التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من مات وعليه صوم

          ░42▒ بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ
          وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاَثُونَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ
          1952- ثُمَّ ذَكرَ حديثَ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ).
          وإسنادُه ثُمَانِيٌّ وهُوَ غَرِيْبٌ فِي «البُخَارِيِّ»، والَّذِي بَعْدَهُ سُباعِيٌّ، وشيخُه مُحَمَّدُ بنُ خالدٍ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بن يَحْيَى بنِ عبدِ اللهِ بنِ خالدِ بنِ فارسِ بنِ ذُؤَيْبٍ الذُّهْلِيُّ مولاهم النَّيْسَابُوْرِيُّ، مَاتَ بعدَ البُخَارِيِّ، وقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ ابنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو ورَوَاهُ يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ عَنِ ابنِ أَبِي جَعْفَرٍ.
          1953- وحَدِيْثُ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى). قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقَالَ الحَكَمُ وسَلَمَةُ: وَنَحْنُ جَمِيعًا جُلُوسٌ حِينَ حَدَّثَ مُسْلِمٌ بِهَذَا الحَدِيثِ، قَالَا: سَمِعْنَا مُجَاهِدًا، يَذْكُرُ هَذَا عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، ويُذْكَرُ عَنْ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنِ الحَكَمِ ومُسْلِمٍ البَطِينِ وسَلَمَةَ بنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ وعَطَاءٍ ومُجَاهِدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ.
          وقَالَ يَحْيَى وأَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ. وقَالَ عُبَيْدُ اللهِ: عَنْ زَيْدِ بنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنِ الحَكَمِ عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
          الشَّرْحُ: أَثَرُ الحَسَنِ غَرِيْبٌ وهُوَ فرعٌ لَيْسَ فِي مذهبِنا، وهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا لو استُؤجِرَ عَنْهُ بعدَ موتِه مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ عَنْ فَرْضِ استطاعتِه، وآخَرَ يَحُجُّ عَنْهُ عَنْ قَضَائِه، وآخَرَ عَنْ نَذْرِه فِي سنةٍ واحدةٍ فإنَّه يجوزُ.
          وحديثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، ومتابعةُ ابنِ وَهْبٍ رَوَاهَا مسلمٌ عَنْ هَارُونَ الأَيْلِيِّ وأحمدَ بنِ عِيْسَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وطريقُ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أَبِي جعفرٍ أخرجَها البَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيْثِ عَمْرِو بنِ الرَّبِيعِ بنِ طارقٍ عَنْ يَحْيَى بِهِ، ومُحَمَّدُ بنُ خالدٍ سَلَفَ، وما ذكَرْنَاهُ فِيْهِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عليٍّ الجَيَّانِيُّ عَنْ أَبِي نَصْرٍ والحاكمِ، واقتَصَرَ عَلَيْهِ الدِّمْيَاطِيُّ وغيرُه، ولَمْ يُصَرِّحِ البُخَارِيُّ باسمِه فِي شيءٍ مِنَ «الجامعِ». وقَالَ ابنُ عَدِيٍّ فِي «شيوخِ البُخَارِيِّ»: مُحَمَّدُ بنُ خالدِ بنِ جَبَلَةَ الرَّافِقِيُّ، وقَالَ ابنُ عساكرَ: قيلَ إنَّ البُخَارِيَّ رَوَى عَنْهُ، وقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «مُسْتَخْرَجِهِ» رَوَاهُ _يعني البُخَارِيَّ_ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ خالدِ بنِ خَلِيٍّ وهُوَ غريبٌ، وعُبَيْدُ اللهِ بنُ أَبِي جَعْفَرٍ المذكورُ فِي إسنادِه: هُوَ أَبُو بكرٍ المِصْرِيُّ أحدُ الأعلامِ. وقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أحمدَ عَنْ حديثِ عُبَيْدِ اللهِ هَذَا فذَكَرَ الحديثَ فقَالَ: لَيْسَ بمحفوظٍ وهَذَا مِنْ قَبِيلِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أَبِي جَعْفَرٍ هُوَ مُنْكَرُ الأحاديثِ، كَانَ فقيهًا، وأمَّا الحديثُ فَلَيْسَ فِيْهِ بذاكَ.
