ.
          والأَضاة: بفتح الهمزة والضاد المعجمة، قال الجوهريُّ: هو الغديرُ، وقال السُّهيلي: بينها وبين مكَّة عشرة أميالٍ، وقال البكريُّ: أضاة بني غفار بالمدينة وبيرة.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجر عطفاً على ما قبله ({إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:91]) لما بيَّن الله تعالى قبل هذه الآية المبدأ والمعاد ومقدِّمات القيامة وأحوالها وصفة أهل القيامة من الثَّواب والعقاب أمر الله تعالى رسوله صلعم بأن يقول: أُمِرْتُ أن أخصَّ الله وحده بالعبادة ولا أتَّخذ له شريكاً، كما فعلت قريش إشعاراً بأنَّه قد أتمَّ الدَّعوة، وقد كملت، وما عليه بعد ذلك إلَّا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربِّه.
          ({الَّذِي}) صفة الرَّب ({حَرَّمَهَا}) أي: حرَّم تلك البلدة وهي مكَّة حرسها الله تعالى وحماها: لا يُخْتَليَ خلاها ولا يُعْضَد شجرُها ولا يُنَفَّرُ صيدُها، واللَّاجئ إليها آمن، كما ورد في الحديث.
          واختصَّها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها؛ لأنَّها أحبُّ بلاده إليه وأكرمها عليه وأعظمها لديه، وهكذا قال رسول الله صلعم حين خرج في / مهاجره، فلمَّا بلغ الحزْوَرَة استقبلها بوجهه الكريم فقال: ((إنِّي أعلم أنَّك أحبُّ بلاد الله إلى الله، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني ما خرجت)).
          وأشار إليها إشارة تعظيمٍ لها وتقريب، دالًّا على أنَّها موطن نبيِّه، ومهبط وحيه، ووصف ذاته بالتَّحريم الذي هو خاصُّ وصِفها فأجزل بذلك قسمها في الشَّرف والعلو، ووصفها بأنَّها محرَّمة لا يَنتهك حرمتها إلَّا ظالم مضاد لربِّه، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية [الحج:25].
          ({وَلَهُ}) ╡ ({كُلُّ شَيْءٍ}) خلقاً وملكاً؛ يعني: أنَّ كلَّ شيءٍ تحت ربوبيته وملكوته، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ مَلِكاً مَلَك هذه البلدةَ لَعَظيمُ الشَّأن، قد مَلَكَها ومَلَكَ إليها كلَّ شيء ({وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91]) أي: الحنفاء الثَّابتين على ملَّة الإسلام أو المنقادين لأوامره ونواهيه {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ} [النمل:92] أي: وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً، أو اتِّباعه وحينئذٍ يكون من التلوِّ.
          ووجه تعلُّق هذه الآية بالتَّرجمة من حيث إنَّه اختصَّها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها، كما تقدَّم (وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ) بالجر عطفاً على قوله الأوَّل {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57] أي قالت قريش: إن نتبع الهدى معك نخرج من أرضنا.
          وروى النَّسفي في «تفسيره» وغيره: أنَّ الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف أتى النَّبي صلعم فقال: نحن نعلم أنَّك على الحقِّ ولكنَّا نخاف إن اتَّبعناك وخالفنا العرب بذلك، وإنَّما نحن أكلة رأس؛ أي: قليلون، أنْ يتخطَّفونا من أرضنا، فردَّ الله عليهم بقوله: ({أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص:57]) أي: أولم نجعل مكانهم حرماً ذا أمن بحرمة البيت، ألقمهم الله الحجر بأنَّه مكَّن لهم وأسكنهم في الحرم الذي آمنه الله تعالى وآمن قطانه بحرمة البيت، وكانت العرب في الجاهليَّة حولهم يتغاورون؛ يغير بعضهم على بعض ويتناحرون، وأهل مكَّة آمنون في حرمهم لا يخافون من السَّبي والقتل والغارة وهم مشركون، فكيف يخافون إذا أسلموا وهم في حرم آمن؛ يعني: أنَّهم أولى بالأمن إذا ضُمَّ إلى حُرمة البيت حُرمة التَّوحيد.
          ({يُجْبَى إِلَيْهِ} [القصص:57]) يُجلَبُ ويُحمَلُ إليه ويُجمع فيه، وقرأ نافع ويعقوب: (تُجْبَى) بالتأنيث (ثَمَرَاتُ / كُلِّ شَيْءٍ) من كلِّ أوب وناحية، ومعنى الكلية: الكثرة، كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية [النمل:23]، ({رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57]) جاز أن ينتصب على المصدرية لمعنى ما قبله؛ لأنَّ معنى {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57]: يرزق ثمرات كلِّ شيءٍ، وأن يكون مفعولاً له هذا إذا جُعل مصدراً، وإن جُعل بمعنى: مرزوقٍ كان حالاً من الثَّمرات لتخصُّصها بالإضافة، كما تنتصب عن النَّكرة المخصَّصة بالصِّفة.
          ({وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص:57]) أي: ولكنَّ أكثر أهل مكَّة جهلة لا يتفطنون ولا يتفكَّرون ليعلموا أنَّ الله هو الذي فعل بهم ذلك فيشكروه بالتَّوحيد والإسلام.
          وقال الزَّمخشري: إنَّه متعلِّق بقوله: {مِنْ لَدُنَّا}: أي: قليلٌ منهم يقرُّون بأنَّ ذلك رزقٌ من عند الله وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له، ولو علموا أنَّه من عند الله لعلموا أنَّ الخوف والأمن من عنده ولما خافوا التَّخطف إذا آمنوا به، وخلعوا أنداده، والله أعلم، وتعلُّق هذه الآية أيضاً بالتَّرجمة من حيث إنَّ الله تعالى وصف الحرم بالأمن ومنَّ على عباده بأن مَكَّنَ لهم هذا الحرم.