التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي لمن ظلل عليه واشتد الحر

          ░36▒ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الحَرُّ: (لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ).
          1946- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ). هَذَا الحديثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بلفظِ: ((لَيْسَ البِرَّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ))، قَالَ شُعْبَةُ: وكَانَ يَبْلُغُني عَنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثِيْرٍ أنَّه كَانَ يزيدُ فِي هَذَا الحديثِ أنَّه قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ))، قَالَ: فَلَمَّا سَأَلْتُهُ لم يَحْفَظْهُ، ورَوَاهُ الوليدُ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ ثَوْبَانَ عَنْ جَابِرٍ: مرَّ برَجُلٍ فِي سَفَرٍ فِي ظِلِّ شجرةٍ فَرُشَّ عَلَيْهِ الماءُ، فَسَأَلَ فقَالُوا: صَائِمٌ يَا رَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: ((لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ، عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي أَرْخَصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا))، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ فِي «عِلَلِهِ»: هَذَا خَطَأٌ، إنَّما هُوَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحمَنِ بنِ أَسْعَدَ بنِ زُرَارَةَ عَنْ جَابِرٍ.
          قُلْتُ: ولَهُ طريقانِ آخرانِ أحدُهما مِنْ طريقِ كَعْبِ بنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ مَرْفُوْعًا: ((لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ))، أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ بإسنادٍ صحيحٍ، ولِلْبَيْهَقِيِّ: ((لَيْسَ مِنَ امْ بِرِّ، امْ صِيَامُ، فِي امْ سَفَرِ)) وَهِيَ لغةٌ لبعضِهم يُبْدِلُونَ اللَّامَ ميمًا فِيْمَا ذَكَرَه أَبُو القَاسِمِ البَغَوِيُّ وغيرُه.
          ثانيهِما: مِنْ طريقِ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا: ((لَيْسَ مِنَ البِرِّ...)) الحديثَ، أَخْرَجَهُ ابنُ مَاجَهْ، وقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مُنْكَرٌ.
          وقولُه: (لَيْسَ مِنَ البِرِّ) (مِنَ) هُنَا يُرَادُ بها تأكيدُ النَّفيِ، وأبعدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أنَّها للتَّبعِيضِ. إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فإنِ احتَجَّ ظاهريٌّ أو نَخَعِيٌّ بِهِ، وقَاَل: مَا لم يكنْ مِنَ البِرِّ فَهُوَ مِنَ الإثمِ فَدَلَّ أنَّ صيامَه لَا يُجْزِئُ فِي السَّفَرِ، فجوابُه أنَّ لَفْظَهُ خَرَجَ عَلَى شيءٍ مُعَيَّنٍ كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ، ومعناهُ: لَيْسَ البِرُّ أنْ يَبْلُغَ الإنسانُ بِنَفْسِهِ هَذَا المَبْلَغَ كَمَا أَسْلَفْنَاهُ، واللهُ قَدْ رَخَّصَ فِي الفِطْرِ، ويُصَحِّحُهُ صَوْمُ الشَّارعِ فِي شِدَّةِ الحَرِّ وحاشاهُ مِنَ الإثمِ، فالمعنى: لَيْسَ هَذَا أَبَرَ البِرِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يكونُ الإفطارُ أبرَّ مِنْهُ، إِذَا كانَ فِي حَجٍّ أو جِهَادٍ لِيَقْوَى عَلَيْهِ؛ وهذا لقولِهِ ◙: ((لَيْسَ المِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ))، ومعلومٌ أنَّ الطَّوَّافَ مِسْكينٌ، وأنَّه مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، وإِنَّمَا أَرَادَ المسكينَ الشَّدِيدَ المَسْكَنَةِ الَّذِي لَا يَسْأَلُ ولَا يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وقَالَ بعضُهم: معناهُ لَيْسَ مِنَ البِرِّ الوَاجِبِ، وإِنَّمَا يَحتاجُ إِلَى هَذَا مَنْ قَطَعَ الحديثَ عَنْ سَبَبِهِ وحَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ، وأمَّا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى القاعدةِ الشَّرْعَيَّةِ فِي رَفْعِ مَا لَا يُطاقُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وبأنَّ للمَرِيضِ المُقِيمِ ومَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ أَنْ يُفْطِرَ، فإنْ خَافَ مِنْ صَوْمِهِ مَحْذُورًا عَصَى بِصَوْمِهِ، وعَلَيْهِ يُحْمَلُ قولُهُ ◙: ((أُولَئِكَ العُصَاةُ))، وأمَّا مَنْ حَالُهُ غيرُ حَالِ المُظَلَّلِ عَلَيْهِ فحُكْمُهُ مَا سَلَفَ مِنَ التَّخْيِيرِ، وبهَذَا يَرْتَفِعُ التَّعَارُضُ وتَجتَمِعُ الأدلَّةُ ولَا تحتاجُ إِلَى ادِّعَاءِ نَسْخٍ إذ لَا تَعَارُضَ.
          وقَالَ القاضي أَبُو مُحَمَّدٍ: لفظُه يَحْتَمِلُ الفضيلةَ ويَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ شرطٌ فِي إجزاءِ الفعلِ فيتوقَّفَ إِلَى البيانِ، وقَدْ أسلَفْنَا أنَّه خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ والفِطْرُ رُخْصَةٌ فيَأْخُذُ مِنْهُ، ومِنْ أَشَدِّ مَا يُورِدُونَهُ حديثَ: ((الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالمُفْطِرِ فِي الحَضَرِ))، وقَدْ سَلَفَ ضَعْفُهُ، وقَالَ القاضي أَبُو مُحَمَّدٍ: هُوَ موقوفٌ عندَ أَهْلِ النَّقْلِ، وأَمَّا حَدِيْثُ: ((إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصِّيَامَ)) فالمُرَادُ: وَضْعُ الوُجُوبِ؛ بدليلِ بَقِيَّةِ الحديثِ: ((وَعَنِ الحَامِلِ وَالمُرْضِعِ)).
          فَائِدَةٌ: يجوزُ أَنْ يَكُوْنَ هَذَا المجهودُ هُوَ أَبُو إسرائيلَ، رَوَى الخَطِيبُ فِي «مُبْهَمَاتِهِ»: أنَّه ◙ رأى رَجُلًا يُهَادَى بينَ ابنيهِ، وقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَ عَنْهُ فقَالُوا: نَذَرَ أن يَمْشِيَ إِلَى بيتِ اللهِ الحرامِ، فقَالَ: ((إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ مُرُوهُ فَلْيَمْشِ وَلْيَرْكَبْ)). وفِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» مَا يُشْعِرُ بأنَّه غيرُه فإنَّ فِيْهِ أنَّه ◙ دَخَلَ المَسْجِدَ وأَبُو إسرائيلَ يُصَلِّي، فَقِيْلَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم: هُوَ ذَا يَا رَسُوْلَ اللهِ لَا يَقْعُدُ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَسْتَظِلُّ وَلَا يُفْطِرُ، فقَالَ: ((لِيَقْعُدْ وَلْيَتَكلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيُفْطِرْ)).