التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الريان للصائمين

          ░4▒ بَابٌ: الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ.
          1896- ذَكَرَ فيه حديثَ سهلٍ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، فَلاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ).
          1897- وحديثَ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبي هُريرةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: (مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ...) الحديث.
          الشَّرْحُ: حديث سهلٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وفي روايةٍ للبُخَارِيِّ: ((فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، فيها بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لاَ يَدْخُل مِنْهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ)).
          وحديث أبي هُريرةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، ولابنِ زَنْجَوَيْهِ في الأوَّل: ((فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَيَشْرَبُونَ مِنْهُ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا)) وفي رواية لأبي موسى الْمَدينيِّ في «ترغيبه»: ((مَنْ دَخلَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا)) قَالَ أبو موسى: وفي الباب عَنِ ابْنِ مسعودٍ، وزعم الدَّارَقُطنيُّ أنَّ منبِّه بنَ عثمانَ رواه عن خُلَيد / عن قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ المسيِّبِ، عن أبي هُريرةَ وقال: غريبٌ تفرَّد به منبِّه عن خُلَيدٍ.
          وأخرجه ابنُ حِبَّانَ مِنْ حديث أبي صالحٍ عنه: ((سَأَلَ النَّاسُ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟)) وَفيه: ((فَإِذَا جَاوَزَ الْجِسْرَ فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجًا مِنَ الْمَالِ مِمَّا يَمْلِكُه فِي سَبِيلِ اللهِ _تعالى_ فَكُلُّ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ تَدَعُوهُ: يَا عَبْدَ اللهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا خَيْرٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ذلك عَبْدٌ لَا تَوَى عليه يَدَعُ بَابًا وَيَلِجُ مِنْ آخَرَ...)) الحديث، وفي مسلمٍ: ((أَيْ فُلُ هَلُمَّ)).
          ولأبي عمرَ مِنْ حديث مالكٍ، عن صفوانَ بنِ سُلَيمٍ، عن عَطاءِ بنِ يَسارٍ عنه: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يُنْفِقُ زَوْجَيْنِ مِنْ مَالِهِ إِلَّا دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ)) وقال: لا يصحُّ هذا الإسناد عن مالكٍ، ومحمَّد بن عبد الله وأبوه متَّهمان بوضع الأحاديث والأسانيد، قال: وأكثر الرُّواة على وصل هذا الحديث _يعني حديث الباب_ إلَّا يحيى بنَ بُكَيْرٍ فإنَّه أرسله عن حُمَيْدٍ، عن النَّبيِّ _صلعم_ وكذا رواه التِّنِّيسيُّ عن مالكٍ، وقد أسنده جِلَّةٌ عن مالكٍ، وليس هو عندَ القَعْنَبِيِّ لا مسندًا ولا مرسلًا. قلتُ: قد ذَكَرَ الدَّارَقُطْنيُّ في كتاب «الموطَّآت» أن القَعْنَبيَّ رواه كما رواه أبو مصعبٍ ومعنٌ وغيرهما مسندًا، والله أعلم.
          وفي «صفة الجنَّة» لأبي نُعَيم الحافظ مِنْ حديث عبد الرَّحمن بن يزيد، عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: ((لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ سَبْعَةٌ مُغْلَقَةٌ وَبَابٌ مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبها)).
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: (الرَّيَّانُ): فَعْلَانُ مِنَ الرِّيِّ_بالكسر_ الذي هو نقيض العطش، وسمِّي بذلك لأنَّه جزاء الصَّائمين على عطشهم وجوعهم، واكتفى بذكر الرِّيِّ عن الشِّبَع؛ لأنَّه يدلُّ عليه مِنْ حيثُ إنَّه يستلزمه.
