التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض}

          ░16▒ بَابُ قَوْلِ اللهِ _تعالى_: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فيه البَرَاءُ عَنِ النَّبِيِّ صلعم.
          1916- ثمَّ ذكَر حديثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} الحديث. وحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ طريقين عنه: لما أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى آخره.
          1917- حديث البراءِ سلف في الباب قبله [خ¦1915]، وحديث عديٍّ وسهلٍ أخرجهما مسلمٌ أيضًا، وخرَّج حديث عَديٍّ في التَّفسير أيضًا، وقال: ((إِنَّ وِسَادَكَ إِذَنْ لَعَرِيضٌ)) وَقَالَ في رواية: ((إِنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا)) وفي سند حديثِ عَديٍّ حُصَيْنُ بنُ عبد الرَّحمن _بضمِّ الحاء_ كذا حيث وقعَ بلا كُنية، فإن كنِّي به فهو بفتح أوَّله، والعِقال فيه: الحَبْل. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ في حديث سهلِ بن سعدٍ: أحسَب أنَّه غيرُ محفوظٍ، وإنَّما المحفوظُ حديثُ عَديٍّ؛ لأنَّ البيان لا يؤخَّر عن وقت الحاجة، وإن كَانَ محفوظًا فإنَّما كَانَ هو الَّذِي فُرض عليهم ثمَّ نُسخ بالفَجْر، و({الْخَيْطُ}): اللَّون عند أهلِ اللُّغة، وبيانُه في حديث عَديٍّ: سوادُ اللَّيل وبياضُ النَّهار، فخيطُ الفجرِ بياضُ الصُّبحِ أوَّلَ مَا يبدو يمتدُّ كالخيط ثمَّ ينتشر، ورُوي عن حُذيفةَ أنَّه لمَّا طَلَعَ الفجرُ تسَّحر ثمَّ صلَّى، ورُوِي معناه عَنِ ابْنِ مسعودٍ. وَقَالَ مسروقٌ: لم يكونوا يعدُّون الفجرَ فَجْرَكم، إنَّما كانوا يعدُّون الفجرَ الَّذِي يملأ الطُّرُقَ والبيوتَ. وقال أبو عُبيد: الخيط الأبيض هو الصُّبح المصدَّق، والأسود: هو الليل، والخيط: هو النُّور.
          واختَلف العلماءُ في الوقت الَّذِي يحرُم فيه الطَّعام والشَّراب على مَنْ يريدُ الصَّوم كما فرضَه ابنُ المنذِرِ، فقال الأربعةُ وأبو ثورٍ: إنَّه يحرُم عند / اعتراضِ الفجرِ الآخرِ في الأفقِ وهو المنتشرُ ضوءُه معترضًا به، ورُوي معناهُ عن عمرَ وابن عَبَّاسٍ، وهو قولُ عطاءٍ وعوامِّ علماءِ الأمصار، وَفيه: قولٌ ثانٍ رُوِّيناه عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق وعليٍّ وحُذيفةَ وابنِ مسعودٍ وغيرِهم، فرُوِّينا عن سالمِ بن عبيد أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيق نظرَ إلى الفجر مرَّتين ثمَّ تسحَّر في الثَّالثة، ثمَّ قام فصلَّى ركعتين، ثمَّ أقام بلالٌ الصَّلاة.
          وعن عليٍّ أنَّه قَالَ حينَ صلَّى الفجرَ: الآنَ حين تبيَّن لكم الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود، ورُوِّينا عن حُذيفةَ أنَّه لمَّا طَلَعَ الفجرُ تسحَّر ثمَّ صلَّى، ورُوِّينا عَنِ ابْنِ مسعودٍ مثلَه، زاد الطَّحاويُّ: قَالَ زِرٌّ: تسحَّرتُ ثمَّ انطلقتُ إلى المسجد فمررتُ بمنزل حُذيفةَ، فدخلتُ عليه فأَمَرني بِلِقْحَةٍ، فحلبتُ، ثمَّ قال: ادنُ فكُلْ، فقلتُ: إنِّي أريد الصِّيامَ، فقال: وأنا أريدُ الصِّيامَ، فأكلنا وشربنا، ثمَّ أتينا المسجدَ فأُقيمت الصَّلاة، فَلَمَّا صلَّى حُذيفةُ قال: هكذا فعلَ رسول الله _صلعم_ قلتُ: أبعدَ الصُّبح؟ قال: نعم هو الصُّبح، غيرَ أنَّ الشمس لم تطلُعْ.
