نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر}

          ░2▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} الآية [الحج:27-28]) وإنَّما ذكر هذه الآية مترجماً بها تنبيهاً على أنَّ اشتراط الرَّاحلة في وجوب الحجِّ لا ينافي جواز الحجِّ ماشياً مع القدرة على الرَّاحلة وعدم القدرة؛ لأنَّ الآية اشتملت على المشاة والركبان، وذلك أنَّ سبب نزول الآية أنَّهم كانوا لا يركبون، على ما روى الطَّبري عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد: كانوا لا يركبون، فأنزل الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} الآية، فأمرهم بالزَّاد، ورخَّص في الرُّكوب والمتجر وأول الآية {وَأَذِّنْ} أمر من التأذين؛ أي: ناد.
          وقرئ في الشَّواذ ▬وآذن↨ بالمدِّ {فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} والنِّداء بالحجِّ أن يقول: حجُّوا وعليكم بالحجِّ، روي: أنَّه لما فرغ إبراهيم ╕ من بناء بيت الله الحرام أمره الله أن يؤذن، فقال إبراهيم: يا ربِّ وما يبلغ أذاني؟ قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، فقام في المقام، وقيل: صعد على جبل أبي قبيس فقام عليه وأدخل إصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، وقال: يا أيُّها النَّاس إنَّ الله يدعوكم إلى الحجِّ حج بيته الحرام فحجُّوا بيت ربِّكم، فأسمع من في أصلاب الرِّجال وأرحام النِّساء ممَّن سبق في علم الله تعالى أن يحجَّ فأجابوا: لبَّيك اللَّهم لبَّيك، فمن أجاب يومئذٍ بِعَدَدٍ حَجَّ على قدره.
          قيل: أوَّل من أجابه أهل اليمن فهم أكثر النَّاس حجًّا، وهذا قول الجمهور، وعن الحسن ومن تبعه: إنَّه خطاب لرسول الله صلعم أُمِرَ أن يَفْعَلَ ذلك في حجَّة الوداع.
          والتَّوفيق بين القولين: أنَّ النَّبي صلعم إنَّما أمره الله بذلك إحياء لسنَّة إبراهيم ╕ فقوله: {يَأْتُوكَ} على القول الأوَّل خطاب لإبراهيم ╕، / وعلى القول الثَّاني لنبينا صلعم ، وهو مجزوم؛ لأنَّه جواب الأمر وهو قوله: {وأذِّن}.
          {رِجَالاً} نصب على الحال؛ أي: مشاةً وهو جمع راجل كقيام وقائم، كذا قاله أبو عبيدة في كتاب «المجاز»، وقرئ في الشَّواذ: ▬رُجالاً↨ بضم الراء مخفف الجيم ومثقله والأولى قراءة مجاهد، والثانية قراءة عكرمة، وعن ابن عبَّاس ☻ : ▬رُجَالَى↨ كعُجالَى، والأراجيل جمع الجمع.
          {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} عطف على قوله: رجالاً كأنَّه قيل: رجالاً وركباناً، وهو من الضُّمور وهو الهزال.
          قال أبو اللَّيث: وعلى كلِّ ضامر؛ يعني: الإبل وغيره فلا يدخل بعير ولا غيره الحرم إلا وقد ضمر من طول الطَّريق، والضَّامر بغير هاء يستعمل للمذكَّر والمؤنث.
          وقال النَّسفي في «تفسيره»: وعلى كلِّ ضامر: حال معطوفة على حال، والضَّامر: البعير المهزول، وقوله: {يَأْتِيَنِّ} صفة لكلِّ ضامر لكونه في معنى الجمع، وقرئ في الشَّواذ: ▬يأتون↨ صفة للرِّجال والركبان {مِنْ كُلِّ فَجٍّ}: أي: طريق {عَمِيقٍ} [الحج:27] ؛ أي: بعيد.
          ومنه قيل: بئر عميقة، وقرأ ابن مسعود ☺: ▬معيق↨، يقال: بئر بعيدة العَمق والمعق {لِيَشْهَدُوا} أي: ليحضروا {مَنَافِعَ لَهُمْ} هي التِّجارة، وقيل: منافع الآخرة، وقيل: منافع الدَّارين جميعاً.
          وقال الزَّمخشري: نَكَّرَ منافع؛ لأنَّه أراد منافع مختصَّة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات.
          وعن أبي حنيفة ☼ أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحجَّ، فلما حجَّ فضل الحجَّ على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص {وَيذْكُرُوا} أي: وليذكروا {اسْمَ اللَّهِ} والمراد أن يقولوا: بسم الله، والله أكبر، أو بسم الله، الله أكبر، بالواو أو بدونها {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} هي أيَّام العشر عند أبي حنيفة ☼ ، وهو قول الحسن، وأيَّام النَّحر عند صاحبيه.
