إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا

          2125- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ) بكسر السِّين المهملة وبنونين بينهما ألفٌ، العَوَقِيُّ _بفتح الواو وبالقاف_ كان ينزل العَوَقَة، بطنٌ من عبد القيس فنُسِب إليهم، وهو باهليٌّ بصريٌّ قال: (حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ) هو ابن سليمان أبو يحيى الحرَّانيُّ، واسمه عبد الملك، وفُلَيحٌ لقبُه، قال: (حَدَّثَنَا هِلَالٌ)(1) هو ابن عليٍّ _على الأصحِّ_ القرشيُّ المدنيُّ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بفتح التَّحتيَّة والمهملة المُخفَّفة وبعد الألف راءٌ، أنَّه (قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ ☻ ، قُلْتُ) له: (أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي التَّوْرَاةِ) لأنَّه كان قد قرأها(2) (قَالَ) عبد الله: (أَجَلْ) بفتح الهمزة والجيم وباللَّام، حرف جوابٍ، مثل: نعم، فيكون تصديقًا للمخبر وإعلامًا للمستخبر ووعدًا للطَّالب، فيقع بعد نحو: قام زيدٌ، ونحو: أقام زيدٌ، ونحو: اضرب زيدًا، أي: فيكون بعد الخبر وبعد الاستفهام والطَّلب، وقيل: تختصُّ(3) بالخبر، وهو قول الزَّمخشريِّ وابن مالكٍ، وقيَّد المالِقيُّ الخبر بالمثبت، والطَّلب بغير النَّهي، وقال في «القاموس»: هي(4) جوابٌ كـ «نعم» إلَّا أنَّه أحسن منه في التَّصديق، و«نعم» أحسن منه في الاستفهام. انتهى. وهذا قاله الأخفش كما في «المغني» لابن هشامٍ، قال الطِّيبيُّ: وفي الحديث جاء جوابًا للأمر(5) على تأويل(6): قرأتَ التَّوراة، هل وجدت صفة رسول الله صلعم فيها فأخبرني؟ قال: أجل (وَاللهِ، إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ) أكَّد كلامه بمؤكِّدات الحلف بالله، والجملة الاسميَّة ودخول «إنَّ» عليها، ودخول لام التَّأكيد على الخبر: ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا}) لأمَّتك المؤمنين بتصديقهم، وعلى الكافرين بتكذيبهم، وانتصاب {شَاهِدًا} على الحال المُقدَّرة من الكاف، أو من الفاعل، أي: مقدِّرًا أو مُقدِّرين شهادتك على من بُعِثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي: مقبولًا قولك(7) عند الله لهم وعليهم كما يُقبَل قول الشَّاهد العدل‼ في الحكم، ({وَمُبَشِّرًا}) للمؤمنين ({وَنَذِيرًا}[الأحزاب:45]) للكافرين، أو مبشِّرًا للمطيعين بالجنَّة، والعصاة بالنَّار، أو شاهدًا للرُّسل قبله بالبلاغ، وهذا كلُّه في القرآن في سورة «الأحزاب» (وَحِرْزًا) بكسر الحاء المهملة وبعد الرَّاء السَّاكنة زايٌ، أي: حصنًا (لِلأُمِّيِّينَ) للعرب يتحصَّنون به من(8) غوائل الشَّيطان، أو من سطوة العجم وتغلُّبهم، وسُمُّوا أمِّيِّين؛ لأنَّ أغلبهم لا يقرؤون ولا يكتبون (أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ) أي: على الله، لقناعته باليسير من الرِّزق، واعتماده على الله في النَّصر، والصَّبر على انتظار الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق، واليقين بتمام وعد الله، فتوكَّل عليه، فسمَّاه المتوكِّل (لَيْسَ بِفَظٍّ) سيِّئ الخلق جافيًا (وَلَا غَلِيظٍ) قاسي القلب، وهو(9) موافقٌ لقوله تعالى(10): {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159] ولا يعارض(11) قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة:73] لأنَّ النَّفيَ محمولٌ على طبعه الذي جُبِل عليه، والأمر محمولٌ على المعالجة، أو النَّفي بالنِّسبة للمؤمنين، والأمر / بالنِّسبة للكفَّار والمنافقين، كما هو مُصرَّحٌ به في نفس الآية، ويحتمل أن تكون هذه آيةً أخرى في التَّوراة لبيان صفته، وأن تكون حالًا، إمَّا من «المتوكِّل» أو من(12) الكاف في «سمَّيتك»، وعلى هذا يكون فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة، ولو جرى على النَّسق الأوَّل، لقال: لست بفظٍّ (وَلَا سَخَّابٍ) بتشديد الخاء المعجمة بعد السِّين المهملة، وهي لغةٌ أثبتها الفرَّاء وغيره، والصَّخَّاب _بالصَّاد_ أشهرُ، أي: لا يرفع صوته على النَّاس لسوء خلقه، ولا يكثر الصِّياح عليهم (فِي الأَسْوَاقِ) بل يليِّن جانبه لهم ويرفق بهم، وفيه ذمُّ أهل السُّوق الذين يكونون بالصِّفة المذمومة من الصَّخب واللَّغط، والزِّيادة في المدحة والذَّمِّ لما يتبايعونه