نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الطواف بعد الصبح والعصر

          ░73▒ (بابُ) حكم (الطَّوَافِ بَعْدَ) صلاة (الصُّبْحِ وَ) صلاة (الْعَصْرِ) والمعنى: باب حكم الصَّلاة بعد الطَّواف بعدهما، وإلَّا لا تطابقُ أحاديثُ الباب التَّرجمةَ، وإنَّما أطلق ولم يبيِّن الحكم؛ لورود الآثار المختلفة في هذا الباب.
          وقال الحافظ العسقلاني: ويظهر من صنيعه أنَّه يختار التَّوسعة، وكأنَّه / أشار إلى ما رواه الشَّافعي وأصحاب السُّنن وصحَّحه التِّرمذي وابن خزيمة وغيره من حديث جُبير بن مطعم ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((يا بني عبد مناف، مَن وَلِيَ منكم من أمر النَّاس شيئاً فلا يَمْنَعنَّ أحداً طاف بهذا البيت وصلَّى أيَّ ساعة شاء من ليل أو نهار)) وإنَّما لم يخرجه لأنَّه ليس على شرطه. انتهى.
          وتعقَّبه العيني فقال: ليت شعري من أين يظهرُ من صنيعه ذلك، والتَّرجمة مطلقة، ومن أين عَلِمَ أنَّه أشار إلى ما رواه الشَّافعي وغيره، ومن أين عَلِمَ أنَّه وقف على حديث جبير بن مطعم ☺ حتَّى اعتذر عنه بأنَّه لم يخرجه لكونه ليس على شرطه.
          (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ☻ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ) مطابقتُه للتَّرجمة ظاهرةٌ على التَّقدير المذكور، وهذا التَّعليق وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء أنَّهم صلُّوا الصُّبح بغلس، وطاف ابن عمر ☻ بعد الصُّبح سبعاً، ثمَّ التفت إلى أفق السَّماء فرأى أنَّ عليه غَلَسَاً قال: فاتبعته حتَّى أنظر أي شيء يصنع فصلَّى ركعتين، قال: وحدَّثنا داود العطَّار، عن عمرو بن دينار ((رأيت ابن عمر ☻ طاف سبعاً بعد الفجر وصلَّى ركعتين وراء المقام))، وهذا إسنادٌ صحيح.
          وهذا جارٍ على مذهب ابن عمر ☻ في اختصاص الكراهة بحال طلوع الشَّمس وحال غروبها، وقد روى الطَّحاوي من طريق مجاهد قال: ((كان ابن عمر ☻ يطوف بعد العصر ويصلِّ ما كانت الشَّمس بيضاء حيَّة نقيَّة، فإذا صغرت وتغيَّرت طاف طوافاً واحداً حتَّى يصلِّي المغرب ثمَّ يصلِّي ركعتين، وفي الصُّبح نحو ذلك)). وبهذا قال عطاء وطاوس والقاسم وعروة بن الزُّبير والشَّافعي وأحمد وإسحاق، وذهب مجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري والثَّوري وأبو حنيفة وصاحباه ومالك في رواية إلى كراهة الصَّلاة للطَّواف بعد العصر حتَّى تغرب الشَّمس وبعد الصُّبح حتَّى تطلع الشَّمس.
          واحتجُّوا في ذلك بعموم حديث عقبة بن عامر الجهني قال: ((ثلاث ساعات كان رسول الله صلعم نهانا أن نصلِّي فيهنَّ)) الحديث، وقد مرَّ في مواقيت الصَّلاة [خ¦581]، ومع هذا فقد روى الطَّحاوي بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عمر ☻ خلاف ما علَّقه البخاري فقال: حدَّثنا ابن خزيمة: حدَّثنا حجَّاج: حدَّثنا همام: حدَّثنا نافع: ((أن ابن عمر ☻ قدم عند صلاة الصُّبح فطاف ولم يصلِّ إلَّا بعد ما طلعت الشَّمس)).
          وقال سعيدُ بن أبي عَرُوبة في المناسك / عن أيُّوب، عن نافع: ((أنَّ ابن عمر ☻ كان لا يطوف بعد صلاة العصر ولا بعد صلاة الصُّبح))، وأخرجه ابن المنذر أيضاً من طريق حمَّاد عن أيوب.