          قال النَّسَائِيُّ: لا نعلمُ أحدًا رفعَه غيرَ عاصمٍ، ورواه مِنْ طريقِ شُعْبَةَ عن عَدِيِّ بنِ ثابتٍ عن زِرٍّ، ومِنْ طريق إبراهيمَ عن صلةَ ولم يرفعاه، قال: فإن كَانَ رفعُه صحيحًا فمعناه أنَّه قَرُبَ النَّهارُ كقوله _تعالى_: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة:234] أي: قارَبْنَ، وقربنا المنازلَ إذا قارب، وروى حمَّادٌ عن أبي هُريرةَ أنَّه سمع النِّداء والإناءُ على يده فقال: أحرزتُها وربِّ الكعبة.
          وقال هشام: كَانَ عُرْوَةُ يأمرنا بهذا، يعني: إذا سمع النِّداءَ والإناءُ على يده، فلا يضعه حتَّى يقضيَ حاجته مِنْه. ورواه الحسنُ عن النَّبيِّ _صلعم_ مرسلًا. قلتُ: هو في «سُنن أبي دَاوُدَ» عن أبي هُريرةَ مسنَدًا، وأخرجه الحاكمُ في «مستدْرَكه» ثمَّ قال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرجاه، وعن جابرٍ مثله، أخرجه القاضي يوسفُ بن حمَّادِ بن زيدٍ في كتاب «الصِّيام» وَقَالَ بعضُ أهل العلمِ فيما حكاه الحازميُّ: إنَّ حديث حُذيفةَ كَانَ في أوَّل الأمرِ ثمَّ نُسخ بدليلِ حديثَي الباب، وتأوَّل بعضُهم قولَه في حديث عَديٍّ: (إِنَّمَا ذلك سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ) قَالَ: بياضُ النَّهار أن ينتشرَ في الطُّرق والسِّكَك والبيوت وقتَ صلاة المُسْفِرين بصلاةِ الصُّبح، وذكرَ إسحاقُ بن راهَوَيْهِ عن وَكِيعٍ أنَّه سمع الأعمشَ يقول: لولا الشُّهرةُ لصلَّيتُ الغداةَ ثمَّ تسحَّرت.
          وقال إسحاقُ بعد أنْ ذكر مَا ذكرناه عن أبي بكرٍ وعليٍّ وحُذيفةَ: هؤلاءِ لم يرَوا فرْقًا بين الأكلِ وبين الصَّلاة المكتوبة، رأَوا أن يصلِّيَ المكتوبةَ بعد طلوع الفجرِ المعترِضِ مباحًا، ورأَوُا الأكلَ بعد طلوعِ الفجر المعترِض مباحًا حتَّى يتبيَّنَ بياضُ النَّهار مِنْ سواد اللَّيل، ومال إسحاقُ إلى القول الأوَّل، ثمَّ قَالَ مِنْ غيرِ أن يَطعن على هؤلاء الَّذِين تأوَّلوا الرُّخصة في الوقت: فمَنْ أكل في ذلك الوقتِ فلا قضاءَ عليه ولا كفَّارةَ إذا كَانَ متأوِّلًا.
          وقال الطَّحاويُّ _ولم يذكرْ حديثَ أبي بكرٍ ولا عليٍّ ولا فعلَ أبي هُريرةَ وابنِ مسعودٍ_: حديثُ حُذيفةَ يدلُّ على أنَّ وقت الصِّيام طلوعُ الشَّمس، وأنَّ مَا قبل طلوعِ الشَّمس في حكم اللَّيل، وهذا يحتمل عندنا أن يكون بعدما أنزل الله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قبل أن يُنزِلَ: {مِنَ الْفَجْرِ} على مَا في حديث سهلٍ، وذهب علمُ ذلك عن حُذيفةَ وعلِمَهُ غيرُه، فعمِلَ حُذيفةُ بما علم ولم يعلم النَّاسخَ فصار إليه، ومَنْ علم شيئًا أولى ممَّنْ لم يعلم.