          وحَدِيْثُ ابنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وتَعْلِيْقُ أَبِي خَالِدٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الأَشَجِّ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الأحمرِ، ولِلتِّرْمِذِيِّ _وقَالَ: صحيحٌ_ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيْدٍ وأَبُو كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي خَالِدٍ بإسقاطِ الحَكَمِ وفيهِ: وعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وكَذَا لِلنَّسَائِيِّ، وقَالَ البُخَارِيُّ فِيْمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ فِي «عِلَلِهِ»: جَوَّدَهُ أَبُو خَالِدٍ واستحسنَه جِدًّا، قَالَ: ورَوَى بعضُ أصحابِ الأَعْمَشِ مثلَ مَا رَوَى أَبُو خَيْثَمَةَ.
          وتَعْلِيْقُ يَحْيَى وأَبِي مُعَاوِيَةَ أخرجَهما أَبُو دَاوُدَ فِي طريقِ ابنِ العَبْدِ وغيرِه عَنْ مُسَدِّدٍ عَنْ يَحْيَى _وهُوَ ابنُ سعيدٍ_ وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ العَلَاءِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ.
          وفِي حَدِيْثِ أَبِي بِشْرٍ عَنِ ابنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ: أنَّ امرأةً رَكِبَتِ البَحْرَ فَنَذَرَتْ إنْ نَجَّاهَا اللهُ أنْ تَصُومَ شهرًا، فَنَجَّاهَا اللهُ فَلَمْ تَصُمْ حَتَّى مَاتَتْ، فجَاءَتْ بِنتُهَا أو أُختُهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ.
          وتَعْلِيْقُ عُبَيْدِ اللهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيْثِ زَكَرِيَّا بنِ أَبِي زائدةَ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ بِهِ، وتَعْلِيْقُ أَبِي حَرِيْزٍ أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيْثِ الفُضَيْلِ عَنْهُ، وفِيْهِ: امرأةٌ مِنْ خَثْعَمٍ، وأَبُو حَرِيْزٍ: هُوَ قَاضِي سِجِسْتَانَ عبدُ اللهِ بنُ الحُسَينِ الأَزْدِيُّ مختَلَفٌ فِيْهِ، وُثِّقَ، وقَالَ ابنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ مَا يَروِيهِ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهِ أحدٌ، وجاءَ عَنْهُ أنَّه يُؤْمِنُ بالرَّجْعَةِ.
          وفي أفرادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيْثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ صلعم إذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّ أُمِّي كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُوْمُ عَنْهَا؟ قَالَ: ((صُومِي عَنْهَا)).
          إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فمَنْ مَاتَ / وعَلَيْهِ صومٌ فَاتَهُ بعُذْرٍ ولَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ فلَا تَدَارُكَ لَهُ ولَا إثمَ، وأبعدَ أَبُو يَحْيَى البَلْخِيُّ_فيما حَكَاهُ القَاضِي الحُسَينُ_ أنَّه تَجِبُ عَلَيْهِ الكَفَّارَةُ والحالةُ هَذِهِ، فإنْ فَاتَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ أو بِهِ وَتَمكَّنَ، فَفِي صَوْمِ الوَلِيِّ عَنْهُ قَوْلَانِ للعلماءِ:
          أحدُهما: يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ والحَسَنِ والزُّهْرِيِّ وقَتَادَةَ، وبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وأَهْلُ الظَّاهِرِ واحتَجُّوا بأحاديثِ البابِ، قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الحَكَمِ: ولَا أَرَى بأسًا بِهِ. وفِيْهِ قولٌ ثانٍ: أنَّه يَصُومُ عَنْهُ فِي النَّذْرِ خَاصَّةً ويُطْعِمُ عَنْهُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، وهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ واللَّيثِ وإِسْحَاقَ وأبي عُبَيْدٍ، وحَكَاهُ ابنُ قُدَامَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ وأَبِي ثَوْرٍ.
          والثَّانِي: لَا يَصُومُ أحدٌ عَنْ أحدٍ، وهُوَ قَوْلُ ابنِ عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ وعَائِشَة، وبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأَبُو حَنِيْفَةَ والشَافِعِيُّ فِي الجديدِ، وعَزَاهُ إِلَى الجمهورِ القَاضِي عِيَاَضٌ وابنُ قُدَامَةَ.
          وحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ لم يُخَالِفْ فِي فتواهُ مَا رَوَاهُ إلَّا لِنَسْخٍ عَلِمَهُ، لكنَّ العِبْرَةَ بِمَا رَوَاهُ عَلَى الأصحِّ، وكَذَلِكَ رَوَى عبدُ العَزِيْزِ بنُ رُفَيْعٍ عَنْ عَمْرَة عَنْ عَائِشَةَ أنَّها قَالَتْ: يُطْعَمُ عَنْهُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ ولَا يُصَامُ عَنْهُ، ولِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ: إنَّ معنى حديثَ ابنِ عَبَّاسٍ فِي النَّذْرِ دونَ القَضَاءِ مِنْ أجلِ فُتْيَا ابنِ عَبَّاسٍ، وقَدْ ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ فِي بعضِ طُرُقِهِ فِي البابِ، وقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي حديثِ عَائِشَةَ: معناهُ فِي النَّذْرِ.
          ومعنى الأحاديثِ: الأَوَّلُ: أنْ يَفْعَلَ عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا يقومُ مَقَامَ الصِّيَامِ وهُوَ الإطعامُ، وقَدْ جَاءَ مثلُ ذَلِكَ فِي قولِه ◙: ((الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ)) فسَمَّى التُّرَابَ _وهُوَ بَدَلٌ_ باسمِ مُبْدَلِهِ وهُوَ الوَضُوءُ، فيَصِيرُونَ كأنَّهم صَامُوا عَنْهُ، ولو جَازَ أنْ يَقضِ عَمَلَ البَدَنِ عَنْ ميِّتٍ قَدْ فَاتَهُ ذَلِكَ العملُ لقيلَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، والإجماعُ عَلَى خلافِه، كَمَا نَقَلَهُ أَبُو عُمَرَ وألزمَ بِهِ فِي الإيمانِ أَيْضًا، ولو سَاغَ لكانَ الشَّارِعُ فَعَلَهُ عَنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وقَامَ الإجماعُ عَلَى مَنعِه، وإِنَّمَا وَقَعَ الاختلافُ فِي الصَّومِ والحَجِّ، فيجبُ أن يُرَدَّ حكمُ مَا اختُلِفَ فِيْهِ إِلَى مَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ، ولَمَّا لم يَجُزِ الصِّيَامُ عَنِ الشَّيخِ الهَرِمِ فِي حياتِه كَانَ بعدَ وفاتِه أَولَى ألَّا يجوزَ.
          وذَهَبَ الْكُوْفِيُّوْنَ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ وأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أنَّه وَاجِبٌ أنْ يُطْعَمَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وإنْ لم يُوصِ، إلَّا أَبَا حنيفةَ فإنَّه قَالَ: يَسقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ بالموتِ، وقَالَ مَالِكٌ: الإطعامُ غيرُ واجبٍ عَلَى الوَرَثَةِ إلَّا أنْ يُوصَى بِهِ ففي ثُلُثِهِ، فإنْ قُلْتَ: مَنْ أوجبَ الإطعامَ فإنَّما هُوَ لتشبيهِه ◙ بالدَّينِ، قُلْتُ: هُوَ حُجَّةٌ لنا لِأَنَّهُ قَالَ: أَفَأَقضِيهِ عَنْهَا؟ ونحنُ نقولُ: قَضَاؤُهُ أنْ يُطْعِمَ عَنْ كلِّ يومٍ مِسْكِيْنًا.
