الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب الثوب المزعفر

          ░34▒ (باب: الثَّوب المُزَعْفَر)
          قالَ الحافظُ في شرح الحديث: وقد أُخذ مِنَ التَّقييد بالمُحْرِم جوازُ لبس الثَّوب المزعفَر للحَلال، قالَ ابنُ بطَّالٍ: أجاز مالكٌ وجماعةٌ لباسَ الثَّوب المزعفَر للحلال، وقالوا: إنَّما وقع النَّهي عنه للمحرِم خاصَّة، وحمله الشَّافعيُّ والكوفيُّون على المُحْرِم وغير المُحْرِم، وحديث ابن عمر الآتي في (باب: النِّعال السِّبْتيَّة) يدلُّ على الجواز، فإنَّ فيه (أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يصبغ بالصُّفرة) قال المهلَّب: الصُّفرة أبهجُ الألوان إلى النَّفس، وقد أشار إلى ذلك ابنُ عبَّاسٍ في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69]، انتهى.
          وأخرج مالك في «الموطَّأ»: عن نافع ((أنَّ عبد الله بن عمر كان يلبس الثَّوب المصبوغ بالزَّعفران)).
          وفي «الأوجز» : قالَ الباجيُّ: أمَّا المصبوغ بالزَّعفران فذهب ابن عمر إلى إباحة ذلك، وبه قالَ مالكٌ وأكثر فقهاء المدينة... إلى آخر ما ذكر، وفي «المحلَّى»: روى الشَّيخان عن أنس: ((أنَّه صلعم نهى أن يتزعفرَ الرَّجلُ)) وبه قال أبو حنيفة والشَّافعيُّ والجمهورُ: إنَّه يُكره تحريمًا لُبسُ الثَّوب المزعفر، قالَ ابنُ الهمام: وإنَّما عملوا بالنَّهي مع معارضة أخبار الإباحة تقديمًا للمُحرِّم على المُبِيح. انتهى مِنَ «الأوجز».
          وأمَّا حكمُ الثَّوب المعصفَر وإن لم يتعرَّض له البخاريُّ فنحن نذكره تتميمًا للفائدة وتكميلًا لها، فقد أخرج مسلم في «صحيحه»: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((رأى رسول الله صلعم عليَّ ثوبين معصفرين فقال: إنَّ هذه مِنْ ثياب الكفَّار فلا تلبسها)) وفي رواية فقال: ((أأمُّكَ أمَرَتْك بهذا؟ قلت: أغسلهما؟ قال: بل أحرقهما)).
          قالَ النَّوويُّ: اختلف العلماء في الثِّياب المعصفرة وهي المصبوغة بعصفر، فأباحها جمهور العلماء مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعين ومَنْ بعدَهم، وبه قالَ الشَّافعيُّ وأبو حنيفةَ ومالكٌ، لكنَّه قال: غيرُها أفضلُ منها، وفي رواية عنه أنَّه أجاز لبسها في البيوت وأفنية الدُّور، وكرهه في المحافل والأسواق ونحوها، وقال جماعة مِنَ العلماء: هو مكروه كراهةَ تنزيهٍ، وحملوا النَّهي على هذا، لأنَّه ثبت أنَّ النَّبيَّ صلعم لَبس حلَّةً حمراءَ، وفي «الصَّحيحين» عن ابن عمر قال: ((رأيت النَّبيَّ صلعم يصبغ بالصُّفرة)) وقالَ الخطَّابيُّ: النَّهي منصرف إلى ما صُبغ بعد النَّسج، فأمَّا ما صُبغ غَزْلُه ثمَّ نُسِجَ فليس بداخل في النَّهي، وحمل بعض العلماء النَّهي [هنا] على المحْرم بالحجِّ والعمرة(1) ثمَّ ذكر النَّوويُّ عن الإمام البَيْهقيِّ ما تقدَّم في الباب السَّابق، وحاصله ترجيحُ تحريمِ المعصفر للأحاديث الواردة فيه.
          قلت: وما حكى النَّوويُّ مِنْ مذهب أبي حنيفة إباحةَ المعصفر ليس بصحيح، ففي «الدُّرِّ المختار»: كُره لُبسُ المعصفر والمزعفر للرِّجال. انتهى.
          قال صاحب «المحلَّى»: حكاية الإباحة عن أبي حنيفة لا توجد في كتب المذهب، كذا في «الأوجز»، وذكر الزَّرقانيُّ عن مالكٍ فيه عدَّة رواياتٍ، كما في «الأوجز»، منها ما تقدَّم في كلام النَّوويِّ، وعنه الجواز مطلقًا، وعنه الكراهة مطلقًا وهي المشهورة، ففي «المدوَّنة»: كره مالكٌ الثَّوب المعصفر المُفْدَم للرِّجال في غير الإحرام، والْمُفْدَم_بضمِّ الميم وسكون الفاء وفتح الدَّال المهملة_: القويُّ الصَّبْغِ الَّذِي رُدَّ في العُصْفُر مرَّةً بعد أخرى، قال في «التَّوضيح»: أمَّا المعصفَر غير المفْدَم والمزعفر فيجوز لبسُها في غير الإحرام، نصَّ على الأول في «المدوَّنة» وعلى الثَّاني في غيرها. انتهى.
          وضبط الحافظ المفدَّم بتشديد الدَّال، كذا في «الأوجز»، وكذا يُكره لبسُ المزعفَر والمعصفَر عند الحنابلة كما في «المغني».
          فحاصلُ الخلاف في لبس المعصفر والمزعفر أنَّ المزعفر يُكره لبسُه للرَّجل عند الجمهور، منهم الأئمَّة الثَّلاثة خلافًا لمالكٍ فإنَّه أباحه، وأمَّا المعصفر فكالمزعفر ويكره(2) عندنا الحنفيَّة والحنابلة، وأباحه الشَّافعيُّ خلافًا للبَيْهَقيِّ فإنَّه رجَّح الكراهة، واختلفت الرِّوايات فيه عن مالك، والمشهور عندهم كراهة المعصفر المفدم وإباحة غيره. /


[1] في (المطبوع): ((أو العمرة)).
[2] في (المطبوع): ((يكره)) بلا واو.