          وقَالَ ابْنُ قُدامَةَ: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} هو الصَّباح، وإنَّ السُّحور لا يكون إلَّا قبلَ الفجر، قال: وهذا إجماعٌ لم يخالفْ فيه إلَّا الأعمشُ وحدَه وقد شذَّ، ولم يعرِّج أحدٌ على قوله، قال: والنَّهار الَّذِي يجبُ صيامه مِنْ طلوع الفجر إلى الغروب، هذا قول جماعة المسلمين، وَقَالَ الطَّبَريُّ: الصَّوم إنَّما هو في النَّهار، والنَّهار عندهم مِنْ طلوع الشَّمس، وآخرُه غروبُها، هذا ليس بصحيحٍ مِنْه كما نبَّه عليه القُرْطُبيُّ لأنَّ الله _تعالى_ أمرَ بصومِ مَا يقال عليه يومٌ لا مَا يقال عليه نهارٌ، وكأنَّه لم يسمعْ قولَه _تعالى_: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184].
          واحتجَّ أصحابُ مالكٍ للقول الأوَّل فقالوا: الصَّائمُ يلزمُه اعترافُ طرفَي النَّهار، وذلك لا يكون إلَّا بتقديم شيءٍ وإن قلَّ مِنَ السَّحَر، وأخذِ شيءٍ مِنَ اللَّيل؛ لأنَّ عليه أن يدخل في إمساكِ أوَّل جزءٍ مِنَ اليوم بيقينٍ، كما عليه أن يدخلَ في أوَّل رمضانَ بيقينٍ، والأكلُ مُنافٍ لأوَّل جزءٍ مِنَ الإمساك، فينبغي له أن يقدِّم الإمساكَ ليتحقَّقَ له أنَّه حصل في طلوع الفجر ممسِكًا، ومَنْ أكلَ حين يتبيَّن له الفجرُ ويعلمُه فقد جَعل أكلًا في أوَّل الصَّوم، واختلفوا فيمَنْ أكلَ وهو شاكٌّ في طلوعِ الفجر، فقالت طائفةٌ: الأكل والشُّربُ مباح حتَّى يتيقَّن طلوعَ الفجر.
          وروى سفيانُ عن أَبانَ عَنْ أَنَسٍ عن الصِّدِّيق قال: إذا نَظر الرَّجُلان إلى الفجرِ فقال أحدُهما: طَلَعَ، وَقَالَ الآخر: لم يطلُع، فليأكلْ حتَّى يتبيَّن لهما، وعن ابن عبَّاسٍ قال: أحلَّ الله الأكل والشُّربَ مَا شَكَكْتَ، وروى وكيعٌ عن عُمَارةَ بنِ زَاذَانَ عن مَكحولٍ قال: رأيتُ ابن عمرَ أخذ دلوًا مِنْ زَمْزَمَ ثمَّ قَالَ لرجُلَين: أطَلَعَ الفجرُ؟ فقال أحدُهما: لا، وَقَالَ الآخرُ: نعم، فشَرِبَ، ومكحولٌ هذا ليس بالشَّاميِّ، وهو قول عطاءٍ وأبي حَنِيْفَةَ والأَوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي ثورٍ، كلُّهم قال: لا قضاءَ عليه، وليس كمَنْ يأكلُ وهو يشكُّ في غروب الشَّمس إذ الأصلُ بقاءُ النَّهار، والأصل هناك بقاءُ اللَّيل، وَقَالَ مالكٌ: مَنْ أكل وهو شاكٌّ في الفجر فعليه القضاءُ، وَقَالَ ابْنُ حَبيبٍ: هو عنده استحبابٌ إلَّا أن يعلمَ أنَّه أَكل بعد الفجر فيصيرَ واجبًا، كمَنْ أفطر وظنَّ أنَّه قد أمسى ثمَّ ظهرت الشَّمس، قلتُ: الخلافُ مَحَلُّه / إذا لم يَبِنِ الحالُ، واحتجَّ الأوَّلون بما أسلفناه وهو القياس، قَالَ _تعالى_: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} الآية. وهو العلم به، وليس الشَّكُّ علمًا به، ولكنَّ الاحتياطَ ألَّا يأكل في شكٍّ، والبناءُ على اليقين مِنْ قواعد الدِّين، والشَّكُّ مُطَّرَحٌ كما في الشَّكِّ في الصَّلاة.