          وأُفرِد لهم هذا البابُ ليسرعوا إلى الرِّيِّ مِنْ عطش الصِّيام في الدُّنيا إكرامًا لهم واختصاصًا؛ و ليكونَ دخولُهم في الجنَّة هيِّنًا غيرَ متزاحَمٍ عليهم عند أبوابها، فإنَّ الزِّحام قد يؤدِّي إلى نوعٍ مِنَ العطش، كما خصَّ رسولُ الله _صلعم_ أبا بكر الصِّدِّيق ببابٍ في المسجد يقرُب مِنْه خروجُه إلى الصَّلاة فلا يزاحمُه أحدٌ، وأغلق سائرَها إكرامًا له وتفضيلًا، وفي «مسنَد البزَّار» مِنْ حديثِ الوليدِ بن رَباحِ بنِ عبد الله، عن أبي هُريرةَ مرفوعًا أنَّ لهم حوضًا لا يَرِدُه غيرهم _يعني الصُّوَّامَ_ ثم قال: لا نعلمُه رواه عن أبي هُريرةَ إلَّا الوليدُ، قلتُ: قد رواه المُطَّلِب بنُ عبدِ الله عنه أيضًا، ذَكَرَه ابن أبي عَاصِمٍ في كتاب «الصَّوم» حيثُ قال: وللصُّوَّام حوضٌ لا يَرِدُه غيرُهم، ثم ساقه.
          ثانيها: معنى (دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ) أي: المكثر مِنْ صلاة التَّطوُّع، وكذا غيرُها مِنْ أعمال البِرِّ، لأنَّ الواجبات لا بدَّ مِنْهَا لجميع المسلمين، ومَنْ ترك شيئًا مِنَ الواجبات إنَّما يُخاف عليه أن يُدعى مِنْ أبواب جهنَّم، وأمَّا أسماء هذه الأبواب ففي «نوادر الأصول» للحكيم التِّرمِذيِّ: مِنْ أبوابِ الجنَّة باب محمَّد _صلعم_ وهو باب الرَّحمة، وهو باب التَّوبة، وهو منذ خلقه الله _تعالى_ مفتوحٌ لا يُغلق، فإذا طلعت الشَّمس مِنْ مغرِبها أُغلق فلم يفتح إلى يوم القيامة.
          رُوي عَنِ ابْنِ مسعودٍ أنَّه سأله رجلٌ عن ذنبٍ ألمَّ به هل له فيه توبةٌ؟ فأعرضَ عنه ابنُ مسعودٍ ثمَّ التفتَ فرأى عينيه تَذْرِفان فقال: إنَّ للجنَّة ثمانيةَ أبوابٍ كلُّها تُفتَح وتُغلَق، إلَّا بابَ التَّوبة، فإنَّ عليه مَلَكًا موكَّلًا به لا يُغلق، فاعملْ ولا تَيْئَس، ذَكَرَه ابنُ بطَّال، ووجهُ الاتِّفاق في ذلك مَا يَتقوَّى به على طاعة الله _تعالى_ ويَتحلَّل مِنَ المحارم الَّتِي سلفت مِنْه ويؤدِّي المظالم إلى أهلها، وسائرُ الأبواب مقسومةٌ على أعمال البرِّ: باب الزَّكَاة، العُمرة، الحجِّ، الصِّلة، وعند القاضي عِياضٍ: بابُ الكاظمين الغيظَ، باب الرَّاضين، الباب الأيمن الَّذِي يدخل مِنْه مَنْ لا حسابَ عليه، وفي كتاب «الصَّوم» لابن أبي عَاصِمٍ بإسنادٍ جيَّدٍ عن أبي هُريرةَ مرفوعًا: ((لِكُلِّ عَمَلٍ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُدْعَوْنَ مِنْهُ بِذلك الْعَمَلِ)) وذَكَرَه ابنُ أبي شيبة في «مصنَّفه» بإسنادٍ صحيحٍ على شرط مسلمٍ.
