إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أما إنك قادم فإذا قدمت فالكيس الكيس

          2097- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بالموحَّدة والمعجَمة المشدَّدة، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ(1)) بن عبد المجيد الثَّقفيُّ قال: (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ) بضمِّ العين مصغَّرًا، ابن عُمرَ (عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ) بفتح الكاف، الأسديِّ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريِّ ( ☻ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلعم فِي غَزَاةٍ) قيل: هي ذات الرِّقاع، كما في «طبقات ابن سعدٍ» و«سيرة ابن هشامٍ» و«ابن سيِّد النَّاس»، وفي «البخاريِّ» [خ¦2718]: كانت في غزوة تبوك، وفي «مسلمٍ» من حديث جابرٍ قال: أقبلنا من مكَّة إلى المدينة، فيكون في الحديبية، أو عمرة القضيَّة، أو في الفتح، أو حجَّة الوداع، لكنَّ حجَّة الوداع لا تسمَّى غزوةً، بل ولا عمرة القضيَّة ولا الحديبية على الرَّاجح(2)، فتعيَّن الفتح، وبه قال البلقينيُّ (فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي وَأَعْيَا) أي: تعِب وَكَلَّ، يقال: أعيا الرَّجل أو البعير في المشي، ويستعمل لازمًا ومتعدِّيًا، تقول: أعيا الرَّجل وأعياه‼ الله (فَأَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ: جَابِرٌ) بالتَّنوين خبر مبتدأ محذوفٍ، أو بدونه(3) منادًى سقط منه حرف النِّداء، أي: يا جابرُ (فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟) أي: ما حالك؟ وما جرى لك حتَّى تأخَّرت عن النَّاس؟ (قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَيَّ جَمَلِي وَأَعْيَا فَتَخَلَّفْتُ) عنهم (فَنَزَلَ) صلعم حال كونه (يَحْجُنُهُ) مضارع «حجن» بالحاء المهمَلة والجيم والنُّون، أي: يجذبه (بِمِحْجَنِهِ) بكسر الميم، بعصاه المعوجَّة من رأسها كالصولجان، معدٍّ لأنَّ يلتقط به الرَّاكب ما يسقط منه (ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ) أي: الجمل، ولابن عساكر: ”فلقد رأيت“ (أَكُفُّهُ) أمنعُه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم ) حتى لا يتجاوزَه (قَالَ: تَزَوَّجْتَ؟) بحذف همزة الاستفهام، وهي مقدَّرةٌ (قُلْتُ: نَعَمْ) تزوَّجتُ (قَالَ): تزوَّجتَ (بِكْرًا أَمْ) تزوَّجتَ (ثَيِّبًا؟) بالمثلَّثة، وقد يطلق على البالغة وإن كانت بكرًا مجازًا واتِّساعًا، والمراد هنا: العذراء، ولأبي ذرٍّ: ”أبكرًا“ بهمزة الاستفهام المقدَّرة في السَّابق، وفي بعض الأصول: ”أبكرٌ أم ثيِّبٌ“ بالرَّفع فيهما خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: أزوجتُك بكرٌ أم ثيِّبٌ؟ (قُلْتُ: بَلْ) تزوَّجت (ثَيِّبًا) هي سهيلة بنت مسعودٍ الأوسيَّة (قَالَ) ╕ : (أَفَلَا) تزوَّجت (جَارِيَةً) بكرًا (تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟) وفي روايةٍ: قال: ”أين أنت من العذراء ولِعابها؟“ وفي أخرى: ”فهلَّا تزوَّجت بكرًا تضاحكك وتضاحكها(4) وتلاعبك وتلاعبها؟