التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا نوى بالنهار صومًا

          ░21▒ بَابُ: إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا.
          وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قَالَتْ: لاَ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا، وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو هُريرةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ.
          1924- ثمَّ ذَكرَ حديثَ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: (أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلاَ يَأْكُلْ).
          الشَّرْحُ: تعليق أمِّ الدَّرْداءِ أخرجَه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن عبدِ الوهَّاب عن أيُّوبَ عن أبي قِلَابةَ، عن أمِّ الدَّرْداءِ به.
          وأثرُ أبي طَلْحَةَ أخرجه أيضًا عن الثَّقَفيِّ ويزيدَ عن حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أنَّ أبا طَلْحَةَ كَانَ يأتي أهلَه فيقول: هل عندكم مِنْ غَداءٍ؟ فإن قالوا: لا، قال: فإنِّي صائمٌ. زاد الثَّقَفيُّ: إن كَانَ عندهم أفطرَ، قال: وحدَّثنا الفْضْلُ عن أبي قَحْذم عن أبي قِلَابةَ، عن أبي الأشعثِ قال: كَانَ مُعاذٌ يأتي أهله بعدما يَضْحَى فيسألُهم فيقول: عندكم شيءٌ؟ فإذا قالوا: لا، صَامَ ذلك اليومَ، وروى مسلمٌ عن عائشةَ قالت: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ _صلعم_ ذَاتَ يَوْمٍ فَسَأل: ((هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟)) قُلْنَا: لَا، قَالَ: ((فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ)) ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ: ((أَرِينيهِ؛ لَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا)) فَأَكَلَ. وفي روايةٍ للدَّارَقُطْنيِّ والبَيْهَقيِّ في الأوَّل: ((إِنِّي إِذَنْ أَصُومُ)) وفي الثَّاني: ((إِذَنْ أُفْطِر، وإِنْ كُنْتُ قَدْ فَرَضتُ الصَّومَ)) وقالا: إسنادُه صحيحٌ، وفي روايةٍ لهما قريبةٍ: ((وَأَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ)) قالا: وهي غيرُ محفوظةٍ، وفي رواية للدَّارَقُطْنيِّ: ((هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ...)) الحديث، ثمَّ قال: هذا إسنادٌ صحيحٌ، ولابن أبي شَيْبَةَ حدَّثنا ابن فُضَيْلٍ، عن ليثٍ عن عبدِ الله عن مجاهدٍ، عن عائشةَ قالت: ((رُبَّمَا دَعَا رَسُولُ اللهِ _صلعم_ بِغَدَائِهِ فَلَا يَجِدُهُ فَيُفْرَضُ عليه صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ)).
          وتعليق أبي هُريرةَ رواه عبد الرَّزَّاق، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أخبرني عبيد الله بن عمرَ قال: إنَّ أبا هُريرةَ كَانَ يصبح مفطرًا فيقول: هل مِنْ طعامٍ؟ فيجدُه، أو لا يجدُه فيُتِمُّ ذلك اليومَ.
          وتعليقُ حُذَيفةَ رواه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن الثَّوريِّ عن الأعمشِ عن طَلْحَةَ، عن سعيدِ بنِ عُبيدةَ، عن أبي عبد الرَّحمن السُّلَميِّ، عن حُذيفةَ أنَّه بدا له أنْ يصومَ بعد أن زالت الشَّمسُ فصامَ، وفي لفظٍ: مَنْ بدا له الصِّيام بعد أن تزولَ الشَّمسُ فلْيَصُمْ، / ورواه البَيْهَقِيُّ بإسنادٍ صحيحٍ، وهو مَا نصَّ عليه الشَّافعيُّ في حَرْمَلَةَ، لكنَّ مشهورَ مذهبِه اختصاصُه بما قبلَ الزَّوال.