          وفي «كتاب الآجُرِّيِّ» عن أبي هُريرةَ مرفوعًا: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الضُّحَى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ينادي مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يدومون على صَلَاةِ الضُّحَى؟ هَذَا بَابُكُمْ فَادْخُلُوا)) وفي «الفردوس» عَنِ ابْنِ عبَّاس مرفوعًا: ((لِلْجَنَّةِ بَابٌ يُقَالُ لَهُ: الفَرَحِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَّا بِفَرحِ الصِّبْيانِ)) وفي «التَّحبير» للقُشَيْريِّ عن رسول الله _صلعم_: ((الخُلُق الحسن طَوْقٌ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ فِي عُنُقِ صَاحِبِهِ، وَالطَّوقُ مَشْدُودٌ إلى سِلْسِلَةٍ مِنَ الرَّحمةِ، وَالسِّلْسِلَةُ مَشْدُودَةٌ إلى حَلْقَةٍ مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ، حَيْثُمَا ذَهَبَ الْخُلُقُ الْحَسَنُ جَرَّتْهُ السِّلْسِلَةُ إلى نَفْسِهَا حتَّى تُدْخِلَهُ مِنْ ذلك الْبَابِ إلى الْجَنَّةِ)).
          وعند الحافظ أبي عيسى التِّرمذيِّ بابُ الذِّكر، وذَكَرَ البراءُ في كتاب «الرَّوضة» عن أحمدَ بن حنبلٍ، حدَّثنا رَوحٌ حدَّثنا أَشْعثُ، عَنِ الْحَسَنِ قال: إنَّ لله بابًا في الجنَّة لا يدخلُه إلَّا مَنْ عفا عن مَظْلَمة، فقال لابنه: يا بنيَّ مَا خرجتُ مِنْ دار أبي إسحاقَ حتَّى أحللتُه ومَنْ معه إلَّا رجُلين: ابنَ أبي دُؤادٍ وعبدَ الرَّحمن بن إسحاقَ، فإنَّهما طلبا دمي وأنا أَهْوَنُ على الله مِنْ أن يُعذَّب فيَّ أحدٌ، أُشْهِدُك أنَّهما في حِلٍّ.
          ومِنْها باب الحافظين فروجَهم والحافظات، المستغْنين بالحلال عن الحرام، غير المتَّبعين للشَّهوات، ذَكَرَه ابن بطَّالٍ حيث قال: أبواب الجنَّة ثمانيةٌ، وذَكَرَ مِنْهَا في الحديث أربعة، فمِنَ الأربعة الباقية: باب الكاظمين الغيظَ والعافين عن النَّاس، ثمَّ ساق حديثَ الحَسنِ وبابِ التَّوبة، ويمكن أن يكون مِنَ الثَّلاثة الباقية باب المتوكِّلين الَّذِين يدخلون الجنَّة في سبعين ألفًا مِنْ بابٍ واحدٍ، لا يدخلُ أوَّلُهم حتَّى يدخلَ آخرُهم، ووجوهُهم كالبدر، الَّذِين / لا يَسْتَرْقُون ولا يَكْتَوُون ولا يتطيَّرون وعلى ربِّهم يتوكَّلون.
          ووجهُ الإنفاق في ذلك أنَّهم ينفقون على أنفسهم في حال المرض المانع لهم مِنَ التصرُّف في طلبِ المعاش، صابرين على مَا أصابهم، ويُنفقون على مَنْ أصابه ذلك البلاءُ مِنْ غيرهم، ومِنْها باب الصَّابرين لله على المصائب، المحتسبين الَّذِين يقولون عند نزولها: {إِنَّا لِلَّهِ} الآية [البقرة:156] ومِنْها باب الحافظين السَّالف، ووجه الإنفاق في ذلك الصَّداق، والوليمة، والإطعام، حتَّى اللُّقمةُ يضعُها في في امرأته، والله _تعالى_ أعلم بحقيقة الثَّلاثة الأبوابٍ.
          وفي «صحيح مسلمٍ» و«جامع التِّرمِذيِّ» واللَّفظُ له مِنْ حديث عمرَ مرفوعًا: ((مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صادقًا مِنْ قلبه، فُتِحَ لَهُ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ))، ولم يذكر مسلمٌ لفظة: ((مِنْ)) وقال: ((فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ)) قَالَ أبو عمر في «تمهيده» كذا قال: ((مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ)) وذَكَرَه أبو داود والنَّسَائِيُّ: ((فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ)) ليس فيها ذكر (مِنْ)، والمؤمن لا يدخل إلَّا مِنْ بابٍ واحدٍ، ونداؤه مِنْهَا كلِّها على سبيل الإكرام.
