التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من زار قومًا فلم يفطر عندهم

          ░61▒ بَابُ مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ
          1982- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ أَنَسٍ: (دَخَلَ النَّبِيُّ صلعم عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، فَقَالَ: أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ المَكْتُوبَةِ...) الحديثَ، وَفِي آخِرِهِ: (وَقَالَ ابنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ سَمِعْتُ أَنَسًا: عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صلعم)، وفي بعضِ النُّسَخِ: <حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي مَرْيَمَ>، وهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ، وهُوَ مِن روايةِ الآبَاءِ عَنِ الأبناءِ فإنَّ فِيْهِ: وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ: أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ الحَجَّاجِ البَصْرَةَ بِضْعٌ وعِشْرُوْنَ ومئةٌ، وفِيْهِ تصنيفٌ للحافظِ أَبِي بَكْرٍ الخَطِيبِ، وفي روايةِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ عَنْ حُمَيْدٍ: ثلاثةٌ وعِشْرُوْنَ ومئةٌ، ذَكَرَهَا الخَطِيبُ فِي الكِتَابِ المذكورِ، وعِنْدَ ابنِ اللَّبَّادِ أنَّ المجتمعينَ مِنْ وَلَدِ أَنَسٍ ووَلَدِ وَلَدِه عِشْرُوْنَ ومئةٌ.
          وفِيْهِ: زيارةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صلعم لأمِّ سُلَيْمٍ؛ لأنَّها خَالَتُه مِنَ الرَّضَاعَةِ، كَذَا قَالَ ابنُ التِّيْنِ، وقَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: إِحْدَى خَالَاتِه مِنَ النَّسَبِ لأمِّ أمَّ عبدِ اللهِ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بنِ زَيْدِ بنِ أَسَدِ بن خِرَاشِ بنِ عَامِرِ بنِ غَنْمِ بنِ عَدِيِّ بنِ النَّجَّارِ، وأمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ بنِ خَالِدِ بنِ زَيْدِ بنِ حَرَامِ بنِ جُنْدَبِ بنِ عَامِرِ بنِ غَنْمٍ، وأنكرَه الدِّمْيَاطِيُّ وقَالَ: إنَّها خَؤُولَةٌ بعيدةٌ لَا تُثْبِتُ حُرمَةً ولَا تَمْنَعُ نِكَاحًا.
          وفي «الصَّحِيحِ»: أنَّه ◙ كَانَ لَا يدخلُ عَلَى أَحَدٍ مِن النِّسَاءِ إلَّا عَلَى أزواجِه، إلَّا عَلَى أمِّ سُلَيمٍ فَقِيْلَ لَهُ فِي ذلك، فقَالَ: ((أَرْحَمُهَا؛ قُتِلَ أَخُوهَا حَرَامٌ مَعِي)) فبَيَّنَ تخصيصَها بِذَلِكَ، فلو كَانَ ثَمَّ عِلَّةٌ أُخْرَى لَذَكَرَهَا؛ لأنَّ تأخيرَ البيانِ عَنْ وقتِ الحاجةِ غيرُ جائزٍ، وهَذِهِ العِلَّةُ مُشتَرَكَةٌ بينَها وبينَ أختِها أمِّ حَرَامٍ، وليسَ فِي الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الخَلْوةِ بِهَا، فلَعَلَّهُ كَانَ ذَلِكَ مَعَ ولدٍ أو خادمٍ أو زوجٍ أو تابعٍ، لكنَّ العِصْمَةَ قائمةٌ بِهِ فلا حاجةَ إِلَى ذَلِكَ، ولَا حاجةَ إِلَى دَعوَى أنَّ قَتْلَ حَرَامٍ كَانَ يومَ بئرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، ونُزُولَ الحِجَابِ سنةَ خَمْسٍ، فلَعَلَّ دُخُولَهُ عَلَيْهَا كَانَ قبلَ ذلكَ لِمَا قُلْنَاهُ.
          وفِيْهِ أَيْضًا: رُجُوعُ الطَّعَامِ إِلَى أهلِه إِذَا لم يَقْبَلْهُ مَنْ قُدِّمَ إِلَيْهِ إِذَا لم يكنْ فِي ذَلِكَ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى بَاذِلِهِ ومُهْدِيهِ، ولَا نَقِيصَةَ عَلَيْهِ، ولَا يَكُونُ عَوْدًا فِي الهِبَةِ.