          وتعليقُ ابن عبَّاس قَالَ ابْنُ حزم: رواه طاوسٌ عنه بلفظ: الصَّائمُ بالخِيار مَا بينه وبين نصف النَّهار، ومِنْ طريق سعيدِ بن عُبيدٍ عَنِ ابْنِ عمرَ مثله بزيادةِ: ما لم يَطْعَمْ فإنْ بدا له أن يَطْعَمَ طَعِم، وإنْ بدا له أن يَجعله صومًا كَانَ صومًا، ومِنْ طريق حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: حدَّثْتني أمُّ شَبِيبٍ، عن عائشةَ أنَّها قالت: إنِّي لأُصْبِحُ يومَ طُهري حائضًا وأنا أريدُ الصَّومَ فأستبينُ طُهري، فيما بيني وبين نصفِ النَّهار فأغتسلُ ثمَّ أصومُ، ومِنْ طريق الحارث، عن عليٍّ: إذا أصبحتَ وأنت تريد الصَّومَ فأنت بالخيار، إنْ شئتَ صمتَ وإنْ شئتَ أفطرتَ، إلَّا أن تَفرِضَ الصِّيامَ على نفسك مِنَ اللَّيل، ولفظُ جعفرِ بن محمَّدٍ عن أبيه: أنَّ رجلًا سألَ عليًّا فقال: أصبحتُ ولا أريد الصِّيام، فقال له عليٌّ: أنت بالخِيار بينك وبين نصف النَّهار، فإن انتَصف النَّهارُ فليس لَكَ أن تُفطرَ.
          ومِنْ طريق وَكيعٍ عن الأعمشِ عن عُمارةَ، عن أبي الأَحوصِ، قَالَ ابْنُ مسعودٍ: إنَّ أحدَكم بأحدِ النَّظَرين مَا لم يأكلْ أو يشربْ، ومِنْ طريقِ مَعْمرٍ، عن عطاءٍ الخُراسانيِّ: كنتُ في سفرٍ وكان يومَ فِطري، فَلَمَّا كَانَ بعدَ نِصف النَّهار قلتُ: لأصومنَّ هذا اليومَ، فصمتُ، فذكرتُ ذلك، فقال: أصبتَ.
          قال عطاءٌ: كنتُ عنده يومًا فجاءَ أعرابيٌّ عندَ العصر فقال: إنِّي لم آكلِ اليومَ شيئًا أفأصومُ؟ قال: نعم. قال: فإنَّ عَليَّ يومًا مِنْ رمضانَ أفأجعلُه مكانَه؟ قال: نعم، ومِنْ طريق حَمَّادِ بن سَلَمَةَ، عن حَمَّادِ بن أبي سُليمان، عن إبراهيمَ النَّخَعيِّ قال: إذا عَزم على الصَّوم مِنَ الضُّحى فله أجرُ النَّهار، فإن عَزمَ نصفَ النَّهار فله مَا بقي مِنَ النَّهار، فإن أصبحَ ولم يَعزِمْ فهو بالخِيار مَا بينه وبين نصفِ النَّهار.
          ومِنْ طريقِ ابن جُرَيْحٍ سألتُ عطاءً عن رجلٍ كَانَ عليه أيَّامٌ مِنْ رمضانَ فأصبحَ وليس في نفسه أن يصومَ، ثمَّ بدا له بعدما أصبحَ أن يصومَ وأن يجعلَه مِنْ قضاءِ رمضانَ، فقال عطاءٌ: ذلك له، وعن مجاهدٍ: الصَّائمُ بالخيار مَا بينه وبين نصفِ النَّهار فإذا جاوز ذلك فإنَّما بقي له بقدْرِ مَا بقي مِنَ النَّهار، وَقَالَ الشَّعْبيُّ: مَنْ أراد الصَّوم فهو بالخِيار مَا بينه وبين نصفِ النَّهار.