          وقد وقَع الاتِّفاقُ على أنَّه إذا أكَل يوم الشَّكِّ أنَّه لا قضاءَ عليه إذا لم يَبِنْ أنَّه مِنْ رمضانَ، ومسألتُنا كذلك قد أكل في زمنٍ يجوزُ أن يكونَ مِنَ اللَّيل ومِنَ النَّهار، فلم يُلتفتْ إلى التَّحرير مع استصحابِ حُكمِ اللَّيل، كما لم نوجبِ الإعادةَ في يوم الشَّكِّ مع استصحابِ حكمِ شعبانَ، وهذه المسألةُ مبنيَّة على مَا إذا تيقَّن الطَّهارةَ وشكَّ في الحدَث، واحتجَّ مَنْ أوجبَ القضاءَ بأنَّ الطَّعام والشَّراب يحرُم عند اعتراضِ الفجرِ الآخِرِ، وصومُ رمضانَ عليه بيقيٍن، فلا يسقُط حكمُ الصَّوم إلا بيقينٍ.
          ومَنْ شكَّ هل أكل قبل الفجر أو بعده؟ فليس بيقينٍ دخولُه في الإمساك، وهو كمَنْ شكَّ في الغروب فأكل، وكمَنْ شكَّ في الزَّوال فلا تجزئُه الصَّلاة لأنَّ الوقت عليه بيقينٍ، وكذا لو شكَّ في دخول رمضانَ وصام على الشَّكِّ لم يجزئْه مِنْ رمضانَ، وكذا لو شكَّ هل كبَّر للإحرام لم يجزئْه؛ لأنَّ عليه الدُّخولَ في الصَّلاة بيقينٍ كما يدخل في وقتها بيقين، كذلك عليه الدُّخول في أوَّل جزءٍ مِنَ اليوم بيقينٍ، كما عليه الدُّخول في رمضانَ بيقينٍ، أعني: الاعتقادَ الصَّحيح. وفرَّق ابنُ حَبيبٍ بين مَنْ أكلَ وهو شاكٌّ في الفجر وبين مَنْ أكلَ وهو شاكٌّ في الغروب، كما سيأتي في باب: إذا أفطرَ في رمضانَ ثمَّ طلعتْ عليه الشَّمس [خ¦1959]، وَقَالَ ابْنُ القاسم: مَنْ طَلَعَ عليه الفجرُ وهو يأكلُ أو يطأُ فليلقِ مَا في فيه ولينزِعْ، ولم يفرِّقْ بين الأكلِ والوَطْءِ، وَقَالَ ابْنُ الماجِشونِ: ليس الأكل كالجماع؛ لأنَّ إزالته لفَرْجه جماعٌ بعدَ الفجر، ولكنْ لم يبتدئْه ولم يتعمَّدْه، فعليه القضاءُ إذا تنحَّى مكانَه، فإن عاد أو خَضخَضَ فعليه القضاء والكفَّارة، وهو قول الشَّافعيِّ، وَقَالَ أبو حَنِيْفَةَ والمُزَنيُّ: لا كفَّارةَ عليه، واحتجُّوا بأنَّه إذا أَولج ثمَّ قال: إن جامعتُك فأنت طالقٌ فلَبِثَ أنَّه لا حِنْثَ عليه ولا مَهْرَ، ولم يجعلوا اللُّبثَ كالإيلاج في وجوب المهر والحدِّ، وجعلوا اللُّبثَ هنا كالإيلاج في وجوب الكفَّارة، وفي حديثَي عَديٍّ وسهلٍ أنَّ الحُكم للمَعاني لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظَّاهر، وقوله: (فَعَلِمُوا إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) حجَّةٌ في أنَّ النَّهار مِنْ طلوع الفجر.
          فائدة: ((عَرِيضُ القَفَا)) في رواية البخاريِّ السَّالفة قَالَ الخَطَّابِيُّ تُفَسَّر على وجهين:
          أحدهما: أن تكون كنايةً عن الغَباوة أو سلامةِ الصَّدر، يقال للرَّجل الغبيِّ: إنَّك لعريضُ القفا.
