إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا ربًا إلا في النسيئة

          2178- 2179- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) بفتح الميم وسكون المعجمة، أبو عاصمٍ، وهو شيخ المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) بفتح العين (أَنَّ أَبَا صَالِحٍ) ذكوان (الزَّيَّاتَ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ ☺ يَقُولُ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ) زاد مسلمٌ من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينارٍ: مثلًا بمثلٍ، من زاد أو ازداد فقد أربى. قال أبو صالح: (فَقُلْتُ لَهُ) أي: لأبي سعيد الخدريِّ: (فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) ☻ (لَا يَقُولُهُ) أي: لا يقول بأن الرِّبا إنَّما هو فيما إذا كان أحد العوضين بالنَّسيئة، وأمَّا إذا كانا متفاضلين فلا ربًا فيه، أي: لا يشترط عنده المساواة في العوضين، بل يجوز بيع الدِّرهم بالدِّرهمين (فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَأَلْتُهُ) ولمسلمٍ: قد لقيت ابن عبَّاس (فَقُلْتُ) له: (سَمِعْتَهُ) بحذف / همزة الاستفهام، أي: أسمعته(1) (مِنَ النَّبِيِّ صلعم أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللهِ) تعالى؟ (قَالَ) ولأبي ذرٍّ: ”فقال“ : (كُلُّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ) برفع ”كلُّ“ كما في الفرع، أي: لم يكن السَّماع ولا الوجدان، وفي بعض الأصول بالنَّصب، قال في «الفتح» كـ «التَّنقيح»: على أنَّه مفعولٌ مقدَّمٌ، وهو في المعنى نظير قوله ╕ في حديث ذي اليدين: «كلَّ ذلك لم يكن»، فالمنفيُّ هو المجموع. انتهى. وحينئذٍ فيكون لسلب الكلِّ، بخلاف وجه الرَّفع؛ فإنَّه لعموم السَّلب، وهو أبلغ وأعمُّ من سلب الكلِّ على ما لا يخفى، وهو مراد ابن عبَّاسٍ؛ لأنَّه ليس مراده نفيَ المجموع من حيث هو مجموعٌ حتَّى يكون البعض ثابتًا، وإذا نصبت «كلّ» كانت داخلةً في حيِّز النَّفي ضرورة أنَّ نصبها بـ «أقول» الواقع‼ بعد حرف النَّفي، فيكون التَّركيب هكذا: لا أقول كلَّ ذلك، فيكون المعنى: بل أقول بعضه وليس هو المراد(2)، فتعيَّن أنَّ مراده نفي كلِّ واحدٍ من الأمرين، أي: لم أسمعه من رسول الله صلعم ، ولا وجدته في كتاب الله، ثمَّ كيف يكون التَّركيب مع نصب «كلَّ» نظير «كلَّ ذلك لم يكن» والمنفيُّ هنا في حيِّز «كلٍّ»، وفي النَّصب هي في حيِّز النَّفي؟ نعم إن رُفِعَ «كلُّ» من قوله: «كلُّ ذلك لا أقول» على أنَّه مبتدأ، و«لا أقول» خبره، والعائد محذوفٍ، أي: أقوله، على حدِّ قوله:
قد أصبحتْ أمُّ الخِيَار تدَّعي
عليَّ ذنبًا كلُّه لم أصنعِ
          برفع «كلّ»، وحذف العائد، أي: لم أصنعه؛ فحينئذٍ(3) يكون نظير «كلُّ ذلك لم يكن»، ويكون المنفيُّ(4) كلَّ فردٍ، لا المجموع من حيث هو مجموعٌ، قاله في «المصابيح»، والنَّصب هو الَّذي في الفرع(5)، وفي روايةِ مسلمٍ: فقال: لم أسمعه من رسول الله صلعم ولا وجدته في كتاب الله تعالى (وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللهِ صلعم مِنِّي) أي: لأنَّكم كنتم بالغين كاملين عند ملازمة رسول الله صلعم وأنا كنت صغيرًا (وَلَكِنَّنِي) بنونين، ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”ولكنْ(6)“ (أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ) بن زيدٍ ☺ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ) أي: لا في التَّفاضل، وقد أُجمِعَ على ترك العمل بظاهره، وقيل: إنَّه محمولٌ على الأجناس المختلفة، فإن التَّفاضل فيها لا ربًا فيه، ولكنَّه مجملٌ، فبيَّنه حديث أبي سعيدٍ، أو أنَّه منسوخٌ، وتُعُقِّبَ: بأنَّ النَّسخ لا يثبت بالاحتمال، وقال الخطابيُّ: يحتمل أنَّه سمع كلمةً من آخر الحديث، ولم يذكر أوَّله، كأن سُئِلَ عن التَّمر بالشَّعير أو الذَّهب بالفضَّة متفاضلًا، فقال(7): إنَّما الرِّبا في النَّسيئة، وهو صحيحٌ لاختلاف الجنس، وقد رجع ابن عبَّاسٍ عن ذلك، فروى الحاكم من طريق حيَّان العدويِّ _وهو بالحاء المهملة والتَّحتيَّة_ قال(8): سألت أبا مِجْلَز عن الصَّرف، فقال: كان ابن عبَّاسٍ لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره ما كان منه عينًا بعين يدًا بيدٍ، وكان يقول: إنَّما الرِّبا في النَّسيئة، فلقيه أبو سعيدٍ...، فذكر القصَّة والحديث، وفيه: «التَّمر بالتَّمر، والحنطة بالحنطة، والشَّعير بالشَّعير، والذَّهب بالذَّهب، والفضَّة بالفضَّة، يدًا بيدٍ، مثلًا بمثلٍ، فمن زاد فهو ربًا»، فقال ابن عبَّاسٍ ☻ : أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهى عنه أشدَّ النَّهي.
          وفي حديث الباب ثلاثةٌ من الصَّحابة، وأخرجه مسلمٌ والنسائيُّ وابن ماجه في «البيوع».


[1] زيد في (د): «كما هو لأبي ذرٍّ»، وليس بصحيحٍ.
[2] «وليس هو المراد»: ليس في (م).
[3] في (ج) و(ل): «لم أصنعه، أي: حينئذٍ أن يكون».
[4] في (ج) و(ل): «ويكون والمنفيُّ».
[5] قوله: «والنَّصب هو الَّذي في الفرع»: سقط من (د) و(ص) و(م).
[6] في (د): «ولكنِّي»، وليس بصحيحٍ.
[7] «فقال»: ليس في (ص) و(م) و(ج).
[8] «قال»: ليس في (د1) و(م).