          وعن الحَسنِ: إذا تسحَّر الرجلُ فقد وجبَ عليه الصَّوم، فإن أفطرَ فعليه القضاءُ، وإن همَّ بالصَّوم فهو بالخيار إن شاء صَامَ وإن شاء أفطرَ، ومِنْ طريق حَمَّادِ بن سَلَمَةَ عن ثابتٍ البُنانيِّ وعبدِ الله بن أبي عُتبةَ عن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ: فَعَلَ فِعْلَ أبي طَلْحَةَ سَواءً، ومِنْ طريق ابنِ أبي شَيبةَ عن المُعْتَمِرِ عن حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قال: مَنْ حدَّث نفسَه بالصِّيام فهو بالخيار مَا لم يتكلَّم حتَّى يمتدَّ النَّهارُ، وَقَالَ سفيانُ بن سعيدٍ وأحمدُ بن حنبلٍ: مَنْ أصبح وهو يَنوي الفِطْرَ إلَّا أنَّه لم يأكلْ ولا شَرِبَ ولا وطئ فله أن ينويَ الصَّوم مَا لم تغبِ الشَّمس، ويصحُّ الصَّوم.
          قَالَ ابْنُ حزمٍ: ليس في حديثِ عائشةَ أنَّه لم يكنْ نوى الصِّيام مِنَ اللَّيل، ولا أنَّه أصبحَ مفطرًا ثمَّ نوى الصَّوم بعد ذلك، ولو كَانَ هذا في ذلك الخبرِ لقلنا به، لكنَّ فيه أنَّه كَانَ يصبحُ متطوِّعًا صائمًا ثمَّ يفطرُ، وهذا مباحٌ عندنا لا نَكْرهُهُ، فَلَمَّا لم يكن في الخبر مَا ذكرنا وكان قد صحَّ عنه: ((لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ)) لم يَجز أن يُتركَ هذا اليقينُ لظنٍّ، فإنْ قيل: رَوَى ليثٌ عن مجاهدٍ، عن بعض أزواج النبي _صلعم_ فذكرَ حديثًا فيه: ((فَيَفْرِضُ الصَّوْمَ)) وعن ابن قانعٍ راوي كلِّ بليَّةٍ عن موسى بنِ عبد الرَّحمن البَلْخيِّ عن عمرَ بن هارونَ، عن يعقوبَ بن عَطاءٍ عن أبيه عَنِ ابْنِ عبَّاس عن رسول الله _صلعم_ ((كَانَ يُصْبِحُ وَلَمْ يُجْمِعِ الصَّومَ فَيَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ))، قلنا: ليثٌ ضعيفٌ، ويعقوبُ هالكٌ، ومَنْ دونَه ظلماتٌ بعضُها فوق بعضٍ، وواللهِ لو صحَّ لقلنا به، قلتُ: ليثٌ وإن ضُعِّف فقد وُثِّق أيضًا، ويعقوبُ وثَّقه ابنُ حِبَّانَ وغيرُه، وعُمَرُ بنُ هارونَ وإن ضعَّفوه فقد وُصف بالحِفظ ووثِّق أيضًا، وكذا ابن قانعٍ، فقال البَرْقانِيُّ لمَّا سُئل عنه فقال: البغداديُّون يوثِّقونه، وهو عندنا ضعيفٌ، قَالَ الخطيب: لا أدري لأيِّ شيءٍ ضُعِّف؟! فقد كَانَ مِنْ أهل العلمِ والدِّراية والفهم، ورأيتُ عامَّة شيوخنا يوثِّقونه.
          وللدَّارَقُطْنيِّ مِنْ حديث ابن عُيَيْنَةَ عن طَلْحَةَ بن يحيى، عن عمَّته عائشةَ بنتِ طَلْحَةَ عن عائشةَ: دخل النَّبيُّ _صلعم_ فقال: ((إِنِّي أُرِيدُ الصَّوْمَ)) وَأُهْدِيَ لَهُ حَيْسٌ، فَقَالَ: ((إِنِّي آكُلُ...)) الحديث.