          والآخرُ أن يكون أراد: إنَّك غليظُ الرَّقبة، وافرُ اللَّحم؛ لأنَّ مَنْ أَكل بعدَ الفجر لم يَنْهَكْهُ الصَّوم ولم يَبِنْ له أثرٌ فيه، وقوله: ((إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ)) أي إنَّ نومك إذنْ لطويلٌ، كنَّى بالوِساد عن النَّوم، ومعنى العريض: السَّعةُ والكثرة إذ لم يُرِدْ بِهِ ضدَّ الطُّول.
          أُخْرَى: قولُه في حديث سهلِ بن سعدٍ: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا) ضُبطت هذه اللَّفظةُ على مَا في «المطالع» وغيره على ثلاثة أوجهٍ:أحدها: رِئْيُهما _براءٍ مكسورة ثمَّ همزة ساكنة_ ومعناه منظرُهما، ومِنْه قوله _تعالى_: {أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم:74]. ثانيها: زِيُّهما _بزاي مكسورة ثم ياء مشدَّدة بلا همزٍ_ ومعناه لونُهما. ثالثها: رَئِيَّهما _بفتح الرَّاء وكسر الهمزة وتشديد الياء_ قَالَ عِياضٌ: هذا غلطٌ هنا؛ لأنَّ الرَّئِيَّ التَّابع مِنَ الجنِّ فإن صحَّ فمعناه مَرْئيُّ.
          ثالثة: في حديث سهلِ: إنَّ الله _تعالى_ لم يُنزلْ: {مِنَ الْفَجْرِ} إلَّا منفصلًا عن قوله: {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ويجمع كما قَالَ القُرْطُبيُّ بأن يكونَ حديثَ عَديٍّ متأخرًا عن حديث سهلٍ، وأنَّ عديًّا لم يسمع مَا جرى في حديث سهل، إنَّما سمع الآية مجرَّدةً، وعلى هذا فيكون {مِنَ الْفَجْرِ} متعلِّقًا بـ{يَتَبَيَّنَ} وعلى مقتضى حديث سهلٍ يكونُ في موضع الحال متعلِّقًا بمحذوفٍ، قال: ويحتمل أن تكونا قضيَّةً واحدةً، وذكر بعض الرُّواة: {مِنَ الْفَجْرِ} متَّصلًا بما قبلَه كما ثبت في القرآن، وإن كَانَ قد نزَل مفرَّقًا كما بيَّنه حديثُ سهلٍ، وحديثُ سهلٍ يقتضي أن يكون متفرِّقًا، وذلك أنَّ فَرْضَ الصِّيام كَانَ في السَّنة الثَّانية قَطعًا، وَقَالَ سَهْلٌ في حديثه: (كَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدَهُمْ في رِجْليهِ الخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالخَيْطَ الأَسْوَدَ... فأنزل الله {مِنَ الْفَجْرِ}) فدلَّ هذا على أنَّ الصَّحابة كانوا يفعلون ذلك إلى أن أسلم عديٌّ في السَّنة التَّاسعة، وقيل: العاشرة، حتَّى أخبره رسول الله _صلعم_ أنَّ ذلك كَانَ سوادَ اللَّيل وبياضَ النَّهار.
          قال: وقوله: (فَأَنْزَلَ اللهُ بَعْدَ ذلك {مِنَ الْفَجْرِ}) رُوي أنَّه كَانَ بينهما عامٌ، وَقَالَ عِياضٌ: وليس المراد أنَّ هذا كَانَ حكمَ الشَّرع أوَّلًا ثمَّ نُسخ بِقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} كما أشار إليه الطَّحاويُّ والدَّاوُدِيُّ، وإنَّما المراد أنَّ ذلك فَعَلَه وتَأوَّله مَنْ لم يكن مخالِطًا لرسول الله _صلعم_ إنَّما هو مِنَ الأعراب، ومَنْ لا فقهَ عنده، أو لم يكن مِنْ لغته استعمالُ الخيط في اللَّيل والنَّهار، قَالَ الطَّحاويُّ: أهل الكتاب مِنْ شريعتهم أنَّهم إذا ناموا في ليلهم حَرُمَ عليهم مَا يَحْرُمُ على الصَّائم إلى خروجهم مِنْ صوم غدِ تلك اللَّيلةِ، وهذا أسلفناه [خ¦1915].