          وقال مجاهد وقتادة: المعلومات أيَّام العشر، والمعدودات أيَّام التشريق {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} متعلق بيذكروا {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} البهيمة مبهمة في كلِّ ذات أربع في البر والبحر، فبيِّنت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضَّأن والمعز، والمعنى: ويذكروا اسم الله تعالى على ذبح أنعامهم، وكان الكفَّار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبيَّن الله تعالى أنَّ الواجب هو الذَّبح على اسمه تعالى.
          وكَنَّى عن النَّحر والذَّبح بذكر اسم الله تعالى؛ لأنَّ أهل الإسلام لا ينفكُّون عن ذكر اسمه تعالى إذا نحروا / وذبحوا، وفيه تنبيه على أنَّ الغرض الأصلي فيما يتقرَّب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه، وقد حسن الكلام تحسيناً بيِّناً: أن جَمَعَ بين قوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} وقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} ولو قيل: لينحروا في أيَّام معلومات بهيمة الأنعام لم تر شيئاً من ذلك الحسن والروعة.
          {فَكُلُوا مِنْهَا} وهو أمر إباحة؛ لأنَّ أهل الجاهليَّة كانوا لا يرون ولا يستحلُّون الأكل من نسائكهم وذبائحهم، ويجوز أن يكون ندباً لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم، ومن استعمال التَّواضع، ومن ثمَّة استحبَّ الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثُّلث.
          وعن ابن مسعود ☺: أنَّه بعث بهدي وقال فيه: إذا نحرته فكُلْ وتصدَّق وابعث منه إلى عُتبة؛ يعني: ابنه، وفي الحديث: ((كلوا وادَّخروا وائتجروا)) أي: وتصدَّقوا طالبين للأجر، ويجوز واتجروا بالإدغام {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} أي: الذي أصابه بؤس وشدة واشتد فقره.
          وقال أبو اللَّيث: البائس الضَّرير الزَّمِن {الْفَقِيرَ} [الحج:28] الذي ليس له شيء أو الذي أضعفه الإعسار {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قضاء التَّفث: قص الشَّارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد، والتفث: الوسخ، فالمراد قضاء إزالة التَّفث {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} مواجب حجهم أو ما عسى ينذرونه من أعمال البرِّ في حجِّهم، وقرئ في السَّبعة كلاهما بكسر اللام وإسكانها، وكذا الآتي، وفي { وَلْيُوفُّوا } تشديد الفاء أيضاً قراءة في السبعة.
          {وَلْيَطَّوَّفُوا} طواف الإفاضة وهو طواف الزِّيارة الذي هو من أركان الحج، ويقع به تمام التَّحلل وقيل: طواف الصَّدر وهو طوافُ الوداع {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] القديم؛ لأنَّه أول بيت وُضِعَ للنَّاس، كذا روي عن الحسن.
          وعن قتادة: أُعْتِقَ من الجبابرة؛ كم من جَبَّارٍ سَارَ إليه ليهدمه فمنعه الله. وعن مجاهد: لم يُمْلك قط، وعن مجاهد أيضاً: أُعْتِق من الغَرَق. وقيل: بيت كريم من قولهم: عتاق الخيل والطَّير، فإن قيل: قد تسلَّط عليه الحجَّاج فلم يُمْنَع.
          فالجواب: أنَّه ما قَصَد التسلُّط على البيت، وإنَّما تحصَّن به ابن الزُّبير فاحتال لإخراجه، ثمَّ بناه، ولمَّا قصد التسلُّط عليه أبرهة فُعِلَ به ما فُعِل.
          ({فِجَاجاً} الطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ) قد جرت عادة البخاري أنَّه إذا وقعت لفظة في الحديث أو في الآية توافق لفظ القرآن أو الحديث / يذكر نظيرها فذكر هنا فجاجاً يريد به ما وقع في قوله تعالى: {لتسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجا} الآية [نوح:20]، ثمَّ فسَّر الفجاج بقوله: الطَّريق الواسعة، وهكذا فسَّرها الفراء في «المعاني» وهو جمع: فج.
          قال ابنُ سيده: الفج: الطَّريق الواسع في جبل، أو في قبل جبل، وهو أوسعُ من الشعب، وقال ثعلب: هو ما انخفضَ من الطُّرق، وجمعه: فجاج وأفجَّة، والأخيرة نادرة.
          وقال صاحب «المنتهى»: فجاجُ الأرض: نواحيها، وفي «التَّهذيب»: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]؛ أي: واسع غامض، والله أعلم.