          وحديثُ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ _وهو مِنْ ثُلاثيَّاته لأنَّه رواه عن أبي عَاصِمٍ عن يزيدَ بن أبي عُبيدٍ عن سَلَمَةَ_ وهو نصٌّ لما بوَّب عليه البخاريُّ، لكنَّ جاء مَا يرجِّح قول الجمهور مِنِ اعتبار تبييت النِّيَّة، وأنَّ نيَّة النَّهار غيرُ معتبرةٍ، وهو مَا رواه أبو داودَ عَنْ قَتَادَة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّ أَسْلَمَ أَتَت رَسول الله _صلعم_ يَعْنِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: ((صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟)) قَالُوا: لَا، قَالَ: ((فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ))، قَالَ البَيْهَقيُّ: عبدُ الرَّحمن مجهولٌ ومُختَلفٌ في اسم أبيه، فقيل: مَسْلَمَةُ، وقيل: سَلَمَةُ، وقيل غير ذلك، ولا يُدرى مَنْ عمُّه، وقَتَادَةُ مدلِّسٌ وقال: عَنْ، والمدلِّسُ إذا أتى بصيغة عَنْ لا يكون حُجَّةً، قَالَ ابْنُ حزمٍ: لفظةُ ((وَاقْضُوهُ)) موضوعةٌ بلا شكٍّ، قلتُ: عبدُ الرَّحمن ذكرَه ابنُ حِبَّانَ في «ثقاته» / وعمُّه صحابيٌّ، وَقَالَ ابْنُ السَّكَنِ في كتابه «الحروف»: عبد الرَّحمن بنُ سَلَمَةَ هو الصَّواب، ويقال: شُعْبَةُ أخطأ في اسمه، والصَّوابُ حديثُ ابن أبي عَروبةَ عن قَتَادَةَ عن عبدِ الرَّحمن بن سَلَمَةَ الخُزاعيِّ.
          واختَلف أهلُ العلمِ متى تصحُّ النِّيَّة في النَّفْل؟ فذهب أبو حَنِيْفَةَ والشَّافعيُّ إلى أنَّه يجزئُ بنيَّةٍ قبلَ الزَّوال وهو قولُ أكثرِ العلماء؛ احتجاجًا بحديثِ عائشةَ السَّالفِ وفي بعض طرقه: ((إِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ)) وهو أقوى في الدِّلالة على ابتداء النِّيَّة، وسَلف في بعض طرقه: ((إِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ)) و((إِنِّي إِذَنْ أَصُوم)) ويفرضُ الصِّيامَ، وألحقَ أبو حَنِيْفَةَ الفَرْضَ به والنَّذْرَ المعيَّنَ أيضًا، وهو قولُ الأَوزاعيِّ وابنِ المسيِّب وإسحاقَ وعبدِ الملك وابنِ المعذَّل مِنَ المالكيَّة، وَقَالَ الشَّافعيُّ: لا يجوز الفرضُ إلَّا بنيَّةٍ مِنَ اللَّيل، وهو قولُ مالكٍ واللَّيث وأحمدَ، وَقَالَ مالكٌ وجابرُ بن زيدٍ والمُزَنِيُّ وداودُ: لا يجوز النَّفْلُ إلَّا بنيَّةٍ مِنَ اللَّيلِ.
          وزعم ابنُ حبيبٍ أنَّ حديث الباب مِنْ خصائص عاشوراءَ، ونقله ابن المفضَّل في كتابه «صوم التَّطوُّع» عن غير واحد مِنَ السَّلف، مِنْهم ابنُ سِيْرِينَ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، والظَّاهر مِنْ مذاهب العلماء المشهورين أنَّه لا يتمُّ صيام مَنْ أكل فيه، ويرَون أنَّ ذلك كَانَ في ابتداء الأمر قبل وجوبِ رمضانَ على مذهب مَنْ يرى وجوبَه ثمَّ نُسخ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: قد يأمرهم بهذا قبل نزول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الآية [البقرة:187].