          وقولُها: (إِنَّ لِي خُوَيِّصَةً) هُوَ بتشديدِ اليَاءِ تصغيرُ خَاصَّةٍ مثلُ دَابَّةٍ ودُوَيِّبَةٍ، وفِيْهِ حُجَّةٌ لمالكٍ والكُوفِيِّينَ أنَّ الصَّائِمَ المُتَطَوِّعَ لَا يَنبَغِي لَهُ أنْ يُفْطِرَ لغيرِ عُذْرٍ وَلَا سَبَبٍ يُوجِبُ الإفطارَ، وليسَ هَذَا الحديثُ بمُعَارِضٍ لإفطارِ أبي الدَّرْدَاءِ حينَ زَارَهُ سَلْمَانُ وامتَنَعَ مِنْهُ إنْ لم يأكلْ مَعَهُ، وهَذِهِ عِلَّةٌ لِلْفِطْرِ لأنَّ لِلضَّيْفِ حَقًّا كَمَا قَالَ ◙.
          وفِيْهِ: أنَّ الصَّائِمَ إِذَا دُعِي إِلَى طَعَامٍ فَلْيَدْعُ لأَهلِهِ بالبركةِ ويُؤْنِسْهُمْ بِذَلِكَ ويَسُرَّهُمْ، وفِيْهِ: الإخبارُ عَنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى الإنسانِ، والإعلامُ بِمَوَاهِبِهِ، وألَّا تُجْحَدَ نِعَمُهُ، وبِذَلِكَ أَمَرَ الجليلُ فِي كتابِهِ حَيْثُ قَالَ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضُّحى:11]، وفِيْهِ: أنَّ تصغيرَ اسمِ الرَّجُلِ _عَلَى معنى التَّعَطُّفِ لَهُ والتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ والمَوَدَّةِ لَهُ_ لَا يَنْقُصُهُ ولَا يَحُطُّهُ.
          وفِيْهِ: رَدُّ الهَدِيَّةِ كَمَا سَلَفَ ويُخَصُّ الطَّعَامُ مِنْ ذلكَ؛ أنَّه إِذَا لم يَعْلَمِ مِنَ النَّاسِ حَاجَةً فحِيْنَئِذٍ يَجْمُلُ رَدُّهُ، وإِذَا عَلِمَ منهم حَاجَةً فلَا يَرُدُّهُ، ويَبْذُلُهُ لأَهلِهِ كَمَا فَعَلَ ◙ بأمِّ سُلَيْمٍ فِي غيرِ هَذَا الحديثِ حينَ بَعَثَ هُوَ وأبو طَلْحَةَ أَنَسًا إليها؛ لتُعِدَّ الطَّعَامَ لِرَسُوْلِ اللهِ صلعم وأصحابِه.
          وفِيْهِ: التَّلَطُّفُ بِقَوْلِهِا: / (خَادِمُكَ أَنَسٌ)، وفِيْهِ: سُؤَالُ خيرِ الدُّنيَا والآخِرَةِ حَيْثُ قَالَ: (فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلَا دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ)، وفِيْهِ: الدُّعَاءُ بكثرةِ الوَلَدِ والمَالِ، وفِيْهِ: أنَّ المَالَ خيرٌ للمُرِيدِ الكَفَافَ، وفِيْهِ: التَّصغِيرُ بمعنى الاختصاصِ، وقَدْ سَلَفَ، وفِيْهِ: التَّأرِيخُ بولايةِ الأمراءِ لقولِه: (مَقْدَمَ الحَجَّاجِ البَصْرَةَ) وكَانَتْ ولايةُ الحَجَّاجِ سَنَةَ خمسٍ وسَبْعِيْنَ، ووُلِدَ لِأَنَسٍ بعدَ ذَلِكَ، وعَاشَ مِمَّنْ وُلِدَ لَهُ قبلَ قُدُومِه وبعدَه، ومَاتَ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ، وهُوَ آخِرُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بالبَصْرَةِ.
          وقولُه: (بِضْعٌ وَعِشْرُوْنَ وَمئةٌ)، قيلَ: البِضْعُ مَا بينَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ، وقِيْلَ: مَا بينَ الوَاحِدِ إِلَى التِّسْعِ، وقِيْلَ: مَا دُوْنَ الخَمْسَةِ، وقَدْ سَلَفَ ذلك، وقَولُ ابنِ اللَّبَّادِ: وظَاهِرُ مَا فِي «البُخَارِيِّ» (لصُلبِي) خِلَافُه.
          وقولُه: (مَقْدَمَ الحَجَّاجِ) تُرِيدُ إِلَى مَقْدَمِهِ، فكأنَّها عَدَّتْ مَنْ دُفِنَ قَبْلَ قُدُومِه، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ عَدَّ فِي «البُخَارِيِّ» مَنْ مَاتَ لَهُ قبلَ مَقْدَمِهِ، وعَدَّ غيرُه مَنِ اجتمعَ لَهُ أحياءً مِنْ وَلَدِه ووَلَدِ وَلَدِهِ.