التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب صوم يوم الجمعة

          ░63▒ بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ
          فَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ، يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَهُ.
          ذَكَرَ فِيْهِ ثلاثةَ أحاديثَ:
          1984- أَحَدُهَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبَّادٍ سَأَلْتُ جَابِرًا: (أَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ). زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ: أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمِهِ.
          1985- ثَانِيْهَا: حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ).
          1986- ثَالِثُهَا: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ، وحَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: فَأَفْطِرِي). وقَالَ حَمَّادُ بنُ الجَعْدِ: سَمِعَ قَتَادَةَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَتْهُ: فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ. /
          الشَّرْحُ: حديثُ جابرٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ إِلَى قولِه: ((وَرَبِّ هَذَا البَيْتِ)). و(غيرُ أَبِي عَاصِمٍ) هُوَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ كَمَا بَيَّنَه النَّسَائِيُّ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بنُ عَبَّادِ بنِ جَعْفَرٍ قُلْتُ لِجَابِرٍ: ((أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى عَنْ أَنْ يَنْفَرِدَ يَوْمُ الجُمُعَةِ بِصَوْمٍ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ الكَعْبَةِ))، وكَذَا قَالَ البَيْهَقِيُّ.
          قولُه: (زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ) ذَكَرَهَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، إلَّا أنَّه قَصَّرَ بِإِسْنَادِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيْهِ عبدَ الحَمِيدِ بنَ جُبَيْرٍ. ورَوَاهُ الإسماعيليُّ عَنِ القَاسِمِ بنِ زَكَرِيَّا عَنْ عَمْرِو بنِ عليٍّ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ وأَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدٍ... الحديثَ. ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَ البُخَارِيُّ حديثَ أَبِي عَاصِمٍ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ عَنِ ابنِ عَبَّادٍ. وقَدْ رُوِّيْنَا مِنْ حَدِيْثِ أَبِي عَاصِمٍ أَيْضًا كَمَا قَالَ يَحْيَى وتَابَعَهُ فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ وحَفْصُ بنُ غِيَاثٍ أَيْضًا، وكَذَا رَوَاهُ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ النَّضْرُ بنُ شُمَيْل وحَجَّاجٌ عندَ النَّسَائِيِّ، ورَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بنُ مُبَشِّرٍ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بنَ عبَّادٍ _يعني فِيْمَا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ_ قَالَ: وليسَ أَبُو سَعِيدٍ كهَؤُلَاءِ.
          قُلْتُ: وفِيْهِ حَمْلٌ مِنْهُ عَلَى البُخَارِيِّ وليسَ بجيِدٍ؛ لأنَّ ابنَ جُرَيْجٍ رَوَاهُ عَنْهُ _كما رَوَاهُ البُخَارِيُّ_ الجَمُّ الغفيرُ، منهم مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّةَ فِي «سُنَنِهِ» عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ وهُوَ مِنْ أثبتِ النَّاسِ فِيْهِ، فقَالَ: ذَكَرَ ابنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عبدُ الحَمِيدِ بنُ جُبَيْرٍ أنَّه أَخبَرَه مُحَمَّدُ بنُ عَبَّادٍ بِهِ، وكَذَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي «مُسْنَدِهِ» عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، ورَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ أَبُو مُوْسَى مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى كَمَا سَاقَهُ ابنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كتابِ «الصِّيَام»، ورَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ بِهِ، ورَوَاهُ عليُّ بنُ المُفَضَّلِ المَقْدِسِيُّ مِنْ حديثِ إِبْرَاهِيْمَ بنِ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنَا أَبُو عاصمٍ.
          وحديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والأَرْبَعَةُ، وفي روايةٍ لمُسْلِمٍ: ((لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، ولَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُوْنَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ))، وفي روايةٍ للحاكمِ: ((يَوْمُ الجُمُعَةِ عِيْدٌ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيْدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ))، ولِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوْعًا: ((يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ لَا تَخْتَصَّ الجُمُعَة بِصِيَامٍ دُونَ الأَيَّامِ)) الحديثَ.
          وحديثُ جُوَيْرِيَةَ مِنْ أَفْرَادِهِ، ومُحَمَّدٌ شيخُ البُخَارِيِّ، ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ فِي «مُسْتَخْرَجِهِ» والإسماعيليُّ: أنَّه ابنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ، قَالَ الجَيَّانِيُّ: لم يَنْسُبْهُ أَحَدٌ مِنْ شُيُوخِنا فِي شيءٍ مِنَ المَوَاضِعِ، ولَعَلَّه مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، وإنْ كَانَ مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى يَرْوِي أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ، زَادَ أَبُو نَصْرٍ: ومُحَمَّدُ بنُ الوَلِيْدِ البُسْرِيُّ أَيْضًا رَوَى عَنْ غُنْدَرٍ فِي «الجَامِعِ الصَّحِيحِ».