          وأَمَّا حَدِيْثُ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوْعًا: ((مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، فَلْيُطْعِمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيْنًا)) فأَخْرَجَهُ ابنُ مَاجَهْ والتِّرمذيُّ وصَحَّحَ وَقْفَهُ عَلَى راوِيهِ، وقَالَ البَيْهَقِيُّ: ثَبَتَ بهذِهِ الأحاديثِ جوازُ الصَّومِ عَنِ الميِّتِ، وكَانَ الشَّافعيُّ فِي القديمِ قَالَ: رُوِيَ فِي الصَّومِ عَنِ الميِّتِ شيءٌ فإنْ كَانَ ثابتًا صِيْمَ عَنْهُ كَمَا يُحَجُّ عَنْهُ، وأمَّا فِي الجديدِ فإنَّه سَأَلَ عَنْ نفسِهِ فقَالَ: فإنْ قيلَ فَرُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ صلعم نهى أَنْ يَصُومَ عَنْ أحدٍ، قيلَ: نَعَمْ، رواهُ ابنُ عَبَّاسٍ، فإنْ قيلَ: لم لا نأخُذُ بِهِ، قيلَ: حديثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ نَذْرًا، ولَمْ يُسَمِّهِ مَعَ حفظِ الزُّهْرِيِّ وطُولِ مُجَالَسَتِهِ عُبَيدَ اللهِ أشبَهُ ألَّا يكونَ مَحْفُوْظًا، يَعْنِي: حديثَ عُبَيدِ اللهِ المُخَرَّجِ عندَ البُخَارِيِّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ استَفتَى رَسُولَ اللهِ صلعم فقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وعَلَيْهَا نَذْرٌ فقَالَ: ((اقْضِهِ عَنْهَا)).
          ووَقَعَ فِي روايةِ ابنِ جُبَيْرٍ: أنَّ امرَأةً سَأَلَتْ، فالأَشَبهُ أَنْ تَكُوْنَ هَذِهِ القِصَّةُ الَّتِي وَقَعَ السُّؤالُ فِيْهَا عَنِ الصَّومِ نَصًّا غيرَ قِصَّةِ سَعْدٍ الَّتِي فِيْهَا النَّذْرُ مطلقًا، كيفَ وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا النَّصُّ فِي جوازِ الصَّومِ عَنِ الميِّتِ؟ وقَدْ رَأَيْتُ بعضَ أصحابِنا يُضَعِّفُ حديثَ ابنِ عَبَّاسٍ بِمَا رَوَى _يعني النَّسَائِيَّ_ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الأَعْلَى بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه قَالَ: لَا يَصُومُ أحدٌ عَنْ أحدٍ ويُطْعِمُ عَنْهُ. وبِمَا رُوِّيْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ ثَوْبَانَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ فِي الإطعامِ عَمَّنْ مَاتَ وعَلَيْهِ صومُ شهرِ رَمَضَانَ وصِيَامُ نَذْرٍ. وفي روايةِ مَيْمُونِ بنِ مِهْرانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ وأبي حُصَيْنٍ عَنِ ابنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ أنَّه قَالَ فِي صيامِ رمضانَ: أَطْعِمْ، وفي النَّذْرِ: قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ.
          وروايةُ مَيْمُوْنٍ وسَعِيدٍ تُوَافِقُ الرِّوايةَ عَنْهُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صلعم فِي النَّذْرِ، إلَّا أنَّ الرِّوَايَتَينِ الأُوْلَتَينِ تُخَالِفَانِهَا، ورأيتُ بعضَهم ضَعَّفَ حديثَ عَائِشَةَ أي الَّذِي فِي البابِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَارَةَ بنِ عُمَيْرٍ، عَنِ امرأةٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي امرأةٍ مَاتَتْ وعَلَيْهَا الصَّومُ، قَالَتْ: يُطْعَمُ عَنْها، ورُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخرَ عَنْ عَائِشَةَ أنَّها قَالَتْ: لَا تَصُومُوا عَنْ مَوْتَاكُمْ وأَطْعِمُوا عَنْهم، وفيما رُوِيَ عَنْهَا فِي النَّهيِ عَنِ الصَّومِ عَنِ الميِّتِ نَظَرٌ، والأحاديثُ المرفوعةُ أصحُّ إسنادًا وأشهرُ رجالًا، وقَدْ أودَعَها صَاحِبَا «الصَّحيحِ» كتابَيهما، ولو وَقَفَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جميعِ طُرُقِها وتَظَاهُرِهَا لم يُخَالِفْهَا، ومِمَّنْ رَأَى جَوَازَ الصِّيَامِ عَنْهُ الحَسَنُ وغيرُه كَمَا سَلَفَ.