          وقَالَ ابْنُ حزمٍ: مَنْ نسيَ أن ينويَ ليلًا ففي أيِّ وقتٍ نواه مِنَ النَّهار التَّالي لتلك اللَّيلة صحَّ صومُه، سواءٌ أكلَ أو شربَ أو وَطئ أو جمعَ بينها، أو لم يفعلْ شيئًا مِنْ ذلك، ويجزئُه صومُه ذلك ولا قضاءَ عليه ولو لم يبقَ إلَّا مقدارُ مَا ينوي الصَّوم، فإنْ لم ينوِه فلا صومَ له ولا قضاءَ عليه، وكذا مَنْ جاءه خبرُ هلالِ رمضانَ بعدما أكل أو شرب أو جامع فنوى قبل الغروب يجزئُه صومُه وإلَّا فلا، ولا قضاءَ عليه، وإن لم يكن حتَّى غَرَبَتْ فلا قضاءَ عليه، وقد فاته صومُ ذلك اليوم. قلت: شُبْهَتُه حديثُ عاشوراءَ، ولا حجَّةَ له فيه، إذ المراد التَّشبُّه لحقِّ الوقت، يوضِّحه مَا رواه أحمدُ عن سَلَمَةَ: ((مَنْ كَانَ اصْطَبَحَ فَلْيُمْسِكْ وَمَنْ كانَ لم يَصْطَبِحُ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)) وكان عمرُ بن عبد العزيز يقول: إذا أصبح غيرَ صائمٍ فأكل وشرب و وطئ، ثمَّ جاءه خبرُ رؤية الهلال فنوى الصَّومَ أنَّ صومَه صحيحٌ، وعند ابن سُرَيْجٍ والطَّبريِّ وأبي زيدٍ المَرْوَزِيِّ صحَّة النَّفْلِ بعد هذه الأشياء المنافية للصَّوم، وَقَالَ زُفَرُ: يصحُّ صومُ رمضانَ في حقِّ المقيمِ الصَّحيح بغير نيَّةٍ مِنْه، وهو مذهبُ عطاءٍ ومجاهدٍ، قالوا: لأنَّه لا يصحُّ فيه غيرُ صومِ رمضانَ لتعيينه فلا يفتقر إلى النيَّة، كما لو دفعَ نِصاب الزَّكاة جميعَه إلى الفقراء وإن لم ينوِ شيئًا.
          قال في «شرح الهداية»: أنكر أبو الحسن الكَرْخِيُّ أن يكون هذا مذهبًا لزُفَرَ، ويقول: مذهبُه تأديةُ جميع رمضانَ بنيَّةٍ واحدةٍ، وأمَّا إلزامُ ابنِ حَزْمٍ زُفَرَ بصلاة المغرب وبما إذا لم يبقَ مِنَ الوقت إلَّا مقدارُ مَا يصلِّي فيه ركعتين، فصلَّى ركعتينِ في آخِر وقت الفجر وثلاثًا في وقت المغرب، ولم ينوِ فيها شيئًا، فينبغي أن يقع المؤدَّى عنهما؛ لأنَّه موضعٌ لفرضِ الفجر والمغرب دون غيرهما، فيمكن الفرق بأنَّ وقت رمضان لا يقبل غيره بخلاف الصَّلاة.
          وإلزام الرَّازيِّ زُفَرَ بأن يجعل المغمى عليه في رمضان أيَّامًا صائمًا إذا لم يأكل ولم يشرب؛ لوجود الإمساك بغير نيَّة، فإن التزمه ملتزمٌ كَانَ مستبشَعًا، وأمَّا دليلُ التَّبييت فحديثُ حَفْصَةَ وعائِشَةَ وغيرهما مِمَّا سلف، قَالَ ابْنُ عبد البرِّ: والاختلافُ في هذا عن التَّابعين اختلافٌ كثير، ولم يُختلَف عَنِ ابْنِ عمر ولا حفصةَ أنَّهما قالا: لا صيامَ إلَّا لمَنْ نواه قبل الفجر.