والأيمان الحانثة؛ ولهذا قال ╕ : «شرُّ البقاع الأسواق»؛ لما يغلب على أهلها من هذه الأحوال المذمومة (وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ) هو كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}[المؤمنون:96] (وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ) ما لم تُنتهَك حرمات الله تعالى (وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ) يُميته (حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ) ملَّة إبراهيم، فإنَّها قد اعوجَّت في أيَّام الفترة، فزِيدت ونقصت، وغُيِّرت عن استقامتها، وأُميلت بعد قوامها، وما زالت كذلك حتَّى قام الرَّسول صلعم فأقامها بنفي ما كان عليه العرب من الشِّرك، وإثبات التَّوحيد (بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا) أي: بكلمة التَّوحيد (أَعْيُنًا عُمْيًا)‼ بضمِّ العين وسكون الميم: صفةٌ لـ «أعينٍ»، ولا تَنافيَ بين هذا وبين قوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ}[النمل:81] لأنَّه دلَّ إيلاء الفاعل(13) المعنويِّ حرفَ النَّفي على أنَّ الكلام في الفاعل، وذلك أنَّه تعالى نزَّله _لحرصه على إيمان القوم_ منزلةَ من يدَّعي استقلاله بالهداية، فقال له: أنت لست بمستقلٍّ(14) فيه، بل إنَّك لَتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ بإذن الله تعالى وتيسيره، وعلى هذا فـ «يفتحُ» معطوفٌ على قوله: «يقيم» أي: يقيم الله تعالى بواسطته الملَّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلَّا الله، ويفتح بواسطة هذه الكلمة أعينًا عميًا (وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا) بضمِّ الغين وسكون اللَّام، صفةٌ لـ «قلوبًا»، و«صمًّا» لـ «آذانًا»، ولأبي ذرٍّ: ”ويُفتَح“ بضمِّ أوَّله مبنيًّا للمفعول ”بها أعينٌ عميٌ، وآذانٌ صُمٌّ، وقلوبٌ غلفٌ“ بالرَّفع على ما لا يخفى.
          (تَابَعَهُ) أي: تابع فليحًا (عَبْدُ العَزِيزِ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلَالٍ) هو ابن عليٍّ، وهذه المتابعة وصلها في «سورة الفتح» [خ¦4838] (وَقَالَ سَعِيدٌ) هو ابن أبي هلالٍ، ممَّا وصله الدَّارميُّ في «مسنده»، ويعقوب بن سفيان في «تاريخه»، والطَّبرانيُّ جميعًا بإسنادٍ واحدٍ (عَنْ هِلَالٍ) المذكور في سند الحديث (عَنْ عَطَاءٍ) هو ابن يسارٍ (عَنِ ابْنِ سَلَامٍ) _بتخفيف اللَّام_ عبد الله الصَّحابيِّ، وقد خالف سعيدٌ هذا عبدَ العزيز وفليحًا في تعيين الصَّحابيِّ، قال الحافظ ابن حجرٍ: ولا مانع أن يكون عطاء بن يسارٍ حمله عن كلٍّ منهما، فقد أخرجه ابن سعدٍ من طريق زيد بن أسلم قال: بلغنا أنَّ عبد الله بن سلامٍ كان يقول... فذكره، وسأذكر لرواية عبد الله بن سلامٍ متابعاتٍ في «تفسير سورة الفتح». انتهى. قلت: ولم أجد ما وعد به ☼ من المتابعات في «سورة الفتح»، ولعلَّه سها عن ذكر ذلك كغيره في كثيرٍ من الحوالات، نعم وُجِد بخطِّه في «تفسير سورة الفتح» تُنظَر الفرجة، ولم توجد غير فرجةٍ ليس فيها كتابةٌ، فلعلَّه أراد أن يكتب فيها ما وعد به أو غيره. (غُلْفٌ) بضمِّ الغين وسكون اللَّام: (كُلُّ شَيْءٍ فِي غِلَافٍ)، ويُقال: (سَيْفٌ أَغْلَفُ) إذا كان في غلافٍ (وَ) كذا يُقال: (قَوْسٌ غَلْفَاءُ) إذا كانت في غلافٍ، كالجَعْبَة ونحوها (وَ) كذا (رَجُلٌ أَغْلَفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ) أي: البخاريّ، وهو كلام أبي عبيدة في «المجاز»، وهذا كلامٌ(15) وقع في رواية النَّسفيِّ والمُستملي كما قاله في «الفتح»، لكن قال: إنَّه قبل قوله: «تابعه»، والذي في الفرع تأخيره _كما ترى_ وسقوطه في رواية ابن عساكر، وزيادة: ”قال أبو عبد الله“ لأبي ذرٍّ عن المُستملي بدون هاء الضَّمير في: ”قال“ .


[1] قوله: «هو ابن سليمان أبو يحيى... حَدَّثَنَا هِلَالٌ» سقط من (د).
[2] في (د): «رآها».
[3] في (د): «يختصُّ».
[4] في (د): «هو».
[5] في (د) و(ص) و(ل): «باللَّام».
[6] في (د): «تقدير».
[7] «قولك»: مثبتٌ من (د).
[8] في (د): «عن»، وكذا في الموضع اللَّاحق.
[9] في (ب) و(س): «وهذا».
[10] في (د): «لقول الله».
[11] في (د): «يعارضه».
[12] في (د): «وإمَّا من».
[13] زيد في (د1) و(ص): «على»، وهو تحريفٌ.
[14] في (د): «بمستبدٍّ».
[15] «كلامٌ»: مثبتٌ من (ب) و(س).