          قُلْتُ: وحديثُ الإطعامِ لَا يُقَاوِمُ هَذِهِ الأحاديثَ، وعلى تقديرِهِ يُحْمَلُ عَلَى الجَوازِ أَيْضًا، والوَلِيُّ: كلُّ قريبٍ _عَلَى المُختَارِ_ سواءٌ كَانَ وارثًا أو عَصَبَةً أو غيرَهما عَلَى الأصحِّ، ولو صَامَ عَنْهُ أجنبيٌّ بإذنِ الوليِّ صَحَّ لَا مُستَقِلًّا فِي الأصحِّ، وعَنِ الأَوْزَاعِيِّ والثَّورِيِّ قولٌ آخَرُ: إِنَّه يُطْعِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فإنْ لم يَجِدْ صَامَ، وحَكَى ابنُ حَزْمٍ الاتِّفَاقَ عَلَى أنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غيرِه يُصَلِّي ركعتَيِ الطَّوَافِ عَنْهُ، قُلْتُ: وصَحَّحَ أصحابُنا أنَّها تَقَعُ عَنِ الميِّتِ، لكنْ عَلَى سبيلِ التَّبَعِيَّةِ، وقَدْ أسلَفْنَا الإجماعَ فِي الصَّلَاةِ، وهُوَ مَا نَقَلَهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ حَيْثُ قَالَ: أجمعَ المسلمُونَ أنَّه لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ / فرضًا عَلَيْهِ ولَا نفْلًا فِي حياتِهِ ولَا موتِهِ، وقَالَ ابنُ يُونُسَ _مِنْ أَصْحَابِنَا_ لَمَّا فَرَّعَ عَلَى القديمِ: إِنَّه يُصَامُ عَنْهُ، وقِيْلَ: إنَّه يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَيْضًا قَضَاءُ الصَّلاةِ والاعتكافِ، وهُوَ مذهبُ أحمدَ فِي الصَّلاةِ النَّافِلَةِ، حَكَاهُ غيرُ واحدٍ مِنْ أصحابِه، قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: وأجمعُوا عَلَى أنَّه لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فِي حياتِه وإِنَّمَا الخِلافُ بعدَ موتِهِ.
          تَنْبِيْهَاتٌ: أَحَدُهَا: إنَّما لم يَقُلْ بِحَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسٍ لأمورٍ ذَكَرَهَا القُرْطُبِيُّ:
          أنَّ عَمَلَ أهلِ المدينةِ لَيْسَ عَلَيْهِ. ثَانِيْهَا: أنَّه حديثٌ اختُلِفَ فِي إسنادِه ومَتنِه، قُلْتُ: لَا يَضُرُّه فإنَّ مَنْ أَسْنَدَهُ أئمَّة ثِقَاتٌ. ثَالِثُهَا: أنَّه رَوَاهُ أَبُو بكرٍ البَزَّارُ، وقَالَ فِي آخرِه: ((لِمَنْ شَاءَ))، وهَذَا يرفعُ الوُجُوبَ الَّذِي قَالُوا بِهِ. قُلْتُ: هَذِهِ زيادةٌ أخرجَها مِنْ طريقِ ابنِ لَهِيْعَةَ ويَحْيَى بنِ أَيُّوبَ، وحالُهما معلومٌ. رَابِعُهَا: أنَّه مُعَارِض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164]. وقولِه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. وقولِه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجم:39]، قُلْتُ: هَذِهِ والَّتي قبلَها فِي قومِ إِبْرَاهِيْمَ ومُوْسَى بدليلِ مَا قبلَهما. خَامِسُهَا: أنَّه مُعَارِضٌ لما خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوْعًا: ((لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ))، قُلْتُ: مَا فِي «الصَّحيح» هُوَ العمدةُ وقَدْ سَلَفَ فِي رأيهِ: أنَّ العِبرَةَ بِمَا رَوَاهُ، أي: صحيحًا لَا بمَا رَآهُ. سَادِسُهَا: أنَّه مُعَارِضٌ للقياسِ الجَلِيِّ، وهُوَ أنَّه عبادةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلا مَدْخَلَ للمَالِ فِيْهَا، ولَا يُفْعَلُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كالصَّلَاةِ ولَا يُنْقَضُ هَذَا بالحَجِّ؛ لأنَّ للمَالِ فِيْهِ مَدْخَلًا.
