نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنًا}

          ░46▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ ╡: {وَإِذْ}) أي: واذكر إذ ({قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ}) أي: مكَّة ({آمِناً}) ذا أمنٍ لمن فيها من القتل والغارة والفاقة، ويقال: من الجذام والبرص، والفرق بينه وبين قوله: {اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} أنَّ المسئول في الأوَّل إزالة الخوف عنه وتصييره آمناً، وفي الثَّاني: جعله من البلاد الآمنة.
          ({وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ}) أي: بعِّدني واحفظني وإيَّاهم ({أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}) أي: عن عبادة الأصنام واجعلنا منها في جانب، وقرئ في الشَّواذ: ▬وأجنبني↨ من الإفعال، وفيه ثلاث لغاتٍ: جَنَّبه الشَّر، وجَنَبه، وأَجْنبه.
          فأهل الحجاز يقولون: جنَّبه شرَّه، بالتشديد، وأهل نجد: جَنَّبني وأَجْنبني، وذلك أنَّ إبراهيم ◙ لما فرغ من بناء البيت سأل ربَّه تعالى أن يجعل البلد آمناً وخاف على بنيه؛ لأنَّه رأى قوماً يعبدون الأصنام والأوثان، فسأل أن يجنِّبهم من عبادة الأوثان فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، والمعنى: ثبِّتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها.
          وفيه دليلٌ على أنَّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إيَّاهم، والمراد ببنيه بنوه من صلبه، ولا تتناول أحفاده وذرِّيته، وسئل ابن عيينة: كيف عبدت العرب الأصنام، وقد سأل إبراهيم ◙ الاجتناب عنها لهم؟ فقال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً وإنمَّا كانت لهم أنصاب حجارةٍ يدورون بها ويسمُّونها الدَّوار / ويقولون: البيت حجر فحيثما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت، فكانوا يدورون بذلك الحجر فاستحبَّ أن يقال: طاف بالبيت ولا يقال: دار بالبيت.
          وفي الآية: دليلٌ على أنَّ المؤمن لا ينبغي له أن يأمن على إيمانه بل ينبغي أن يكون متضرِّعاً إلى الله تعالى ليثبِّته على الإيمان، كما سأل إبراهيم ◙ لنفسه وبنيه الثَّبات على الإيمان.
          وروي عن يحيى بن معاذٍ: أنَّه كان يقول: اللهمَّ إنَّ جميع سروري بهذا الإسلام وأخاف أن ينزع منِّي وما دام هذا الخوف معي رجوت أن لا ينزع مني.
          ({رَبِّ}) أي: يا ربِّ ({إِنَّهُنَّ}) أي: الأصنام ({أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}) فأعوذ بك منها وأسألك العصمة لنفسي ولبنيَّ، وإنَّما جعلن مضلَّات؛ لأنَّ النَّاس ضلُّوا بسببهنَّ فكأنَّهن أضللنهم، كما يقول: فتنتهم الدُّنيا وغرَّتهم؛ أي: افتتنوا بها واغترُّوا بسببها فنسب الإضلال إليهنَّ، وإن لم يكن منهنَّ عمل في الحقيقة وقيل: كان الإضلال منهنَّ؛ لأنَّ الشَّيطان كان يدخل في جوف الأصنام ويتكلَّم بما فيه إضلال، هذا، وهذا أيضاً ليس منهنَّ في الحقيقة.
          ({فَمَنْ تَبِعَنِي}) على ملَّتي وآمن بي ({فَإِنَّهُ مِنِّي}) أي: هو بعضي لفرط اختصاصه بي، وملابسته لي، وعدم انفكاكه عنِّي في أمر الدِّين، وكذلك قوله: ((من غشَّنا فليس منَّا))؛ أي: ليس بعض المؤمنين، على أنَّ الغشَّ والخيانة ليس من أفعالهم وأوصافهم، ويقال: أي فهو من أمَّتي.
          ({وَمَنْ عَصَانِي}) لم يطعني ولم يوحِّدك ({فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]) تقدر أن تغفرَ له وترحمه ابتداء وبعد التَّوفيق للتَّوبة، وفيه دليلٌ على أنَّ كلَّ ذنبٍ فللَّه أن يغفره حتَّى الشرك إلَّا أنَّ الوعيد فرق بينه وبين غيره ({رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي}) أي: أنزلت بعض ذرِّيتي أو ذرِّية من ذرِّيتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ◙ ومن ولد منه، فإنَّ إسكانه متضمِّن لإسكانهم.
          ({بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}) يعني: وادي مكَّة فإنَّها حجريَّة لا تنبت شيئاً فمعنى قوله: {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} لا يكون فيه شيءٌ من زرع قط، كقوله تعالى: {قُرْآَناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} الآية [الزمر:28] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلَّا الاستقامة لا غير ({عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37]) الذي حرَّمت التعرَّض له والتَّهاون به وجعلت ما حوله حرماً لمكانه يأمن من دخل فيه من القتل، ولا يصطاد فيه، ولا يدخل فيه أحد بغير إحرامٍ، ولم يزل معظَّماً مُمَنَّعاً / تهابه الجبابرة كالشَّيء المحرَّم الذي حقَّه أن يجتنب، ولأنَّه محترم عظيم الحرمة لا يحلُّ انتهاكها، ولأنَّه حُرِّم على الطُّوفان؛ أي: مُنِعَ منه فلم يستول عليه، كما سثمَّي عتيقاً؛ لأنَّه أعتق منه وهو كان دعا بهذا الدُّعاء أوَّل ما قدم فلعلَّه قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه.