          ثالثها: معنى قوله: (زَوْجَيْنِ) أي شيئين، كدينارين أو درهمين أو ثوبين وشبه ذلك، وقيل: دينارٌ وثوب، أو درهمٌ ودينار، أو ثوبٌ مع غيره، أو صلاةٌ مع صوم، فيَشْفَع الصَّدقة بأُخْرَى أو فضلَ خيرٍ بغيره.
          قال الدَّاوُدِيُّ: والزَّوج هنا الفردُ، يقال للواحد: زوجٌ، وللاثنين: زوجٌ، قَالَ _تعالى_: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم:45] وصوابه: للاثنين زوجان، تدلُّ عليه الآية، وروى حمَّاد بن سَلَمَةَ، عن يونُسَ بن عُبَيدٍ وحُمَيْدٍ، عَنِ الحَسَنِ، عن صَعْصَعَةَ بن معاويةَ، عن أبي ذَرٍّ أنَّ النَّبيَّ _صلعم_ قال: ((مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ ابْتَدَرَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ)) ثمَّ قال: ((بعيرَين شاتَين، حمارَين، درهم)) قَالَ حمَّاد: وأحسبه قَالَ: ((خفَّين))، وللنَّسائيِّ: ((فَرَسَانِ مِنْ خَيْلِهِ، يعني: بَعِيرَانِ مِنْ إِبِلِهِ))، ورُوي عن صَعْصَعَةَ قال: رأيتُ أبا ذَرٍّ بالرَّبَذةِ وهو يسوق بعيرًا له عليه مَزَادتانِ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ _صلعم_ يقول: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا اسْتَقْبَلَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ، كُلُّهُمْ يَدْعُوهُ إلى مَا عِنْدَهُ، قلت: زوجين ماذا؟ قَالَ: إِنْ كَانَ صَاحِبَ خَيْلٍ فَفَرَسَيْنِ، وإِنْ كَانَ صَاحِبَ إِبِلٍ فَبَعِيرَيْنِ، وإِنْ كَانَ صَاحِبَ بَقَرٍ فَبَقَرَتَيْنِ، حتَّى عَدَّ أَصْنَافَ الْمَال)).
          وشبيهٌ بهذا حديثُ الحِمَّانيِّ عن مباركِ بن سعيدٍ عن أبي الْمُحَبَّرِ يرفعه: ((مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ خَالتَيْنِ أَوْ عَمَّتَيْنِ أَوْ جَدَّتَيْنِ فَهُوَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ)) لا يقال: إنَّ النَّفقة إنَّما تَسُوغ في الجهاد والصَّدقة، فكيف تكون في باب الصَّلاة والصِّيام، لأنَّهما أفعالٌ جسميَّة؛ لأنَّ معنى زَوجين أراد نفسَه ومالَه، والعربُ تسمِّي مَا يَبْذُله الإنسانُ مِنْ نفسِه واجتهادِه نفقةً، فيقول أحدُهم فيما تعلَّم مِنَ العِلم أو صنَعَه مِنْ سائر الأعمال: أنفقتُ في هذا عمري، وبذلتُ فيه نفسي، فتكونُ النَّفقةُ على هذا الوجهِ في باب الصَّلاة والصِّيام مِنَ الجسم بإِتعابِه، لا يقال: كيف تكون النَّفقةُ في ذلك زوجين؟ وإنَّما نجد الفعلَ في هذا البابِ نفقةَ الجسم لا غيرُ؛ لأنَّ نفقة المال مقترنةٌ بنفقةِ الجِسم في ذلك؛ لأنَّه لا بدَّ للمصلِّي وللصَّائم مِنْ قُوتٍ يقيم به رَمَقَه، وثوبٍ يسترُه، وذلك مِنْ فُروضِ الصَّلاة، ويستعينُ بذلك على الطَّاعة، فقد صار منفقًا لزَوجين لنفسِه ومالِه.