          وقَالَ عَلِيُّ بنُ المُفَضَّلِ: الأقربُ أنَّه بُنْدَارٌ، وأَبُو أيُّوبَ اسمُهُ يَحْيَى بنُ مَالِكٍ، ويُقَالُ: حَبِيْبُ بنُ مَالِكٍ العَتَكِيُّ المَرَاغِيُّ ثِقَةٌ، وحَمَّادُ بنُ الجَعْدِ _ويُقَالُ: ابنُ أَبِي الجَعْدِ_ ضَعَّفُوْهُ، وقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَا بحديثِه بأسٌ، وذَكَرَه عبدُ الغَنِيِّ فِي «الكَمَالِ» وقَالَ: استَشْهَدَ بِهِ البُخَارِيُّ بحديثٍ واحدٍ مُتَابَعَةً، ولَمْ يَذْكُرْ أنَّ غَيْرَهُ أَخْرَجَ لَهُ، وأَسْقَطَهُ فِي «الكَاشِفِ»، وفي «النَّسَائِيِّ» مِنْ حَدِيْثِ ابنِ المُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم دَخَلَ عَلَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ...)) الحديثَ.
          وفي «مسندِ أحمدَ» عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا: ((لَا تَصُومُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَحْدَهُ))، ومِنْ حديثِ جُنَادَةَ أَيْضًا.
          وفي «التِّرْمِذِيِّ» مُحَسَّنًا مِنْ حَدِيْثِ ابنِ مَسْعُوْدٍ: قَلَّمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يُفْطِرُ يومَ الجُمُعَةِ، وقَالَ أَبُو عُمَرَ: حديثٌ صحيحٌ، وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ فَلَمْ يَرْفَعْهُ فهِيَ عِلَّةٌ فِيْهِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَرَوَى ابنُ عُمَرَ أَيْضًا أنَّه قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم مُفْطِرًا يَوْمَ جُمُعَةٍ قَطُّ، رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيْثِ لَيْثٍ عَنْ عُمَيْرِ بنِ أبي عُمَيْرٍ عَنْهُ، قُلْتُ: ليثٌ ضعيفٌ.
          وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه كَانَ يَصُومُ يومَ الجُمُعَةِ ويُوَاظِبُ عَلَيْهِ، ورَوَاهُ ابنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا مَرْفُوْعًا أنَّه لم يَرَ رَسُوْلَ اللهِ صلعم أَفْطَرَ يومَ جُمُعَةٍ قَطُّ، رَوَاهُ ابنُ شَاهِينٍ مِنْ حَدِيْثِ ليثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ، ومِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَشْجَعَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا: ((مَنْ صَامَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَعْطَاهُ اللهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الآخِرَةِ غُرًّا لَا يُشَاكِلُهُنَّ أَيَّامُ الدُّنْيَا).
          وفي «الموضوعاتِ» للنَّقَّاشِ: ((مَنْ صَامَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَمَنْ صَامَ يَوْمَ السَّبْت حَرَّمَ اللهُ لَحْمَهُ عَلَى النَّارِ))، قَالَ ابنُ شاهينٍ: الأحاديثُ المُصَرِّحَةُ بفضلِ صَومِه طريقُها فيهِ اضطرابٌ، ولَا تَدْفَعُ فضلَ صَومِه، وأمَّا صَومُه ◙ فيَجُوزُ أَنْ يَكُوْنَ كَمَا أَمَرَ لغيرِه، ويَجُوزُ أَنْ يَكُوْنَ هُوَ لَهُ دُونَ غيرِه، كَمَا كَانَ يأمرُ بالإفطارِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، ويَصُومُ هُوَ شَعْبَانَ كلَّه، قَالَ: والحديثُ الأوَّلُ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّدٍ بصِيَامِه، فَإِذَا انضَافَ إِلَيْهِ يومٌ قبلَه أو بعدَه خَرَجَ عَنِ النَّهْيِ ولَا يكونُ طَرِيقُهُ النَّسْخَ.
          إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فاختَلَفَ العُلَمَاءُ فِي صَومِ يومِ الجمعةِ، فنَهَتْ طائفةٌ عَنْ صَومِه إلَّا أنْ يُصَامَ قبلَه أو بعدَه عَلَى مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الأحاديثِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وسَلْمَانَ، وعَلَّلَهُ عليٌّ وأَبُو ذَرٍّ بأنَّه يومُ عيدٍ وطَعَامٍ وشَرَابٍ فلا يَنبَغِي صِيَامُه، وقَدْ أسلفْنا روايةَ الحَاكِمِ فِيْهِ، وهُوَ قَوْلُ ابنِ سِيرِينَ والزُّهْرِيِّ، وبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ.
          ومنهم مَنْ قَالَ: لِيُفْطِرْ لِيَقْوَى عَلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ اليومِ والدُّعَاءِ والذِّكْرِ بعدَها، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} الآية [الجمعة:10]. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّخَعِيِّ كَمَا قَالَ ابنُ عُمَرَ: لَا يُصَامُ يومُ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ مِنْ أَجْلِ الدُّعَاءِ، ومنهم مَنْ قَالَ: الحِكْمَةُ فِيْهِ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ، وهُوَ منقوضٌ بالصَّومِ المُرَتَّبِ كَعَرَفَةَ وغيرِها، ومنهم مَنْ قَالَ: إنَّه أفضلُ الأيَّامِ، فَخُشِيَ افتراضُه كقِيامِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلعم صَامَهُ عُمَرُ، ومنهم مَنْ قَالَ: لِئَلَّا يَلْتَزِمَ النَّاسُ مِنْ تعظيمِه مَا التَزَمَتِ اليَهُودُ فِي السَّبْتِ، وفِيْهِ نظرٌ لأنَّ فِيْهِ وَظَائِفَ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا، وعَبَّرَ بعضُهم عَنْهُ بأنَّه يومٌ يَجِبُ صَوْمُهُ عَلَى النَّصَارَى، ففي صَومِهِ تشبيهٌ لهم.
          وقَالَ الطَّحَاوِيُّ _بعدَ أنْ رَوَى حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((إِنَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ عِيدُكُمْ))_: كُرِهَ أنْ يُقْصَدَ إِلَى يومٍ بعينِه بِصَوْمٍ لِلتَّفْرِقَةِ بينَه وبينَ شَهْرِ رَمَضَانَ وسَائِرِ الأيَّامِ؛ لأنَّ فريضةَ اللهِ فِي رَمَضَانَ بعينِه، وليسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الأَيَّامِ.
          والمُعْتَمَدُ الأوَّلُ أنَّ معناهُ التَّقَوِّي عَلَى وَظَائِفِهِ، وإِنَّمَا زَالَتِ الكراهةُ بصومِ يومٍ مَعَهُ لِجَبْرِ مَا قَدْ يَحْصُلُ مِنْ فُتُورٍ أو تَقْصِيْرٍ فِي وَظَائِفِ الجُمُعَةِ بسَبَبِ صَوْمِهِ، ولِلشَّافِعِيِّ / قولٌ: أنَّه لَا يُكْرَهُ إلَّا لِمَنْ كَانَ إِذَا صَامَه مَنَعَهُ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي لو كَانَ مًفْطِرًا لَفَعَلَهَا، رَوَاهُ المُزَنِيُّ فِي «جَامِعِهِ الكَبِيْرِ»، وفِي لَفْظٍ: لَا يَتَبَيَّنُ لي أنَّه نَهَى عَنْ صَومِهِ إلَّا عَلَى الاختيارِ.
          قَالَ ابنُ الصَّبَّاغِ: وحَمَلَ الشَّافِعِيُّ أحاديثَ النَّهْيِ عَلَى مَنْ كَانَ الصَّوْمُ يُضْعِفُهُ ويَمْنَعُهُ مِنَ الطَّاعةِ، وقَالَ صاحبُ «البَيَانِ» مِنْ أَصْحَابِنَا: فِي كَرَاهَةِ إفرادِه بالصَّومِ وجهانِ: المَنْصُوصُ الجَوَازُ، وقَالَ المَاوَرْدِيُّ: مذهبُ الشَّافِعِيِّ أنَّ مَعنَى نَهْي الصَّوْمِ فِيْهِ أنَّه يُضْعِفُ عَنْ حُضُورِ الجُمُعَةِ والدُّعَاءِ فِيْهَا، فكلُّ مَنْ أَضْعَفَهُ الصَّومُ عَنْ حضُورِها كَانَ مكروهًا وإِلَّا فَلَا بَأْسَ بِهِ.
          قَدْ دَاوَمَ رَسُولُ اللهِ صلعم عَلَى صَومِ شَعْبَانَ، ومعلومٌ أنَّ فِيْهِ جُمُعَاتٍ كَانَ يَصُومُهَا وكَذَلِكَ رَمَضَانُ، فعُلِمَ أنَّ مَعنَى نَهْي الصَّومِ فِيْهِ مَا ذَكَرنَاهُ.