“ وقوله: «ولِعابها» بكسر اللَّام، وضبطه بعضُ رواة البخاريِّ بضمِّها، وقد فسَّر الجمهور قوله: «تلاعبها وتلاعبك» على اللعب(5) المعروف، ويؤيِّده رواية: ”تضاحكها وتضاحكك“ وجعله بعضُهم من اللُّعاب، وهو الرِّيق، وفيه حضٌّ على تزويج البكر، وفضيلة تزويج الأبكار، وملاعبة الرَّجل أهله (قُلْتُ: إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ) ولمسلمٍ: إنَّ عبد الله هلك وترك تسع(6) بنات، وإنِّي كرهت أن آتيهنَّ أو أجيئهنَّ بمثلهنَّ (فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ وَتَمْشُطُهُنَّ) بضمِّ الشِّين المعجَمة، أي: تسرِّح شعرهنَّ (وَتَقُومُ) وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”فتقوم“ بالفاء (عَلَيْهِنَّ) زاد في رواية مسلمٍ(7): وتُصلحهنَّ (قَالَ) ╕ : (أَمَا) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرف تنبيهٍ (إِنَّكَ) بكسر الهمزة، والذي في «اليونينيَّة»: بفتح الهمزة وكسرها وتشديد الميم(8) (قَادِمٌ) على أهلك (فَإِذَا قَدِمْتَ) عليهم (فَالكَيْسَ الكَيْسَ) بفتح الكاف والنَّصب على الإغراء، والكيس: الجماع، قال ابن الأعرابيِّ: فيكون قد‼ حضَّه عليه(9) لما فيه وفي الاغتسال منه من الأجر، لكن فسَّره المؤلِّف في موضعٍ آخر من «جامعه» [خ¦5245] هذا بأنَّه الولد، واستُشكِل، وأُجيب بأنه إما أن يكون قد حضَّه على طلب الولد واستعمال الكيس والرِّفق فيه إذ كان جابرٌ لا ولد له إذ ذاك، أو يكون قد أمره بالتحفُّظ والتوقِّي عند إصابة الأهل مخافة أن تكون / حائضًا، فيقدم عليها لطول الغَيبة وامتداد الغُربة، والكيس شدَّة المحافظة على الشيء، قاله الخطَّابيُّ، وقيل: الولد العقل؛ لما فيه من تكثير جماعة المسلمين، ومن الفوائد الكثيرة التي يحافظ على طلبها ذوو العقل. (ثُمَّ قَالَ) ╕ : (أَتَبِيعُ جَمَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِأُوقِيَّةٍ) بضمِّ الهمزة وتشديد التَّحتيَّة، وكانت في القديم أربعين درهمًا، ووزنها أُفعولة، والألف زائدةٌ، والجمع: الأواقيُّ، مشدَّدًا وقد يخفَّف، ويجوز فيها «وقيَّة» بغير ألفٍ، وهي لغةٌ عامريَّةٌ، وفي رواية: «بخمس أواقيَّ وزادني أوقيَّةً» وفي أخرى: «بأُوقيَّتين ودرهمٍ أو درهمين» وفي أخرى: «بأوقيَّة(10) ذهبٍ» وفي أخرى: «بأربعة دنانير» وفي أخرى: «بعشرين دينارًا»، قال المؤلِّف [خ¦2718]: وقول الشَّعبيِّ: «بوقيَّة» أكثر، قال القاضي عياضٌ: سبب اختلاف الرِّوايات أنَّهم رَوَوه بالمعنى، فالمراد: أوقيَّة ذهبٍ، كما فسَّره سالم بن أبي الجعد عن جابرٍ، ويُحمَل عليها رواية من روى: «أوقيَّةً» وأطلق، ومن روى: خمسة أواقيَّ، فالمراد: من الفضَّة، فهي قيمة وقيَّة ذهبٍ ذلك الوقت، فالإخبار عن وقيَّة الذَّهب هو إخبارٌ عمَّا وقع به العقد، وبالأواقيِّ(11) الفضَّة إخبارٌ عمَّا حصل به الوفاء، ويحتمل أن يكون هذا كلُّه زيادةً على الأوقيَّة، كما جاء(12) في رواية: «فما زال يزيدني» وأما «أربعة دنانير» فيحتمل أنَّها كانت يومئذٍ أوقيَّةً ورواية: «أوقيَّتين» يحتمل أنَّ إحداهما ثمنٌ، والأخرى زيادةٌ، كما قال: «وزادني أوقيَّة» وقوله: «ودرهمًا أو درهمين» موافقٌ لقوله في بعض الرِّوايات: «وزادني قيراطًا»(13)، ورواية [خ¦2718]: «عشرين دينارًا» محمولةٌ على دنانير صغارٍ كانت لهم، على أنَّ الجمع بهذا الطريق فيه بُعْدٌ، ففي بعض الرِّوايات ما لا يقبل شيئًا من هذا التَّأويل، قال السُّهيليُّ: ورويَ من وجهٍ صحيحٍ أنَّه كان يزيده درهمًا درهمًا‼، وكلَّما زاده درهمًا يقول: «قد أخذته بكذا والله يغفر لك»، فكأنَّ جابرًا قصد بذلك كثرة استغفار النَّبيِّ صلعم له(14)، وفي رواية [خ¦2718] قال: «بِعْنيه بأوقيَّةٍ، فبعته، واستثنيت حُملانه إلى أهلي»، وفي أخرى: «أفقرني رسول الله صلعم ظهره إلى المدينة» وفي أخرى [خ¦2718]: «لك ظهره إلى المدينة»، قال البخاريُّ [خ¦2718]: الاشتراط أكثر وأصحُّ عندي، واحتجَّ به الإمام أحمد على جواز بيع دابَّةٍ يشترط البائع لنفسه ركوبها إلى موضعٍ معلومٍ، قال المرداويُّ: وعليه الأصحابُ، وهو المعمول به في المذهب، وهو من المفردات، وعنه: لا يصحُّ، وقال مالكٌ: يجوز إذا كانت المسافة قريبةً، وقال الشَّافعيَّة والحنفيَّة: لا يصحُّ، سواءٌ بعُدت المسافة أو قربت؛ لحديث النَّهي عن بيعٍ وشرطٍ، وأجابوا عن حديث جابرٍ: بأنَّه واقعة عينٍ يتطرَّق إليها الاحتمالات؛ لأنَّه ╕ أراد أن يُعطيه الثَّمن هبةً، ولم يُرِد حقيقة البيع بدليل آخر القصَّة، أو أنَّ الشرط لم يكن في نفس العقد بل سابقًا فلم يؤثِّر، وفي رواية النَّسائيِّ: «أخذته بكذا، وأعرتُك ظهره إلى المدينة»، فزال الإشكال. (ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) المدينة (قَبْلِي، وَقَدِمْتُ بِالغَدَاةِ، فَجِئْنَا) أي: هو وغيره من الصَّحابة (إِلَى المَسْجِدِ، فَوَجَدْتُهُ) صلعم (عَلَى بَابِ المَسْجِدِ، قَالَ) ولابن عساكر: ”فقال“ : (الآنَ قَدِمْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعْ) أي: اترُك (جَمَلَكَ فَادْخُلْ) أي: المسجد، ولأبي ذرٍّ: ”وادخل“ بالواو بدل الفاء (فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ) فيه (فَدَخَلْتُ) المسجد (فَصَلَّيْتُ) فيه ركعتين، وفيه: استحبابهما عند القدوم من سفرٍ (فَأَمَرَ) صلعم (بِلَالًا أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً) بهمزةٍ مضمومةٍ وتشديد المثنَّاة التَّحتيَّة، ولابن عساكر: ”وقيَّة“ ، وعبَّر بضمير الغائب في قوله: «له» على طريق الالتفات (فَوَزَنَ لِي بِلَالٌ فَأَرْجَحَ) زاد أبو الوقت وأبو ذرٍّ(15) _عن الكُشْمِيْهَنِيِّ_: ”لي“ (فِي المِيزَانِ) وهو محمولٌ على إذنه(16) ╕ له في الإرجاح له؛ لأنَّ الوكيل لا يرجح إلَّا بالإذن (فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ) أي: أدبرت (فَقَالَ: ادْعُ لِي جَابِرًا) بصيغة المفرد، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: ”ادعوا“ بصيغة الجمع (قُلْتُ: الآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ) أي: من ردِّ الجمل (قَالَ) ╕ ، ولابن عساكر: ”فقال“ : (خُذْ جَمَلَكَ وَلَكَ ثَمَنُهُ).
          وهذا الحديث أخرجه المؤلِّف في نحو عشرين موضعًا [خ¦2309] [خ¦2718] [خ¦2861] تأتي _إن شاء الله تعالى، بعون الله‼ وقوَّته وبركة نبيِّه محمَّدٍ صلعم _ مع / مباحثها، وأخرجه مسلمٌ وأبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ بألفاظٍ مختلفةٍ وأسانيدَ متغايرةٍ.


[1] في (م): «الواحد»، وليس بصحيحٍ.
[2] في غير(د) و(س): «الأرجح».
[3] قوله: «خبر مبتدأ محذوفٍ، أو بدونه»: مثبتٌ من (د)، وفي (ب) و(س) بدلًا منه: «على تقدير: أنت جابر، وبلا تنوينٍ».
[4] في غير (د) و(س): «تضاحكها وتضاحكك»، وكلاهما مرويٌّ، ولعلَّ المثبت هو الأَولى بالسِّياق.
[5] في (ب) و(س): «باللَّعب».
[6] في (د): «سبع»، وكلاهما مرويٌّ.
[7] في (م): «لمسلمٍ».
[8] في غير (د): «والنُّون»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[9] زيد في (م): «السَّلام».
[10] زيد في (ص): «من».
[11] في (ب) و(س): «وأواقيُّ».
[12] «جاء»: ليس في (د).
[13] قوله: «في بعض الرِّوايات: وزادني قيراطًا» سقط من (ج) و(د) و(ل).
[14] «له»: مثبتٌ من (د).
[15] في غير (د): «أبو ذرٍّ والوقت»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[16] في (ج) و(د): «أمره».