          خاتمةٌ: قد أسلفنا أنَّ غرض البخاريِّ في هذا الباب إجازةُ صوم النَّافلة بغير تبييتٍ، وذُكِر ذلك عن بعض الصَّحابة، وقد رُوي عَنِ ابْنِ مسعودٍ وأبي أيُّوبَ إجازته أيضًا، وذكره الطَّحاويُّ عن عثمان، وهو قول أبي حَنِيْفَةَ والثَّوريِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثورٍ، كلُّهم يجيز النِّيَّة في النَّافلة نهارًا محتجِّين بحديث سَلَمَةَ في الباب، وبحديث عائشةَ السَّالف.
          وجوَّزه الكوفيُّون بعد الزَّوال، وذهب مالكٌ وابنُ أبي ذئبٍ واللَّيثُ والمُزَنيُّ إلى إلحاقه بالفَرْض فلا بدَّ مِنَ التَّبييت، وهو مذهبُ ابن عمر وعائشةَ وحفصةَ، محتجِّين بحديثِ حفصةَ السَّالف: ((مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ)) ولم يفرِّق بين فَرْضٍ ونَفْلٍ، لكنَّ النصَّ السَّالف وهو حديثُ عائشةَ يدفعُه، وكذا قولُهم: الأعمال بالنِّيَّات، وكلُّ جزءٍ مِنَ النَّهارِ الإمساكُ عنه عملٌ فلا يصحُّ بغيرِ نيَّة يدفعه أيضًا.
          قالوا: وحديثُ سَلَمَةَ نَسَخ صومَ عاشوراءَ؛ فنُسخت شرائطُه؛ فلا يجوزُ ردُّ غيرِه إليه، قالوا أيضًا: وحديثُ عائشةَ رواه طَلْحَةُ بن يحيى واضطربَ في إسناده، فرواه عنه طائفةٌ عن مجاهدٍ عن عائشةَ، وروته طائفةٌ عنه عن عائشةَ بنت طَلْحَةَ، عنها، ومِنْهم مَنْ لا يقول فيه: إنِّي صائمٌ، وأيضًا هو محتملٌ فإنَّ قوله: إِنِّي صَائِمٌ إذنْ أي: إنِّي كما كنت، أو إنِّي بمنزلة الصَّائم، ويحتمل أن يكون عَزم على الفِطْر لعذرٍ وَجَدَهُ، فَلَمَّا قيل له: ليس عندنا شيءٌ تمَّم الصوم، وقال: إِنِّي صَائِمٌ كما كنت، وإذا احتمل ذلك لم تخصَّ الظَّواهر به، والجواب: أنَّ هذا الاضطراب ليس قادحًا وظاهره إنشاء الصَّوم، واحتجَّ الكوفيُّون بحديث سَلَمَةَ _حديث الباب_ وقالوا: هو حجَّةٌ لنا، وألحقوا النَّذر المعيَّن به أيضًا كما سلف، وأجاب المخالِف بمنع وجوب صومه، وأيضًا لم يرَوا بالقضاء بقولنا وسلَّمناه، فصومُه / إنَّما وجب في الوقت الَّذِي أمر به، وقد زال ذلك بزواله فحصلت النِّيَّة متقدِّمةً عليه، ولا يُقاس عليه.
          خاتمةٌ أُخْرَى: فِعلُ أبي الدَّرْداءِ ومَنْ مَعَهُ قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يحتمل أن يكون ليلًا، يعارضه قوله: ((يَوْمِي هَذَا)) إلَّا أنْ يُحمل على قرب اليوم، فيكون سؤالهم عن ذلك قربَ الفجر، ويحتمل أنْ يكونوا نَوَوه أوَّلًا ثمَّ سألوا عَنِ الطَّعَامِ، فَلَمَّا لم يجدوه آثروا إكمال صيامهم فقالوا: إنَّا صُيَّامٌ، أي: مستديمون مَا كنَّا عليه مِنَ الصِّيام.