          وقَالَ الغَزَالِيُّ فِي «الإِحيَاءِ»: يُسْتَحَبُّ الصَّومُ فِي الأيَّامِ الفاضلةِ فِي الأسبوعِ، ثُمَّ ذَكَرَ الاثنينَ والخَمِيسَ والجُمُعَةَ، فلَعَلَّهُ أَرَادَ الجُمُعَةَ مَعَ الخَمِيسِ.
          ولو أَرَادَ اعتِكَافَ يومِ الجمعةِ فهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ صَومُه ليصحَّ اعتكافُه بالإجماعِ، أو يُكْرَهُ لِكَوْنِهِ أَفْرَدَهُ بالصَّومِ؟ فِيْهِ احتمالانِ، ويُستَثنَى عندَنا مِنَ النَّهْيِ مَا إِذَا وَافَقَ عادةً لَهُ بأنْ نَذَرَ صَوْمَ يومِ شِفَاءِ مَرِيضِهِ أو قُدُومِ زَيْدٍ أَبَدًا فوَافَقَ الجمعةَ، صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ المُهَذَّبِ»، وأَجَازَتْ طائفةٌ صِيَامَه، رُوِيَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه كَانَ يَصُومُهُ ويُوَاظِبُ عَلَيْهِ.
          قَالَ مَالِكٌ فِي «المُوَطَّأِ»: لم أَسمَعْ أحدًا مِنْ أهلِ العلمِ ومَنْ يُقتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْهُ، وصِيَامُهُ حَسَنٌ، ورَأَيْتُ بعضَ أهلِ العلمِ يَصُومُه وأُرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ، قيلَ: إنَّه مُحَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأحاديثُ النَّهْيِ أصحُّ، ثُمَّ قَالَ: وأكثرُ الفُقَهَاءِ عَلَى الأَخْذِ بأحاديثِ الإباحةِ لأنَّ الصَّومَ عَمَلُ برٍّ فَوَجَبَ ألَّا يُمْنَعَ مِنْهُ إلَّا بدليلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ.
          قُلْتُ: وأيُّ دليلٍ أَقوَى مِنَ الأحاديثِ الصَّحِيحَةِ السَّالِفَةِ والمُعَارِضُ لم يَصِحَّ أو مُؤَوَّلٌ؟!
          وَرَوَى ابنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أنَّه كَرِهَ أن يَجْعَلَ عَلَى نفسِه صَومَ يومٍ مُؤَقَّتٍ، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: عَنْ بعضِهم: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُوْنَ هَذِهِ روايةَ مالكٍ فِي منعِ صومِ يومِ الجمعةِ، وأَنْصَفَ الدَّاوُدِيُّ فقَالَ: لم يَبْلُغْ مالكًا الحديثُ بالمنعِ ولو بَلَغَهُ لم يُخَالِفْهُ، قَالَ: ولَا يُبَالِي صِيَامَ الَّذِي يليهِ قبلَه أو بعدَه؛ لأنَّ مَنْ صَامَ يَوْمًا سِوَاهُ فقَدْ صَامَ قبلَه أو بعدَه؛ لِأَنَّهُ لم يَقُلِ اليومَ الَّذِي يليهِ. قَالَ: وحَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ يَدُلُّ أنَّ قبلَه يومُ الخميسِ وبعدَه يومُ السَّبتِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا: (أَصُمْتِ أَمْسِ؟) قَالَتْ: لَا. قَالَ: (أَفَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟) قَالَتْ: لَا، ولَمْ يسألْها هَلْ صَامَتْ قَبْلَ أَمْسِ؟ ولَا هَلْ تَصُومِينَ بعدَ بعدَ غَدٍ؟ وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: وَرَدَ فِي صَوْمِهِ أحاديثُ مُتَّفِقَةُ المَعْنَى: حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وجُوَيْرِيَةَ، وطريقُ أَبِي هُرَيْرَةَ الآخَرُ يَعْنِي: عندَ مُسْلِمٍ، وهِيَ أحاديثُ صحيحةٌ والتَّعَلُّقُ بِهَا وَاجِبٌ.
          فَائِدَةٌ: حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي سُقنَاهُ عَنْ مُسْلِمٍ احْتَجَّ بِهِ جماعةٌ مِنَ العُلَمَاءِ عَلَى كَراهَةِ الرَّغَائِبِ الَّتِي هِيَ ليلةُ أوَّلِ الجُمُعَةِ فِي رَجَبٍ، وصَلَاةِ نِصْفِ شَعْبَانَ.