الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب قص الشارب

          ░63▒ (باب: قَصِّ الشَّارب)
          قد تقدَّم في مبدأ كتاب اللِّباس أنَّ مقصود المصنِّف بهذا الكتاب ليس هو بيان اللِّباس خاصَّة، بل المقصود ذكر اللِّباس وما يناسبه مِنْ أبواب الزِّينة ونحوها، فكُنْ منه على ذُكْر.
          قالَ العلَّامةُ القَسْطَلَّانيُّ: ولمَّا فرغ المصنِّف مِنَ اللِّباس شرع يذكر ما له تعلُّق به مِنْ جهة الاشتراك في الزِّينة، وبدأ بالتَّراجم المتعلِّقة بالشُّعور وما أشبهها. انتهى.
          وهكذا في «الفتح» وزاد: وذكر ثانيًا التَّراجم المتعلِّقة بالتَّطيُّب، وثالثًا المتعلِّقة بتحسين الصُّورة، ورابعًا المتعلِّقة بالتَّصاوير لأنَّها قد تكون في الثبات(1) وختم بما يتعلَّق بالارتداف وتعلُّقه به خفيٌّ، وتعلُّقه بكتاب الأدب الَّذِي يليه ظاهرٌ، والله أعلم. انتهى مِنَ «الفتح».
          وفيه: وأصل القصِّ تتبُّع الأثر، وقيَّده ابن سِيدَهْ في «المحكم» باللَّيل، والقصُّ أيضًا: إيراد الخبر تامًّا على مَنْ لم يحضرْه، ويُطلق أيضًا على قطع شيءٍ مِنْ شيءٍ بآلة مخصوصة، والمراد به هنا قطع الشَّعَر النَّابت على الشَّفة العليا مِنْ غير استئصال. انتهى.
          قالَ القَسْطَلَّانيُّ: وعند النَّسَائيِّ بلفظ الحلق، لكنَّ أكثر الأحاديث بلفظ: القصِّ، وعند النَّسَائيِّ في رواية بلفظ تقصير الشَّارب، وفي حديث ابن عمر في الباب التالي: (وأحفوا الشَّوارب) وفي الباب الَّذِي بعده: (انْهَكُوا الشَّوَارِبَ) وفي مسلم: ((جزُّوا الشَّوارب)) وهي تدلُّ على أنَّ المطلوب المبالغةُ في الإزالة لأنَّ الإحفاء الإزالة والاستقصاء، والإنهاك: المبالغة في الإزالة، والجزُّ: قصُّ الشَّعر إلى أن يبلغ الجلد. انتهى مختصرًا.
          قالَ الحافظُ: قالَ النَّوويُّ: المختار في قصِّ الشَّارب أنَّه يقصُّه حَتَّى يبدو طرف الشَّفة ولا يحفُّه مِنْ أصله، وأمَّا رواية <أحفوا> فمعناها أزيلوا ما طال على الشَّفتين، قالَ ابنُ دقيقِ العيد: ما أدري هل نقله عن المذهب أو قاله اختيارًا منه بمذهب(2) مالك؟
          قالَ الحافظُ: صرَّح في «شرح المهذب» بأنَّ هذا مذهبُنا، وقالَ الطَّحاويُّ: لم أرَ عن الشَّافعيِّ في ذلك نصًّا، وأصحابه الَّذِين رأيناهم كالمُزَنيِّ والرَّبيع كانوا(3) يحفون، وما أظنُّهم أخذوا ذلك إلَّا عنه، وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإحفاء أفضل مِنَ التَّقصير، ونقلَ ابنُ القاسم عن مالكٍ أنَّ إحفاء الشَّارب مُثْلة، والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشَّارب حَتَّى يبدو طرف الشَّفة، وقال أشهب: سألت مالكًا عمَّن يُحْفي شاربه فقال: أرى أن يوجَع ضربًا، / وقال الأثرم: كان أحمد يُحفي إحفاءً شديدًا، ونصَّ على أنَّه أَولى(4) مِنَ القصِّ. انتهى.
          وأمَّا مذهب الحنفيَّة فقالَ الحافظُ: قالَ الطَّحاويُّ: الحلق مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمَّد. انتهى.
          وفي «الدُّرِّ المختار»: وفيه_أي «المجتبى»_: حلق الشَّارب بِدعة، وقيل: سنَّة. انتهى.
          قالَ ابنُ عابدين: قوله: وقيل: سُنَّة، مشى عليه في «الملتقى»، وعبارة «المجتبى» بعد ما رمز للطَّحاويِّ: حلقُه سُنَّة، ونسبَه إلى أبي حنيفة وصاحبيه. انتهى.
          قلت: كذا نقل بعض العلماء عن الإمام الطَّحاويِّ أنَّه قال: الحلق مذهبُ الحنفيَّة، وأصل عبارة الطَّحاويِّ في «معاني الآثار»: قصُّ الشَّارب حَسنٌ وإحفاؤه أحسنُ وأفضل، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمَّد. انتهى.
          وقال [الطَّحطاويُّ: قال] الطَّحاويُّ: يُستحبُّ إحفاء الشَّوارب ونراه أفضلَ مِنْ قصِّها، وفي «شرح شِرْعة الإسلام»: قال الإمام: الإحفاء قريب مِنَ الحَلْق، وأمَّا الحَلْق فلم يردْ بل كرهه بعضُ العلماء، ورآه بدعةً. انتهى.
          فالظَّاهر أنَّ في نسبة الحلق إلى الطَّحاويِّ مسامحة.
          وأمَّا الجمع بين تلك الرِّوايات المختلفة ففي «فتح الملهم»: قلت: في «القاموس»: قصُّ الشَّعر والظُّفر: قطعُ شيءٍ منهما بالمِقصِّ، أي: المِقْراض. انتهى.
          وهذا لا ينافي [في] الإحفاء فإنَّ القصَّ إذا بولغ فيه ينتهي إلى الإحفاء كما ذكره ابن الهمام في «فتح القدير»، والإحفاء الشَّديد قريبٌ مِنَ الحلق، فيُطلق عليه الحلق مبالغة، كما ذكره الزُّبيديُّ في «شرح الإحياء»، وعلى هذا لا تتضادُّ الرِّوايات، ويمكن أن يُحمل حديث القصِّ على أدنى ما تحصل به السُّنَّة ومخالفة المجوس وغيرهم، وحديث الإحفاء على أفضل مراتب السُّنَّة وأكملها، ويُراد بالحلق الوارد في رواية النَّسَائيِّ الإحفاءُ الشَّديد كما ذكرنا، والله تعالى أعلم. انتهى.
          وكتبَ الشَّيخُ قُدِّس سِرُّه في «الكوكب»: في إحفاء الشَّوارب أقوال: حلقُها أو قصُّها قليلًا بحيث تظهر أطراف الشَّفة العليا فحسب، وقيل: بل قصُّها بالمبالغة، ولعلَّ هذا القول الثَّالث أصحُّ، فإنَّه يجمع العمل بالرِّوايتين معًا، أي: رواية القصِّ ورواية الإحفاء. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((الثياب)).
[2] في (المطبوع): ((لمذهب)).
[3] قوله: ((كانوا)) ليس في (المطبوع).
[4] قوله: ((أولى)) ليس في (المطبوع).