          روي أنَّ هاجر كانت لسارة فوهبتها لإبراهيم ◙ فولدت منه إسماعيل ◙ فغارت عليهما وناشدته أن يخرجهما من عندها من الشَّام فأخرجهما إبراهيم ◙ إلى أرض مكَّة، ثمَّ رجع إلى سارة فأظهر الله تعالى عين زمزم، ثمَّ إنَّ جرهم رأوا ثمَّة طيوراً فقالوا: لا طير إلَّا على الماء، فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت، فلمَّا كبر إسماعيل ◙ رجع إبراهيم ◙ إليه فبنى معه البيت.
          ({رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ}) اللام لام كي، وهي متعلقة بأسكنت؛ أي: ما أسكنتُهم بهذا الوادي الخلاء البلقع من كلِّ مرتفق ومرتزق إلَّا لإقامة الصَّلاة عند بيتك المحرم وعمارته بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبَّداتك متبرِّكين بالبقعة التي شرَّفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقرِّبين إليك بالعكوف عند بيتك والطَّواف به والرُّكوع والسُّجود حوله مستنزلين الرَّحمة التي آثرت به سكَّان حرمك، وتكرير النداء أعني قوله: {رَبَّنَا} وتوسيطه للإشعار بأنَّها المقصودة بالذَّات من إسكانهم ثمة، والمقصود من الدُّعاء توفيقهم لها، وقيل: هي لام الأمر، والمراد هو الدُّعاء لهم بإقامة الصَّلاة كأنَّه طلب منهم الإقامة وسأل من الله أن يوفِّقهم لها وإنَّما ذكر الصَّلاة خاصَّة لأنَّها أوَّل العبادات وأفضلها.
          ({فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ}) أي: أفئدة وقلوباً من أفئدة النَّاس، ومن للتَّبعيض ويدلُّ عليه ما روي عن مجاهدٍ لو قال: أفئدة النَّاس لزحمتكم عليه فارس والرُّوم، وقيل: لو لم يقل من لازدحموا عليها حتَّى الرُّوم والترك والهند، وقال سعيد بن جبير: لو قال: أفئدة النَّاس يعني: بغير ((من)) لحجَّت اليهود والنَّصارى والمجوس.
          ويجوز أن تكون {مِنَ} للابتداء كقولك القلب منِّي سقيمٌ تريد قلبي فكأنَّه قال: أفئدة ناسٍ، وإنِّما نكر المضاف إليه في هذا التَّمثيل لتنكير أفئدة؛ لأنَّها / في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة.
          ({تَهْوِي إِلَيْهِمْ}) تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقاً ونزاعاً، وقرئ في الشَّواذ: ▬تُهوى↨ على البناء للمفعول من أهواه غيره إليه، وقرئ أيضاً: ▬تهوَى↨ بفتح الواو من هوي يهوى إذا أحبَّ، ضُمِّن معنى تنزع فعُدِّيَ تعديتَه ({وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ}) مع سكناهم وادياً ما فيه شيءٌ منها ولا من النَّبات بأن تجتلب إليهم من البلاد ({لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]) تلك النِّعمة التي هي أنَّهم رزقوا أنواع الثَّمرات حاضرةً في واد يباب ليس فيه نجمٌ ولا شجرٌ ولا ماءٌ، فلا جرم أنَّ الله تعالى أجاب دعوته فجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كلِّ شيءٍ رزقاً من لدنه، ثمَّ فضَّله في وجود أصناف الثِّمار فيه على كلِّ ريفٍ، وهي الأرض التي فيها زرعٌ وخصبٌ، وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثماراً، وفي أيِّ بلادٍ من بلاد الشَّرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله بوادٍ غير ذي زرعٍ، وهي اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعيَّة والصيفيَّة والخريفيَّة في يومٍ واحدٍ، وليس ذلك من آياته بعجيبٍ.
          ولم يذكر البخاريُّ ☼ في هذه التَّرجمة حديثاً، فقال الحافظ العسقلانيُّ: وكأنَّه أشار إلى حديث ابن عبَّاس ☻ في قصَّة إسكان إبراهيم ◙ هاجر وابنها في مكانٍ.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ الإشارة لا تكون إلَّا للحاضر فالذي يطلع على هذه التَّرجمة كيف يقول: هذه إشارةٌ إلى حديث ابن عبَّاس ☻ وهو لم يطلع عليه ولا عرفه.
          وقال الكِرمانيُّ: لعلَّ غرضه منه الإشعار بأنَّه لم يجد حديثاً بشرطه مناسباً لها أو ترجم الأبواب أولاً، ثمَّ ألحق بكلِّ بابٍ ما اتَّفق له ولم يساعده الزَّمان بإلحاق حديث بهذا الباب وهكذا حُكم كلُّ ترجمةٍ هي مثلها.
          وقال العينيُّ: الوجه الأوَّل من الوجهين الذين ذكرهما الكِرمانيُّ بعيد، والأقرب هو الوجه الثَّاني منهما.