          وقد تكون النَّفقةُ في باب الصَّلاة أن يبنيَ مسجدًا لله للمصلِّين بدِلالةِ قوله: ((مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) والنَّفقة في الصِّيام إذا فطَّر صائمًا وأنفقَ عليه يَبتغي وجه الله بدِلالة قوله _◙_: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فكأنَّما صَامَ يَوْمًا)) ويعضُدُه قوله _تعالى_: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] فجعل الإطعام له عوضًا مِنْ صيام يومٍ، فإن قلتَ: إذا جاز تسميةُ استعمالِ الجسم في الطَّاعة نفقةً، فيجوزُ أن يدخلَ في معنى الحديث: ((مَنْ أَنْفَقَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاسْتُشْهِدَ وأَنْفقَ كَريمَ مَالِهِ)) فالجواب: نعم، وهو أعظم أجرًا مِنَ الأوَّل، يوضحُه مَا رواه سفيانُ عن الأعمشِ عن أبي سفيانَ عن جابرٍ قال: قَالَ رجلٌ: يا رسول الله أيُّ الجهادِ أفضَلُ؟ قال: ((أَنْ يُعْقَرَ جَوَادُكَ وَيُهَرَاقَ دَمُكَ)) لا يقال: دخل في ذلك صائمُ رمضانَ، أو المزكِّي لمالِه ومؤدِّي الفرائض؛ لأنَّ المراد النَّوافلُ وملازمتُها، والتَّكرير مِنْها، فذلك الَّذِي يستحقُّ أن يُدعى مِنْ أبوابها، و(سَبِيلِ اللهِ): سبلُ الخيرِ كلُّها، وقول الملَك: (هَذَا خَيْرٌ) في كلِّ بابٍ، يعني: ثوابًا وغبطةً فيه؛ لا أنَّه قاله على طريق التَّفاضل بين الأبواب.
          رابعها: قوله: (هَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا، قَالَ: نَعَمْ) يريد أنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أهل الصَّلاة والجهاد والصِّيام والصَّدقة يُدعى مِنْهَا كلِّها، فلا ضرورةَ عليه في دخوله مِنْ أيِّ بابٍ شاء، لاستحالة دخوله مِنْهَا كلِّها معًا، ولا يصحُّ دخولُه إلَّا مِنْ بابٍ واحدٍ، ونداؤه مِنْهَا كلِّها إنَّما هو على سبيل الإكرام والتَّخيير له في الدُّخول مِنْ أيِّها شاء، كما أسلفناه.
          خامسها: قوله: (وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) الرَّجاء مِنَ النَّبيِّ _صلعم_ واجبٌ، نبَّه عليه ابنُ التِّيْنِ، وقاله غيرُه أيضًا: والصِّدِّيق مِنْ أهل هذه الأعمال كلِّها.
          سادسها: فيه أنَّ أعمالَ البرِّ كلَّها يجوز أن يقالَ فيها: سُبُلُ الله، ولا يُخَصُّ ذلك بالجهاد وحدَه، وَفيه: أنَّ أعمال البرِّ لا تُفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وأنَّ مَنْ فُتح له في شيءٍ مِنْهَا حُرِم غيرَها في الأغلب، وأنَّه قد يُفتح في جميعها للقليل مِنَ النَّاس، وأنَّ / الصِّدِّيق مِنْهم، وَفيه أنَّ مَنْ أكثر مِنْ شيءٍ عُرف به ونُسب إليه.
          وقد أرسل عبدُ الله بنُ عمرَ العُمَريُّ العابدُ إلى مالكٍ يحضُّه على الانفراد، وتركِ الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالكٌ: إنَّ الله _╡_ قَسَمَ الأعمالَ كما قَسَمَ الأرزاقَ، فربَّ رجلٍ يُفتح له في باب الصَّلاة، ولم يُفتح له في الصَّوم، وآخرَ يُفتح له في باب الصَّدقة، ولم يُفتح له في الصِّيام، ونشرُ العلمِ وتعليمُه مِنْ أفضل أعمال البرِّ، وقد رضيتُ بما فُتح لي مِنْ ذلك، وما أظنُّ مَا أنا فيه بدونِ مَا أنت فيه، وأرجو أن يكون كلٌّ منَّا على خيرٍ، ويجبُ على كلِّ أحدٍ أن يرضى بما فُتح له، والسَّلام.