          ثَانِيْهَا: قولُه: ((لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ)) مُشْعِرٌ بأنَّ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ لِمَنْ طَابَتْ بِهِ نفسُه؛ لِأَنَّهُ لَا يجبُ عَلَى وليِّ المَيِّتِ أنْ يُؤَدِّيَ مِنْ مالِه عَنِ المَيِّتِ دَيْنًا بالاتِّفَاقِ، ولكنْ مَنْ تَبَرَّعَ بِهِ انتَفَعَ بِهِ المَيِّتُ وبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، ويمكنُ أنْ يُقَالَ: إنَّ مقصودَ الشَّرعِ أنَّ وَلِيَّ المَيِّتِ إِذَا عَمِلَ العَمَلَ بنفسِه مِنْ صومٍ أو حجٍّ أو غيرِه فصَيَّرَه للمَيَّتِ انتَفَعَ بِهِ المَيِّتُ ووَصَلَ إِلَيْهِ ثَوَابُه، وذَلِكَ أنَّه ◙ شَبَّهَ قضاءَ الصَّومِ بقضاءِ الدَّينِ عَنْهُ.
          ثَالِثُهَا: قَالَ ابنُ قُدَامَةَ: إذا مَاتَ قبلَ إمكانِ الصِّيَامِ إمَّا لضيقِ الوقتِ أو لعُذْرٍ شَرْعِيٍّ فلا شيءَ عَلَيْهِ فِي قولِ أكثرِ أهلِ العِلْمِ، وعَنْ طَاوُسٍ وقَتَادَةَ: يَجِبُ الإطعامُ عَنْهُ، وهُوَ نظيرُ مقالةِ أبي يَحْيَى البَلْخِيِّ السَّالِفَةِ.
          رَابِعُهَا: فِيْهِ صِحَّةُ القياسِ وقضاءِ الدَّينِ عَنِ الميِّتِ وقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، فلو اجتَمَعَ دَيْنُ اللهِ ودَيْنُ الآدَمِيِّ قُدِّمَ دَيْنُ اللهِ عَلَى أصحِّ الأَقْوالِ لِقَوْلِهِ: (فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ) ثَانِيْهَا: يُقَدَّمُ دَيْنُ الآدَمِيِّ، ثَالِثُهَا: يُقَسَّمُ بينهما.
          خَامِسُهَا: أغربَ ابنُ حَزْمٍ فقَالَ: مَنْ مَاتَ وعَلَيْهِ صومُ فرضٍ مِنْ قضاءِ رَمَضَانَ أو نَذْرٍ أو كَفَّارَةٍ واجبةٍ فَفَرْضٌ عَلَى أوليائِه أنْ يَصُومُوه عَنْهُ هُمْ أو بعضُهم ولَا إطعامَ فِي ذَلِكَ أصلًا، أَوصَى بِذَلِكَ أو لم يُوْصِ بِهِ ويبدأُ بِهِ عَلَى دُيُونِ النَّاس.
          سَادِسُهَا: فِي الحَدِيْثِ: (إِنَّ أُمِّي عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ)، وفي الأُخْرَى: (صَوْمُ نَذْرٍ)، وفي أُخْرَى: (إِنَّ أُخْتِي) وليسَ اضطرابًا خَلَافَ قولِ عبدِ المَلِكِ: إنَّه اضطرابٌ عظيمٌ يَدُلُّ عَلَى وَهْمِ الرُّوَاةِ وبِدُونِهِ يُعَلُّ الحديثُ، ولَقَدْ أَصَابَ الدَّاوُدِيُّ فقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُضَعِّفُهُ، وقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ هَؤُلَاءِ كلُّهم سَأَلُوهُ، ورُوِيَ فِي بعضِ الأوقاتِ عَنْ بعضِهم وفي بعضِها عَنِ الآخَرِينَ، قَالَ: وَلَعَلَّ مالكًا لم يَبْلُغْهُ هَذَا الحديثَ أو ضَعَّفَهُ لِمَا فِي سَنَدِهِ مِنَ الخِلَافِ.