          ومن طريق أخرى أيضاً عن نافع: ((كان ابن عمر ☻ إذا طاف بعد الصُّبح لا يُصلِّي حتَّى تطلع الشَّمس، وإذا طاف بعد العصر لا يصلِّي حتَّى تغرب الشَّمس))، فإن قيل: قد روى الدَّارقطني والبيهقي في «سننيهما» من رواية سعيد بن سالم القداح، عن عبد الله بن المؤمل المخزومي، عن حميد مولى عفراء، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: قدم أبو ذرٍّ ☺ فأخذ بعضادة باب الكعبة ثمَّ قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((لا يصلينَّ أحد بعد الصُّبح حتَّى تطلع الشَّمس ولا بعد العصر حتَّى تغرب الشَّمس إلا بمكَّة)) فهي تردُّ عموم النَّهي عن الصَّلاة في الأوقات المكروهة.
          فالجواب: أنَّ عبد الله بن المؤمل ضعيف، ومجاهد لم يسمع من أبي ذرٍّ.
          فإن قيل: روى الطَّبراني في «الأوسط» من حديث عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّ النَّبي صلعم قال: ((يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب إنْ ولِّيتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت فصلَّى أيَّ ساعة شاء من ليل أو نهار)).
          فالجواب: أنَّه قال الطَّبراني لم يروه عن جريج، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ إلا سليم بن مسلم فهو غريب. وقال ابن عبد البر: كره الثَّوري والكوفيُّون: الطَّواف بعد العصر والصُّبح، قالوا: فإن فعل يؤخِّر الصَّلاة. انتهى.
          ولعلَّ هذا عند بعض الكوفيين، وإلَّا فالمشهور عند الحنفيَّة كما عرفت أنَّ الطَّواف لا يكره، وإنَّما تُكْره الصَّلاة، وقال ابن المنذر: رخَّص في الصَّلاة بعد الطَّواف جمهورُ الصَّحابة ومَن بعدهم، ومنهم من كَرِهَ ذلك؛ أخذاً بعموم النَّهي عن الصَّلاة بعد الصُّبح وبعد العصر، وهو قول عمر والثَّوري وطائفة وذهب إليه مالك وأبو حنيفة.
          وقال أبو الزُّبير: رأيت البيت يخلو بعد هاتين الصَّلاتين ما يطوف به أحد. وروى أحمد، بإسناد حسن، عن أبي الزُّبير، عن جابر ☺ قال: كنَّا نطوف فنمسح الرُّكن / الفاتحة والخاتمة، فلم نكن نطوف بعد الصُّبح حتَّى تطلع الشَّمس ولا بعد العصر حتَّى تغرب الشَّمس، قال: وسمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((تطلع الشَّمس بين قرني شيطان)).
          (وَطَافَ عُمَرُ ☺ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوًى) وهذا التَّعليق وصله مالك في «الموطَّأ» عن الزُّهري، عن حميد بن عبد الرَّحمن، عن عبد الرَّحمن بن عبد القارئ، عن عمر ☺ به.
          وروى الأثرم عن أحمد، عن سفيان، عن الزُّهري مثله إلَّا أنَّه قال: عن عروة بدل حميد، قال أحمد: أخطأ فيه سفيان، قال الأثرم: وقد حدَّثني به نوح بن يزيد من أصله، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزُّهري، كما قال سفيان.
          وقد روي في «أمالي ابن منده» من طريق سفيان بلفظ: ((أنَّ عمر ☺ طاف بعد الصُّبح سبعاً، ثمَّ خرج إلى المدينة، فلمَّا كان بذي طوى وطلعت الشَّمس صلَّى ركعتين)).
          قال الطَّحاوي: فهذا عمر ☺ أخَّر الصَّلاة إلى أن يدخل وقتها، وهذا بحضرة جماعة من الصَّحابة ♥ ولم ينكره عليه منهم أحد، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة الطَّواف لصلَّى ولما أخَّر، لأنَّه لا ينبغي لأحدٍ طاف بالبيت أن لا يصلِّي حينئذٍ إلَّا من عذر.
          وفي «سنن سعيد بن منصور» و«مصنَّف ابن أبي شيبة» عن أبي سعيد الخدري ☺ أنَّه طاف بعد الصُّبح، فلمَّا فرغ جلس حتَّى طلعت الشَّمس. وقال سعيد بن منصور: وكان سعيد بن جبير والحسن ومجاهد يكرهون ذلك أيضاً.