الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة

          ░29▒ (باب: ما يُرَخَّصُ للرِّجَال مِنَ الحَرِير للحِكَّة)
          بكسر المهملة وتشديد الكاف: نوع مِنَ الجَرَب، أعاذنا الله تعالى منه.
          وذكر الحِكَّة مثالًا لا قيدًا، وقد ترجم له في الجهاد: (الحرير للجرب) وتقدَّم أنَّ الرَّاجح أنَّه بالمهملة وسكون الرَّاء، وقال في شرح الحديث: قالَ الطَّبَريُّ: فيه دلالة على أنَّ النَّهي عن لُبسِ الحرير لا يدخل فيه مَنْ كانت به علَّة يخفِّفها لُبْسُ الحرير. انتهى.
          ويلتحق بذلك ما بقي مِنَ الحرِّ أو البرد حيث لا يوجد غيرُه، وقد تقدَّم في الجهاد أنَّ بعض الشَّافعيَّة خصَّ الجواز بالسَّفر دون الحضر، واختاره ابن الصَّلاح، وخصَّه النَّوويُّ في «الرَّوضة» مع ذلك بالحكَّة، ونقله الرَّافعيُّ في القمل أيضًا. انتهى.
          وقالَ النَّوويُّ في «شرح مسلم» تحتَ حديثِ الباب: وهذا الحديث صريح في الدِّلالة لمذهب الشَّافعيِّ وموافقيه أنَّه يجوز لُبسُ الحرير للرَّجل إذا كانت به حكَّةٌ لِما فيه مِنَ البرودة، وكذلك القمل(1) وما في معنى ذلك، وقالَ مالكٌ: لا يجوز، وهذا الحديث حجَّة عليه، وفي هذا الحديث دليلٌ لجواز لُبْسِ الحرير عند الضَّرورة، كمن فاجأته الحرب، ولمن خاف مِنْ حرٍّ أو برد أو نحوها ولم يجد غيره، ثمَّ الصَّحيح عند أصحابنا والَّذِي قطع به جماهيرُهم أنَّه يجوز لبسُ الحرير للحكَّة ونحوها في السَّفر والحضر جميعًا، وقال بعض أصحابنا: يختصُّ بالسَّفر وهو ضعيف. انتهى.
          وقالَ ابنُ قدامة في «المغني»: فإنْ لبس الحرير للقمل أو الحكَّة أو مرضٍ ينفعه لُبسُ الحرير جاز في إحدى الرِّوايتين، ثمَّ ذكر حديث الباب، وقال: وما ثبت في حقِّ صحابيٍّ ثبت في حقِّ غيره ما لم يقم دليلُ التَّخصيص، والرِّواية الأخرى: لا يباح لُبسه للمرض لاحتمال أن تكون الرُّخصة خاصَّة لهما، وهو قول مالكٍ، والأوَّل أصحُّ إن شاء الله، والتَّخصيص على خلاف الأصل. انتهى.
          ولم أجد الكلام على هذه المسألة مشبعًا في فروع الحنفيَّة، وفي «البحر» وفي «التَّترخانيَّة(2)»: وإنَّما يُكره اللُّبس إذا لم تقع الحاجة في لُبسٍ، فلو كان به جرب أو حكَّة كثيرًا ولا يجد غيره لا يُكرَه لُبْسُه. انتهى.
          وهكذا حكى ابنُ عابدين عن «التَّترخانيَّة(3)» بزيادة حديث الباب في الاستدلال، ثمَّ قال: أقول: لكنْ صرَّح الزَّيْلَعيُّ قُبيل الفصل الآتي أنَّه ╕ رَخَّصَ ذَلِك خُصُوصِيَّةً لهُمَا، تأمَّل. انتهى.
          قلت: وكذا حمل حديث الباب على الخصوصيَّة أبو بكر الجَصَّاص في «أحكام القرآن» / تحت قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النِّساء:43]، فإنَّه ذكر في تفسير هذه الآية ما ورد مِنْ خصوصيَّة عليٍّ ☺ في جواز المرور له في المسجد جُنُبًا وغير ذلك مِنَ الخصوصيَّات الواردة في حقِّ بعض الصَّحابة، وعدَّ مِنْ جملتها خصوصيَّة الزُّبير بإباحة لُبْسِ الحرير، وذكر شيخنا في «البذل» تحتَ حديثِ الباب: عن «تقرير شيخ شيوخنا الكَنكَوهيِّ»: قوله: (مِنْ حكَّة) وقد تعيَّن العلاج به هاهنا لضرورة كونهم على السَّفر، ولا شيء ثمَّة يداوي به، فما أبيح للضَّرورة لا يتعدَّاها ويتقدَّر بقدرها. انتهى.
          وهذا ما يتعلَّق بمسألة الباب، وأمَّا ما يتعلَّق بصنيع المصنِّف مِنْ دقائق التَّرجمة فقوله: (للحكَّة) فلعلَّه أشار به إلى ترجيحها في علَّة الجواز، فلا يختصُّ الرُّخصة بالسَّفر.
          قالَ القَسْطَلَّانيُّ: قال السُّبْكيُّ: الرِّوايات في الرُّخصة لعبد الرحمن والزُّبير يظهر أنَّها مرَّة واحدة اجتمع عليهما الحكَّة والقمل في السَّفر، وكأنَّ الحكَّة نشأت عن أثر القمل، وحينئذٍ فقد يقال: المقتضى للتَّرخيص إنَّما هو اجتماع الثَّلاثة، وليس أحدها بمنزلتها، فينبغي اختصار(4) الرُّخصة على مجموعها... إلى آخر ما ذكر.
          وعندي أيضًا لفظ التَّرجمة يشير إلى أنَّ الحكم الوارد في حديث الباب ليس بخصيصة للزُّبير كما قاله الحنفيَّة، بل هو رخصة عامَّة لجميع الرِّجال لأجل الحكَّة.


[1] في (المطبوع): ((للقمل)).
[2] في (المطبوع): ((التتار خانية)).
[3] في (المطبوع): ((التتار خانية)).
[4] في (المطبوع): ((اقتصار)).